الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(234) تتمة قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ..} الآية:272
تاريخ النشر: ٠٣ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 799
مرات الإستماع: 1085

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272].

تحدثنا عن صدر هذه الآية الكريمة وما يُستخرج من الهدايات والفوائد، كذلك أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:272]، فـ"ما" هذه تفيد العموم، و"خير" نكرة في سياق أيضًا الشرط، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، فهذا للعموم وسُبقت خير التي هي نكرة بـ"من" التي تنقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم فهي نص صريح في العموم، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، يعني: أن كل ما تبذل أن ذلك يرجع إليك، فإذا استشعر المنفق ذلك لم يقع في نفسه مِنة، أو يصدر منه أذى، أو يقع منه إدلال على المُعطى والمُنفق عليه، ولم ينتظر من الآخرين الشكر والثناء والمدح والإطراء وما إلى ذلك؛ لأنه يقدم لنفسه فلا حاجة لأن يُلقب بالمُحسن الكبير، هو يُقدم لنفسه، ولهذا حُكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرًا من المعروف كما يقول القرطبي -رحمه الله[1]، ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرًا، فقيل له في ذلك، فقال: إنما فعلت مع نفسي ويتلوا هذه الآية: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:272]، فهذا إنما يصنعه الإنسان لنفسه ليرفعها لينفعها، يُقدم لنفسه، يبذل لنفسه.

وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ أن الحرام لا يُقبل ولا يصح الإنفاق منه؛ لأنه ليس بخير، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ، فإذا أنفق الحرام فذلك شر، وهكذا كل نفقة على غير الوجه المشروع فهي ليست موصوفة بأنها خير.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- في الجملة الثانية، الجملة الأولى عظيمة ولها مدلول كبير: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، تقدم لنفسك إذًا لا تنتظر من الآخرين شيء، ولا تعتقد أن لك يدًا على أحد، أو فضل على أحد، هذه الجملة الأولى تقدم لنفسك، اجتهد واعمل فذلك يعود إليك، تُحسن إليها.

الجملة الثانية: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ [سورة البقرة:272]، هذه قال بعض أهل العلم: بأنها خبر على ظاهره؛ لأن الصيغة خبرية، وأن ذلك مدح للصحابة بأنهم أصحاب إخلاص في نفقاتهم.

والمعنى الثاني: أن الصيغة خبرية ولكنها تُرشد إلى الإخلاص وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، إذًا إذا كان الأمر كذلك أن الإنفاق ابتغاء وجه الله لا شأن لك بهذا فتقول هذا يستاهل وهذا ما يستاهل، هذا كفؤ وهذ غير كفؤ، هذا ليس بأهل أو نحو ذلك، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:272]، فأنت تقدم لنفسك ثم أيضًا أنت تتعامل مع الله، وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أنتم تريدون ما عنده -تبارك وتعالى- وهذا يُرشد إلى الإخلاص، ودفع الرياء والمقاصد السيئة فذاك الذي يُنفق طلبًا للمحمدة، أو تحصيل المنزلة في قلوب الخلق، أو نحو ذلك هذا لا ينطبق عليه هذا الوصف: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ.

والذي ينفق ليُحصل غرضًا دنيويًا لا ينطبق عليه هذا الوصف، بعض الناس يقدم تبرعات ونحو ذلك من أجل أن يحصل على مزايا تُمنح للمنفقين، ومن لهم يد في الإحسان في المجتمع، فيذهب ويقول: أنا قدمت كذا وكذا أريد مزايا كذا وكذا وكذا، فهذا قد لا يصدق عليه هذا الوصف، فلابد من الإخلاص: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فإذا كان الإنسان ينفق بهذا الاعتبار فإنه لا يُبالي بعد ذلك بما قد يكون من جحد الناس وتنكرهم لبذله وإنفاقه، تتعامل مع الله فإذا أنكر هذا الذي أحسنت إليه أنكر الجميل، أنكر المعروف الذي أعطيته كما ذكرنا في قول الله -تبارك وتعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النور:22].

نزلت في أبي بكر وَلا يَأْتَلِ، يعني: ولا يحلف من الألية وهي الحلف، حلف أن لا يصل مسطحًا؛ لأنه كان قريبًا له ابن خالته وينفق عليه لأنه فقير، ثم بعد ذلك صدر منه ما قد عُلم من الإفك فوقع في عرض عائشة -رضي الله عنها وأرضاها[2]، فالله يقول: وَلا يَأْتَلِ لا يحلف أولوا الفضل أصحاب المنازل والمقامات الرفيعة، أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ، الغنى، أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، فالتعامل مع الله -تبارك وتعالى، إذًا لا ينقطع الإنسان من البذل والخير والنفقة ونحو ذلك إذا لم يرَ من الناس تقديرًا لهذا الجهد، أو هذا الإحسان، أو هذا الإنفاق.

كذلك في هذا الموضع في قوله: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فيه إثبات صفة الوجه لله -تبارك وتعالى- على الوجه الذي يليق به، على ما يليق بجلاله وعظمته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى:11].

وكذلك أيضًا في قوله: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فإذا كان الإنسان ينفق ابتغاء وجه الله وجاء بصيغة الحصر، وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ، أقوى صيغة من صيغ الحصر النفي والاستثناء، فنفقتكم لهذا، إذًا لا موضع للمن والأذى، وأيضًا تخير الرديء من النفقات من الأموال ليُخرجه الإنسان، أنت تتعامل مع الله، تريد وجه الله، تتقرب إليه بالرديء من الطعام والشراب والأثاث ونحو ذلك! هذا لا يليق.

كذلك أيضًا هذا السياق: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أيضًا هذه صيغة خبرية لكنها متضمنة معنى النهي، يعني: ينهى على أن ينفق المُنفق إلا ابتغاء وجه الله، لا تنفق إلا على هذا الأساس، فهذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده.

كذلك أيضًا هنا: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، فكرر لفظ الإنفاق ثلاث مرات في هذه الآية، وجيء به مرتين بصيغة الشرط، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، فهنا جيء بالصيغة الشرطية لبيان الثواب والجزاء أنه أمر حاصل للمنفق، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، فذلك يعود إليها، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ فهاتان جملتان شرطيتان.

وكذلك أيضًا فيها: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، تعليم للإخلاص وتصحيح القصد.

وفي هذه الآية كيف تضمنت هذه الجُمل الخمس: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، فلم تُجعل جملة واحدة وإنما فُصلت كل جملة كأنها مستقلة للاهتمام بتقرير هذه المعاني الكبار، وهذه الجملة الأخيرة: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، هذه ليست بتكرار مع الجملة الأولى، يعني: الجملة الأولى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ، يعني: أن ذلك يرجع إليكم.

والجملة الأخيرة: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، هنا في بيان كمال الأجر والجزاء أن ذلك لا ينقص، ولا يضيع عند الله -تبارك وتعالى، بل يعود إليك وافيًا، الجملة الأولى أنك تقدم لنفسك، الجملة الأخيرة أن الأجر يكون كاملاً غير منقوص فهذا يحصل به كمال الاطمئنان، يعني: تصور الآن حينما يستقر في نفس المؤمن هذه المعاني أن ما ينفقه يرجع إليه إذًا أنا المنتفع، ولذلك كان بعض السلف يعتقد أن هذا الذي يأتيه بحاجته أنه مُحسن إليه حيث عرض حاجته وهيأ الأسباب للإحسان، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ.

فالتعامل مع الله إذًا لا تنتظر الشكر، أو أن يقول لك: جزاك الله خيرًا، ثم ذلك يرجع إليك كاملاً فيطمئن الإنسان إذا كان العمل لنفسه، والتعامل مع الله الكريم الغني، وأن الجزاء يرجع وافيًا، فلماذا يتردد؟! ولماذا يتوقف؟!، ولماذا يمتنع من إعطاء النفقة لمن يعتقد أنه ليس كما ينبغي؟!، نعم إن كان يستعين بها على معصية الله فلا يُعطى، لكن إن كان لا يستعين بها على المعصية، أو يمكن إيصالها بطريق لا يستعين بها على المعصية فلا إشكال، لا شك أن الأتقياء الأبرار أولى بالنفقة والإحسان ولكن: في كل كبد رطبة أجر[3]، إذا كانت هذه المرأة التي سقت الكلب غُفر لها وهو كلب؛ فكيف بابن آدم!.

كذلك أيضًا في قوله: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [سورة البقرة:272] ولم يذكر الموفي وهو الله -تبارك وتعالى؛ لأن ذلك معلوم، يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:272]، وأنتم ولم يقل: يوف إليكم ولا تظلمون يعني أنتم، وإنما قال: وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ فهذا لمزيد الاعتناء بما يتصل بهم فقدم الضمير المتعلق بالمنفقين المخاطبين وأنتم؛ لأنه هو أهم ما عنده أنه ما يرجع إليه ما يتعلق بنفسه بمصلحته، فيقول: اطمئنوا كل الاطمئنان أنتم لا تظلمون، قد يؤجرون على هذا ولكن ببخس، عند الله لا يكون هذا، ويكون وافيًا، وهذا الوفاء كما ذكره الله -تبارك وتعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160]، الحسنة بعشر، وكما في الآية السابقة في المثل المضروب للمنفقين: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:261]، فهذه النفقات تُضاعف من العشر إلى سبعمائة إلى أكثر من ذلك، وبعضهم يقول في قوله: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ، يعني: من العشر إلى السبعمائة يعني هذه المضاعفة.

وبعضهم يقول: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ فوق السبعمائة وكأن هذا هو الأقرب، -والله تعالى أعلم.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يعتق رقابنا ورقابكم، ورقاب والدينا، وإخواننا المسلمين من النار، اللهم ارحم موتانا، واشفي مرضانا، وعافي مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. تفسير القرطبي (3/ 339).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، برقم (2363)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2244).

مواد ذات صلة