الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(146) تكملة قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ..} الآية:187
تاريخ النشر: ٢٤ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 1057
مرات الإستماع: 1613

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلازال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [سورة البقرة:187]، فقوله -تبارك وتعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ علم الله -تبارك وتعالى- ذلك بمعنى أن بعضهم لربما أكل أو شرب بعد النوم أو جامع ليلة الصيام، وقد عرفنا قبل بأنه كان يحرم ليلة الصوم الجماع ويحرم الأكل أو الشرب إذا نام بعد العشاء أو إذا نام قبل العشاء فإنه يُمسك إلى اليوم الآخر، قلَّ صبرهم، وحصل من بعضهم التجاوز لمثل هذا.

وهذا الذي أشار إليه قوله -تبارك وتعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ، علم الله، فالله -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه خافية، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر:19]، فخائنة الأعين يدخل فيها مسارقة النظر إلى الحرام مع الإخفاء؛ لئلا يشعر به أحد وهو ينظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى، فكيف بالنظر الذي يكون مكاشرة يُظهره الإنسان أمام الآخرين، وذلك وإن كان يدخل في جملة خائنة الأعين إلا أن المعنى الأول أخفى وأدق، فكل ذلك يعلمه الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه، ويعلم ما هو أخفى من هذا، وهو ما تخفي الصدور، أي: إذا كان ربنا -تبارك وتعالى- يعلم ذلك كله فينبغي أن يكون التعامل معه في غاية الحذر، وأن يكون العبد رقيبًا على فعله وتصرفاته وحركات نفسه، فإن الله -تبارك وتعالى- يعلم ما تكنه الصدور، وما يبدُر عن العبد من ألوان التصرفات.

وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [سورة البقرة:284] بعض أهل العلم قال: إن هذه الآية منسوخة، والأرجح أنها ليست بمنسوخة، وإنما يكون ذلك فيما يكون فيه الحساب من الإيمان والكفر والنفاق والرياء والمقاصد الفاسدة، فكل ذلك داخل في هذا المعنى ما يخفيه الإنسان وما يبديه، فالله يعلم تحول النيات وتقلب الأفئدة، ويحاسب العباد على ذلك كله.

فإذا أراد العبد أن ينظر أو أن يتكلم أو أن يكتب أو أن يمشي أو أن يفعل فعلاً من الأفعال التي قد تكون في ظاهرها مما يحبه الله ويرضاه أو كانت من مساخطه فينبغي أن يحاسب نفسه قبل ذلك، هذا الفعل الذي يحبه الله هل النية فيه صالحة، أو أن الإنسان يريد بذلك المحمدة وتعزيز الذات كما يقال، قد يكتب مقالاً جميلاً ينصر فيه الإسلام والسنة ولكن قصده قد يكون فاسدًا، فيكون هذا المقال وزرًا عليه وحسرة يوم القيامة، الأمر ليس بالسهل، فيحتاج العبد إلى مراقبة لله -تبارك وتعالى.

عَلِمَ اللَّهُ، وأظهر لفظ الله الجلالة هنا، لم يكتفِ بالضمير عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ وجاء بـ"أن"، وعبَّر هنا بلفظ الخيانة تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ، فسمى ذلك خيانة وأضافه إلى النفس، فحينما يفعل الإنسان المعصية أو يسارق النظر إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى، أو يتعاطى شيئًا من المنكرات فينبغي أن يدرك أن ذلك هو خيانة لنفسه، تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ، وأن ذلك لا يضر الله شيئًا، ولا يمكن للإنسان أن يخفي عن ربه -تبارك وتعالى- تلك الجنايات التي قد تخفى على الخلق فيثنون عليه ويطرونه ويحبونه؛ لأنهم يرون ظاهره والله يرى باطنه وظاهره على حد سواء، فهنا سمى ذلك خيانة، فدل ذلك على أن العبد قد يخون نفسه.

إذن: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [سورة الإسراء:15]، فنحن حينما نستقيم على أمر الله  لا نقدم لله -تبارك وتعالى- شيئًا ينتفع به، فهو أعظم من ذلك: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني[1].

الخلق أضعف من هذا، كما أننا لا نقدم نفعًا للآخرين حينما نكون على حال من التقوى، وإنما نقدم ذلك لأنفسنا، والعبد سيأتي بعمله يوم القيامة فيوبقه أو يعتقه.

كذلك أيضًا لما ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الاختيان، هذا من عظيم رحمته بعباده ولطفه بهم، لم يعاقبهم ويعاجلهم بالعقوبة بعده أو يزيد عليهم في التكليف، ويثقِّل عليهم بآصار وأغلال من التكاليف الشاقة الثقيلة التي كانت على من قبلنا من أهل الكتاب، وإنما جاء بعد ذلك بالتخفيف: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فالفاء هذه تشعر بأنها للتعليل، لما حصل هذا الانقطاع، انقطع صبركم وضعفتم عن القيام والنهوض بهذا التكليف على الوجه المطلوب اللائق خفف الله عنكم فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ فهذا نسخ كما سبق لقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة:183] على القول بأن التشبيه في الصفة، وأما على القول بأن ذلك في أصل الفرضية كما ذكرنا فليس بنسخ، أو أن ذلك في الوقت، أنه فرض عليهم شهر رمضان فليس ذلك بنسخ، فيكون نسخًا لما ثبت في السنة من صفة الصوم حيث لا يحل له ليلة الصيام أن يأكل أو يشرب إذا نام، وكذلك لا يجامع ليالي الصوم، فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ.

والمباشرة قلنا: بأنها من مماسة البشرة للبشرة، فيدخل فيها الجماع دخولاً قطعيًا، ويدخل فيها سائر ألوان الاستمتاع، فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وهذا الابتغاء يعني الطلب أن يطلب ما كتب الله له، وذكرنا أقوال أهل العلم في ذلك، الولد، ليلة القدر، قيام ليالي الشهر، كذلك ما كتب لكم من الرخصة، ما كتب لكم في اللوح المحفوظ مما تنالونه في علم الله -تبارك وتعالى، فكل هذا داخل فيه كما قال أبو جعفر ابن جرير الطبري -رحمه الله[2].

وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، فلا يكون هذا الجماع واستفراغ الغرائز والشهوات مشغلاً لكم عن المقاصد السامية من طلب الولد الذي يعبد الله، فإذا عاشر الرجل امرأته لا ينبغي أن يكون ذلك لمجرد استفراغ الشهوة، واتباع هذا السبيل، فإن هذا يستوي فيه بنو آدم مع الحيوانات، ولكن يكون له مقاصد سامية من طلب الولد الصالح وإعفاف نفسه وإعفاف زوجه فهذه مقاصد نبيلة، وكذلك أيضًا اتباع سنن المرسلين ونحو ذلك، كما قال النبي ﷺ: وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام ألا يكون عليه وزر؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال[3].

وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أباح لهم المعاشرة وأباح لهم الأكل والشرب، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ وذكرنا المعنى المتعلق بهذا الموضع، يعني بياض الصبح من سواد الليل، وما هو الحد والمقدار، فهم بعض أهل العلم كما ذكرنا سابقًا في الكلام على المعنى العام للآية، أن التبين هنا لابد أن ينجلي الصبح ويظهر ضوؤه فيملأ البيوت والطرقات.

وبعضهم قال: حَتَّى يَتَبَيَّنَ أي: بمجرد ما ينشعب فلق الصبح، فإنه يحرُم عليهم الأكل والشرب وسائر المفطرات.

لكن قوله -تبارك وتعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ "حتى" للغاية يعني إلى حد طلوع الفجر، بمعنى أنه إلى آخر لحظة من الليل، فأخذ من هذا بعض أهل العلم وهذا ما يسمى عند الأصوليين بدلالة الإشارة: وهي إشارة اللفظ لمعنى لم يكن مقصودًا للمتكلم حينما ساق هذا الخطاب، يعني ما ساقه ليقرر هذا المعنى، لكنه أخذ منه بطريقة دقيقة، فهذا المعنى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أنه يجوز أن يأكل ويشرب -هذا المنطوق- إلى آخر جزء من الليل، ومقتضى ذلك وهي من دلالة المنطوق، وهي دلالة الإشارة هذه، لكنه منطوق غير صريح، أنه لو أصبح وهو جُنُب من غير احتلام فإن صومه صحيح، الصوم لا يرتبط بالطهارة، وبعض النساء تسأل تقول: لم تغتسل من الحيض، أخرت الاغتسال إلى بعد الفجر هل صومها صحيح؟

نقول: نعم، الصوم صحيح، الطهارة تطلب للصلاة وليس للصوم، كذلك هذا الذي يقول: بأنه أخر الاغتسال إلى بعد طلوع الفجر هل عليه شيء، هل صومه صحيح؟

الجواب: نعم، صومه صحيح؛ لأنه إذا جاز له أن يجامع إلى آخر جزء من الليل فهذا يقتضي أنه لن يبقى وقت للاغتسال إلا بعد طلوع الفجر، فاستنبط العلماء من هذا "حتى" التي للغاية إلى آخر جزء من الليل أنه يجوز أن يصبح جنبًا من غير احتلام، وهكذا كان يقع للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم، فدل ذلك على صحة صومه.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، أنه لما ذكر هنا: حَتَّى يَتَبَيَّنَ أن من أكل أو شرب كما ذكرنا في المعنى العام للآية وهو شاك في طلوع الصبح أن صومه صحيح، لكن لا يفرط؛ لأن من الناس من لا ينظر أصلاً، يقول: استيقظت من النوم وذهبت مباشرة وشربت، ثم علمت أن الناس قد خرجوا من صلاة الفجر، هلا نظرت إلى الساعة؟! فهذا تفريط، لكن يقال: من كان شاكًا لسبب أو لآخر، ليس عنده ساعة، كان شاكًا؛ لأنه في مكان في برية أو نحو ذلك، أو لا يعلم بطلوع الصبح فهنا له أن يأكل ويشرب حتى يعلم، بخلاف من أفطر وهو يشك في غروب الشمس فالأصل بقاء النهار، فلا يجوز له أن يأكل ويشرب إلى إذا علم أن الشمس قد غابت، اللهم إلا ما يقع من قبيل الخطأ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286]، كما في حديث أسماء: "أفطرنا في يوم غيم على عهد رسول الله ﷺ ثم طلعت الشمس"[4]، يعني تبين أنها ما غابت، فما أمروا بالقضاء، ما أمروا بالقضاء.

وقوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187] أخذ منه بعض أهل العلم فضيلة تأخير السحور، والنبي ﷺ يقول: لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور[5]، القضية تبدو أنها قضية ليست ذات شأن، وكثير من الناس لا يبالي بالسحور، ولربما لا يتسحر ولو كان مستيقظًا، لكن لا تزال أمتي بخير ربط أشياء دقيقة بخيرية الأمة وبقاءها على الخير له مغزى ومعنى.

وفي قوله ﷺ: لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم[6]، أو قال: بين قلوبكم[7]، القضية تبدو سهلة ومع ذلك النبي ﷺ ذكر هذا وعلقه به، فكيف بالقضايا الكبار من مصالح الأمة العظام ونحو ذلك، وهذا كله يحمل المؤمن على العمل بطاعة الله ظاهرًا وباطنًا، ولزوم السنة، وألا يفرط بشيء بدعوى أنه سهل ويسير، وإنما كل ما شرَّعه الله -تبارك وتعالى- فهو لحكمة وهو أمر جليل عظيم؛ لأن الذي شرَّعه كذلك.

ويؤخذ من هذه الآية قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ لما أباح لهم الأكل والشرب والجماع إلى آخر لحظة قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وكما ذكرت في المعنى العام ليس المقصود أن يجامع في نفس المسجد، وإنما إذا كان متلبسًا بالاعتكاف ليس له أن يقارف مع امرأته إذا دخل بيته لحاجة الإنسان، كالأكل أو الشرب أو قضاء الحاجة، فمن الناس من قد يُلم بامرأته بقبلة، أو مباشرة بوطء أو نحو ذلك، فليس له ذلك، فالمعتكف يمتنع من سائر صنوف الاستمتاع؛ لأن الاعتكاف خلوة وانقطاع ومفارقة لعوائد النفس ومطلوباتها وشهواتها، لكن الجلوس مع المرأة كما ذكرنا، النبي ﷺ جاءته صفية وحادثته بعد العشاء[8].

وكذلك كان يخرج رأسه ﷺ من المسجد من كوة فيه فعائشة -رضي الله عنها- تُرجِّل شعره وهو معتكف في المسجد[9]، فهذا لا إشكال فيه، لكن ما كان بشهوة من قبيل المباشرة بالجماع فما دونه فإن ذلك لا يكون للمعتكف.

وإذا جامع في نفس المسجد أو باشر في نفس المسجد فهذا أعظم، فهذا يمنع منه حتى غير المعتكف، لكن مفهوم الآية هكذا وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ يعني حال التلبس بالاعتكاف إذا رجع إلى بيته لحاجة الإنسان ليس له أن يباشر، ولا يلم بامرأته.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، وقد أشرت إلى هذا في الكلام على المعنى العام للآية، الاعتكاف لا يكون في البيت، المرأة ليس لها أن تعتكف في غرفة في بيتها أو في مصلى في بيتها، وإنما في المساجد، أما الرجل فيعتكف في مسجد تقام فيه الفروض الخمسة، يؤذن فيه وله إمام راتب.

وأما المرأة فلها أن تعتكف في مسجد لا تقام فيه الفروض الخمسة، يقام فيه أحد الفروض أو هجر هذا المسجد، ترك، انتقل الناس إلى مكان آخر مبنى آخر وبقي هذا المسجد لا يصلى فيه، لكنه مسجد، أرض موقوفة لمسجد، فللمرأة أن تعتكف؛ لأن المرأة لا يجب عليها حضور الجماعة، أما الرجل فيجب عليه حضور الجماعة، واشترط بعضهم أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع، قالوا: من أجل ألا يخرج لصلاة الجمعة، والأقرب أن ذلك لا يُشترط، فإن تخلل اعتكافه جمعة فالأفضل أن يكون في الجامع ولا يجب.

وكذلك أيضًا فيما لو كان الاعتكاف، هل يشترط الاعتكاف أن يكون في المساجد الثلاثة كما جاء ذلك في الأثر: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة[10] بهذه الصيغة بالحصر؟

من أهل العلم من ضعف الحديث أصلاً.

ومنهم من حمله على الكمال، فالذي عليه الجمهور من السلف فمن بعدهم أن الاعتكاف يصح في سائر المساجد، ولا يختص بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

كذلك أيضًا: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ يدل على أن المعتكف لا يخرج عن نطاق المسجد مثلاً؛ لأنه معتكف في المسجد فله أن يتنقل ويتحول فيه، في جلوسه أو نومه أو نحو ذلك، كأن يجلس في الصف الأول، وإذا جاء وقت الراحة ذهب إلى مكان آخر في المسجد، لكنه في المسجد، وما أحاط به سور المسجد فمن المسجد، لكن من الناس من يترخص ويخرج خارج السور أو المسجد قد لا يكون له فناء كمسجدنا هذا فكثير من الناس في الاعتكاف يخرجون إلى الخارج خلف الباب؛ ليتصل، ويتحدث أو نحو ذلك، أو لربما يذهب يتوضأ ثم يجلس يتحدث مع إنسان بين بين، يعني بين مخرجه ومدخله يجلس يتحدث، فهذا قد يقطع اعتكافه ويبطله؛ لأنه خرج من الاعتكاف بهذه الحال من غير عُذر، وإنما خروجه يكون بقدر الحاجة، يعني كما جاء عن عائشة -ا- في حينما يدخل الإنسان بيته لحاجة الإنسان إن كان ثمة مريض أو نحو ذلك فهو يسأل عنه وهو يمشي لا يتوقف، مع أن من أهل العلم من رخص في عيادة المريض، واتباع الجنائز، ونحو ذلك.

ومنهم من رخص فيه إن اُشترط، إذا اشترطه المعتكف من البداية ولكن لا يظهر على هذا دليل صريح وواضح، ولهم في ذلك تعليلات، وقياس على اشتراط المحرم، لكن هذا ليس محل اتفاق، -والله تعالى أعلم.

كذلك أيضًا يؤخذ من قوله: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ أن هذا الاعتكاف جعله الله  مشروعًا في المساجد، ولم يُشرع لنا الاعتكاف في دير، أو معبد، أو غابة، أو كهف، أو نحو ذلك كما كان يفعل الرهبان ونحو ذلك ممن ينقطعون عن الناس، المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم[11]، فالانقطاع عن الناس في البرية في مكان منعزل لا يحضر فيه الجمع ولا الجماعات هذا أمر لا يسوغ شرعًا، فإن فعله بقصد التعبد فهذا من جنس فعل الرهبان، أما إن فعله لأمر دنيوي كالذي يكون عنده غنم أو نحو ذلك فهذا لا يُحمد إذا كان ينقطع عن حضور الجمع والجماعات.

أما من فعله فرارًا من الفتن فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي ﷺ، وقال النبي ﷺ عن آخر الزمان: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن[12].

أسأل الله  أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).
  2. تفسير الطبري (3/ 247).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، برقم (1006).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، برقم (1959).
  5. أخرجه أحمد في المسند، برقم (21312)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7284).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، برقم (717)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل، وتقريبهم من الإمام، برقم (436).
  7. أخرجه أبو داود، تفريع أبواب الصفوف، باب تسوية الصفوف، برقم (662)، وأحمد في المسند، برقم (18430)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (668)، وفي صحيح الجامع، برقم (1191).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، برقم (2038)، ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، برقم (2175).
  9. أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب غسل المعتكف، برقم (2031).
  10. أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، برقم (2771)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2786).
  11. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب 55، برقم (2507)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم (4023)، وأحمد في المسند، برقم (5022)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6651).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، برقم (19)، وبرقم (3300)، في كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال.

مواد ذات صلة