الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[153] قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ..} الآية:194
تاريخ النشر: ٠٢ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1781
مرات الإستماع: 1465

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194].

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ القتال في الشهر الحرام لا يجوز؛ ولكن كما قال الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ إذا كان ذلك على سبيل مقابلة عدوانهم فإن ذلك يكون جائزًا في هذه الحال، وكذلك عند المسجد الحرام وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [سورة البقرة:191].

وهذه الآية كثير من السلف فمن بعدهم يقولون: المراد بذلك أن المشركين منعوا النبي ﷺ من دخول مكة في السنة السادسة وذلك في الحديبية كما هو معلوم، فصدوه هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سورة الفتح:25] فكان النبي ﷺ قد توجه إلى مكة بالشهر نفسه وهو ذو القعدة، وكانت عمرة القضاء، فالشهر الحرام بالشهر الحرام، منعوه من دخول البيت، من دخول مكة في شهر حرام، فدخلها النبي ﷺ من قابل في شهر حرام.

والذي يتعدى حدود الله -تبارك وتعالى- مما حده في الزمان أو المكان أو غير ذلك فإنه يعاقب بمثل فعله، فالكفار حينما يقاتلون المسلمين في الشهر الحرام لا يبقى المسلمون في حال من المتاركة للكافر يقتلونهم ويأسرونهم بحجة أن ذلك وقع في شهر حرام.

وكذلك لو أنهم فعلوه في بيت الله الحرام، فلو أن أحدًا اعتدى في الحرم وعمد إلى أهل الحرم من القاطنين فيه أو الواردين والوافدين عليه من العمار والحجاج يقتلهم ويسفك دماءهم أو نحو ذلك، فهذا لا يُترك بحجة أنه في بلد حرام، وهكذا، والجزاء من جنس العمل.

والله -تبارك وتعالى- يقول في هذه الآية: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194] اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، فالله -تبارك وتعالى- يكون معكم فهو أهل التقوى.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ المقابلة بالمثل، وكذلك أيضًا في قوله: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ قصاص هنا مصدر فأخبر عن المحرمات بذلك بالمصدر من باب المبالغة وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ يعني يُقتص من الجاني والمعتدي بمثل فعله، فعبر عن ذلك بالمصدر فقال: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ.

وهكذا يؤخذ من قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ يؤخذ منه أن هذا الدين ليس بدين خنوع وضعف وعجز وقعود، وإنما هو دين قوة، فالمعتدي يرد عدوانه، الأمة بحاجة إلى أن يكون لديها من القوة وأسباب القوة والمنعة ما تصد به عدوان المعتدين فتكون مرهوبة الجانب، ويحصل لها بذلك العزة والمنعة والغلبة، ويحسب الأعداء لها ألف حساب، فلا يجترئون عليها ولا يستحلون بيضتها.

وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ هذا كأنه نتيجة لقوله: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فعقب بالفاء، كالتفريع عليه، بما أن الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم؛ لأن الحرمات قصاص.

وتسمية الاعتداء: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ الرد بالمثل هل يقال له: اعتداء؟

من استشكل هذا قال: إن ذلك من باب المشاكلة يعني عبر بلفظ نحو اللفظ الذي ذكر معه، يعني الذي فعله الكفار هو اعتداء، رد المسلمين ليس باعتداء، فسماه اعتداءً من باب المشاكلة اللفظية، وقد تكلمنا على المشاكلة في بعض المناسبات، وهي عند الكثيرين من أنواع المجاز، كما قال بعضهم:

قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا[1]

فهؤلاء عرضوا على هذا الإنسان شيئًا من الطعام يصنعونه له وكان بحاجة إلى لباس فعبر بمثل عبارتهم:

قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصًا

ما قال: خيطوا لي جبة وقميصًا، هذا الأصل، فعبر بالطبخ مع أن الجبة والقميص لا تطبخان، فهذا يسمونه مشاكلة.

وبعض أهل العلم لا يسمي ذلك مشاكلة، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فسمى الرد هنا اعتداءً، لكنه اعتداء بحق، اعتداء بموجب، وذلك في مقابل عدوانهم.

هنا قيَّد هذا الرد بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فإن من شأن النفوس في مقابلة العدوان أنها لا تقف عن حد، فيحصل لها من التشفي مجاوزة الحد بالزيادة على ذلك كالمثلة وغير ذلك من الصور، فأمر الله -تبارك وتعالى- بالرد بالمثل: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، وذلك بالوقوف عند حدود الله -تبارك وتعالى.

وهكذا إذا كان ذلك مع الكفار المعتدين يطلب العدل معهم في رد عدوانهم فكيف بأهل الإسلام في تعاملنا معهم فالعدل معهم أوكد وأوجب، سواء كان ذلك في الأقوال أو الأفعال، والعاقل يضع نفسه في مقامهم الآخرين، ومن ثم فلا يصدر عنه شيء إلا ما يرضاه لنفسه، وهذا غاية الإنصاف.

كذلك يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:194] فهنا هذا الرد على اعتداء هؤلاء الكفار إنما هو استجابة لأمر الله -تبارك وتعالى، وإقامة للحق والعدل فأمر معه بتقوى الله -تبارك وتعالى؛ ليكون ذلك عوضًا لهم من حظ نفوسهم، وحاجزًا لهم من العدوان الذي لا يكون بحق من الاعتداء والتجاوز ونحو ذلك، فالنفوس إنما تُزم بتقوى الله -تبارك وتعالى، وإلا فالنفوس جماحها قد لا يقف عند حد في حال الحرب أو الانتصار أو نحو ذلك، فيقتل الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان ونحو ذلك، تخرب دور العبادة ونحو هذا، فهذا ليس بحق في القتال.

ثم أيضًا رغَّبهم بذلك قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، فهذه معية خاصة لأهل التقوى بأن يكون الله -تبارك وتعالى- معهم بالنصر والتأييد والتمكين والرعاية والحفظ ونحو ذلك، ولذلك فإن المقاتلين يحتاجون إلى مثل هذا بحفظ حدود الله -تبارك وتعالى- وترك الالتفات إلى حظوظ النفس والبعد عن كل ما يكون سببًا للهزيمة، إذا كان في غزوة أحد ومعهم رسول الله ﷺ وهم خير جيل، مجرد معصية واحدة بنزول بعض الرماة وليس كل الرماة من مواقعهم فعصوا رسول الله ﷺ في خطة حربية، ومع ذلك كانت النتائج كبيرة مدمية، فقتل منهم سبعون، وقع النبي ﷺ بالحفرة وكسرت رباعيته وشج وجهه الشريف، وهزم المسلمون في تلك الوقعة بعد ذلك الانتصار الساحق في أول الوقعة، معصية واحدة فكيف إذا كانت المعاصي كثير أو الكبائر أو حظوظ النفس حاضرة، والشعارات التي يدور الناس حولها مما يرتبط بحظوظ نفوسهم أو نحو ذلك.

فهذا لا يحصل معه النصر، النصر يحتاج إلى تقوى الله -تبارك وتعالى، فهما عدتان:

العدة الأولى: وهي إعداد القوة المادية.

والعدة الثانية: هي تقوى الله -تبارك وتعالى، فإذا اجتمع هذا وهذا لا يقف في وجه هؤلاء من أهل الإيمان أحد.

وهذه على كل حال الآية تدل على فضيلة التقوى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، فالتقوى بها تنال معية الله ، وهذه لا شك من أعظم المطالب والمكاسب، ومن كان الله معه فإنه لا يُخذل بحال من الأحوال، فالله ناصره ومؤيده ومثبته ومقويه، وكانت التقوى بذلك سببًا لتحقيق هذه المعية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، ما قال: اتقوا الله إن الله مع المتقين، قال: وَاعْلَمُوا يؤكد عليهم بذلك زيادة على مجرد الإخبار.

يؤخذ من هذه الآية أيضًا أنه كما قال الله -تبارك وتعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.

كذلك في القصاص فإنه يقتص من الجاني بمثل جنايته، ولا يتشفى بالتمثيل فيه، أو بقتل غير الجاني ممن كان في الجاهلية، كانوا يرون أن الجاني لربما لا يكافئ المجني عليه فيقتلون سيدًا في قومه، أو يقتلون جماعة فيه لم يشاركوا في قتله، فمثل هذا لا يجوز، وذلك خلاف التقوى، ولهذا قال أهل العلم: بأن القصاص من الجاني لا يكون إلا بحضرة السلطان أو نائبة، بمعنى أن ذلك يكون حاجزًا من المجاوزة، وإلا فإنه قد -نسأل الله العافية- يصل إلى حال من التمثيل والتشفي من هذا الجاني بأكثر مما فعل.

هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب، -والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 467).

مواد ذات صلة