الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(252) قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ..} الآية:285
تاريخ النشر: ٢٢ / رمضان / ١٤٣٧
التحميل: 832
مرات الإستماع: 1079

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما نزلت الآية السابقة: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [سورة البقرة:284]، اشتد ذلك على أصحاب النبي ﷺ، فقالوا: قد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نُطيقها، فقال -عليه الصلاة والسلام: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا[1]، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم فنسخها وأنزل في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:285]"، الآية، فهذا مُخرج في صحيح مسلم.

ووجه قوله هنا في هذه الرواية: "فنسخها الله"، قلنا: بأن النسخ يأتي لمعانٍ منها: البيان، وتقييد المُطلق، وتخصيص العام، بالإضافة إلى رفع الحكم الذي هو النسخ في اصطلاح المتأخرين من الأصوليين والفقهاء وغيرهم.

فهنا نسخها الله تعالى بهذه الآية بمعنى أنه بيّن ذلك، كما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [سورة البقرة:286]، وفي الحديث القدسي: أن الله قال: قد فعلت[2].

قوله -تبارك وتعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:285]، آمن الرسول بمعنى أقر وأذعن وانقاد وصدق بما يجب التصديق والإقرار به، فقوله: بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ هذا يُفيد العموم كما هو معلوم، فهذا يعني الإيمان بكل ما أنزل الله وأمر بالإيمان به بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ بما أوحاه الله -تبارك وتعالى- إلى نبيه ﷺ، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني: والمؤمنون آمنوا بما أنزل الله على رسوله ﷺ وبما يجب الإيمان به.

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فالمعنى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، يعني آمنوا كذلك، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، هذا التعبير كما سيأتي: كُلٌّ آمَنَ، لم يقل: كلهم آمنوا، له دلالة من الناحية البلاغية سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، فالكل آمن بالله إلهًا ومعبودًا وربًا، آمنوا بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ بكل ما يجب الإيمان به فيما يتعلق بالله ، كذلك أيضًا آمنوا بالملائكة الكرام، والملائكة خلق من خلق الله، كرمهم، واصطفاهم، خُلقوا من نور ولا يُحصيهم إلا الله -تبارك وتعالى، وقد تقدم بعض ما يدل على كثرتهم.

والإيمان بالملائكة نوعان:

النوع الأول: إيمان مُجمل، أن يؤمن بأن لله ملائكة كرامًا لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

النوع الثاني: إيمان مُفصل بمن سماه الله أو سماه رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم، كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، إلى غير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة تعيينه وتسميته، وهناك أسماء شاعت ولكنها لم تثبت، فملك الموت هكذا جاء: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [سورة السجدة:11]، فتسميته بعزرائيل لا تثبت لا في الكتاب ولا في السنة.

وهناك ما اختلف فيه أهل العلم: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، كاتب للحسنات وكاتب للسيئات، فهل هذه أسماؤهم رقيب والآخر اسمه عتيد؟ أو أنها صفة؟ فبعض العلماء يقول: هذه صفة وليست باسم.

هاروت وماروت: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ يعني: اليهود، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [سورة البقرة:102]، هل هم ملائكة؟ هذا فيه خلاف كثير بين أهل العلم، فبعض العلماء يقولون: هم ملائكة وقع ذلك منهم ابتلاء من الله لخلقه.

وبعضهم يقول: هؤلاء لم يكونوا ملائكة وإنما من ملوك الدنيا: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فالملَك والملِك لغتان فيُقال للملِك من ملوك الدنيا ملَك، ويُقال له: ملِك بالكسر؛ فقالوا هم من البشر.

وبعضهم يقول غير ذلك، لكن المقصود أن الذي يجب الإيمان به إيمانًا مفصلاً هو ما ثبت في الكتاب والسنة بحيث لا يجحده لو بلغه ذلك، يعني لو أنكر قال: لا يوجد ملك اسمه جبريل فهذا تكذيب للقرآن، لكن لو أحدًا من الناس دخل في الإسلام وعامي وجاهل ولا يعرف إلا الفاتحة وبعض قصار السور فلم يعلم بأسماء الملائكة على التعيين، لا يعرفهم عامي من عوام المسلمين لم يدرس ولم يتعلم لكنه يؤمن بالله ويؤمن بالملائكة هل يُقال: يجب عليه أن يتعلم ويدرس على التفصيل ويتعرف على أسماء الملائكة الذين وردوا في الكتاب والسنة؟

الجواب: لا يجب، يكفيه الإيمان المُجمل، لكن ما بلغه منهم فإنه لا يجوز أن يُنكره ممن ثبت في الكتاب أو في السنة، وليس ممن يثبت أصلاً مثل: عزرائيل هو يؤمن بملك الموت لكن ما اسمه؟ الله أعلم، ولا من اخُتلف فيه يعني هل هم ملائكة أو ليسوا ملائكة، أو هل هذه أسماء أو صفات، هو يؤمن أنه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18]، ملكان موكلان كل شخص وكِل به اثنان واحد يكتب الحسنات والثاني يكتب السيئات، كل ما يلفظ فهو يُملي على الملك.

كذلك أيضًا الإيمان بالكتب كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [سورة البقرة:285] الكتب الإيمان بهم كذلك على نوعين: مُجمل ومُفصل. 

فالإيمان المُجمل أن يؤمن إجمالاً أن الله أنزل كتبًا على أنبياءه ورسله -عليهم الصلاة والسلام، والإيمان المُفصل أن يؤمن بما ورد وثبت في الكتاب والسنة من هذه الكُتب على التحديد والتعيين، مثل: التوراة، والإنجيل، والزبور، صُحف إبراهيم، صُحف موسى -عليهم السلام، فهذا يؤمن على التحديد، لكن بالنسبة للقرآن يجب أن يؤمن بالقرآن.

النوع الثاني: لو أنه آمن إيمانًا مُجملاً لم يبلغه أسماء هذه الكتب أصلاً، إنسان من العامة وليس له معرفة حتى بقراءة القرآن لكنه يحفظ الفاتحة وبعض قصار السور ويُصلي بها فلم يعلم بأسماء الكتب على التحديد فيكفيه الإيمان المُجمل أن الله أنزل كُتبًا لا ينكر هذا يقول: إن الله لم يُنزل كتابًا، والحبر الذي قال في لحظة غضب: مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام:91]، فالعبارة "ما" هذه تفيد العموم، وشيء نكرة في سياق النفي، وسُبقت بــ"من" فهي للتنصيص الصريح على العموم، مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام:91]، وهذا يهودي عالم من علماء اليهود، فجاء الرد من الله: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91]، يعني: معنى كلام هذا الحبر أنه يُنكر التوراة أيضًا أنها لم تنزل، فهذا إعلان منه بالكفر، فجاء هذا الرد عليه الذي يُسميه أهل علم الجدل بالنقض، يعني نقض هذا العام المُبرم بفرد لا يُنكره وهو التوراة، مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ، لو قال: التوراة ما نزلت لكان هؤلاء اليهود يرمونه بالحجارة.

فالمقصود أن الإيمان المُجمل بالكتب لمن لم يبلغه شيء من أسماءها على التحديد يكفي إلا القرآن يجب أن يؤمن بالقرآن؛ لأنه الكتاب الذي تعبده الله به.

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [سورة البقرة:285]، لكنه لو بلغه وجود التوراة والإنجيل ونحو ذلك فأنكرها؛ قال هذه ليست كتب لله أصلاً، هو لا يتحدث عن التحريف، هو يُنكر أصل هذه الكتب، فما الحكم؟

هذا لا يجوز، هذا مُكذب بالقرآن.

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أيضًا الإيمان بهم على نوعين: مُجمل ومُفصل كما سبق، يؤمن أن الله أرسل رُسلاً كرامًا إلى الأمم يدعونهم إلى التوحيد والإيمان، ويعلمونهم شرائع الدين بوحي من الله -تبارك وتعالى، فهذا الإيمان المُجمل يكفي لمن لم يبلغه أسماء هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام، لكن يجب أن يؤمن بمحمد ﷺ؛ لأنه هو الرسول الذي أُرسل إليه والأسئلة الثلاثة في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فلابد أن يؤمن به.

أما الإيمان المفصل فهو أن يؤمن بمن سمى الله من هؤلاء الرُسل -عليهم الصلاة والسلام، بمن ثبت في الكتاب والسنة، إذا بلغه ذلك يجب الإيمان عليه فلا يُنكر، إذا جاء أحد وقال بأن موسى ليس برسول، أن عيسى ليس برسول، أن إبراهيم ليس برسول، أو قال هذه شخصيات وهمية لا حقيقية لها غير موجودة، فهذا يكفر؛ لأنه مُكذب بالقرآن، فهذا الفرق بين الإيمان المُجمل والإيمان المُفصل، لكن هناك أسماء يُذكرون على أنهم من الأنبياء أو الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لم يثبت في الكتاب والسنة، فلو أنه توقف وقال: أنا لا أُثبت هذا أو اختلف فيه هل هو نبي أو لا، فلا يُقال: إن ذلك تكذيب للقرآن، ولا يكون ذلك مؤثرًا في إيمانه، مثل من الذي اختلفوا فيه؟ مثل: الخضر هل هو نبي أو رجل صالح؟ قولان لأهل العلم:

الذين يقولون: إنه نبي يحتجون ببعض الإشارات غير الصريحة: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82]، قالوا: إذًا يوحى إليه، هذا دل على أنه نبي، وكذلك نسبة العلم الذي عنده مِنْ لَدُنَّا [سورة الكهف:65]، فهذا العلم الذي من الله بالوحي لم يتعلمه من أحد.

والذين يقولون: إنه ليس بنبي يحتجون أنه لم يدل على نبوته دليل صريح يجب الوقوف عنده، ومثل هذه الإشارات لا تكفي في إثبات نبوته، وهناك من لم يرد ذكره في الكتاب ولا في السنة أصلاً لكن يذكرونه في الإسرائيليات أخبار بني إسرائيل وصحفهم وكتبهم ومروياتهم، وهذه المرويات لا نُصدق بها ولا نُكذب إن كانت لا تُخالف ما عندنا ولا توافق ما عندنا نتوقف فيها، أما ما كان مخالفًا لما ثبت في الكتاب والسنة فهذا يُرد، وما كان موافقًا لما في الكتاب أو السنة فهذا يُصدق، لكن يبقى ما لم يرد في الكتاب والسنة ما يُصدقه ولا ما يُكذبه.

دانيال مثلاً هل هو نبي؟ هذا يذكرونه ويقولون: بأن الذي يوجد في بيت المال لكسرى لما فُتحت بلاد فارس، وفُتحت نهاوند وجدوا في بيت المال تابوتًا أو نعشًا فيه رجل ميت ولم يتغير، الصحابة الذين رأوه لما فتحوا في عهد عمر فتحوا بيت المال وجدوا هذا الرجل مُسجى لم يتغير إلا شعرات من قفاه، فأرسلوا إلى عمر يسألونه ماذا يفعلون، فهؤلاء يقولون: إنه دانيال نبي من أنبياء بني إسرائيل، وأن بُختنصر لما جاء إلى العراق وخرب بيت المقدس وحصل ما حصل من الخراب في بيت المقدس وما حوله من قِبل هؤلاء.

وبعضهم يقول: هو المراد بقوله -تعالى- في سورة الإسراء: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ۝ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [سورة الإسراء:5، 6]، أكثر نافرًا يعني من الرجال الجيوش، فقتل فيهم قتلاً ذريعًا بُختنصر وأخذ خيارهم يعني ممن لم يُقتل، يُقال إن ممن أُخذ دانيال، وأنه حُبس هناك في العراق، ولما توفي رأوا منه قبل ذلك من أمارات الصلاح والتقوى والكرامات والمعجزات هكذا يقولون، فعرفوا أنه رجل صالح فكان الفُرس إذا أجدبوا -ما نزل المطر- خرجوا بالنعش من بيت المال يستسقون به.

فالشاهد لما سأل الصحابة عمر ما يفعلونه بهذا الرجل، وخافوا أن الناس يتعلقون به، ولربما يُعبد هذا القبر في المستقبل فأمر عمر أن تُحفر قبور كثيرة ويوضع ليلاً في واحدًا منها فيُعمى قبره، يعني: لا يُدرى موضع القبر، فهذا هو اللائق بمثل هذا المقام، كما قطع عمر شجرة الحديبية لما رأى الناس وهو في طريق مكة رأى الناس يتسارعون إلى شجرة فسأل؟ فقالوا: هذه الشجرة التي بايع النبي ﷺ تحتها في الحديبية، ذهبوا يتبركون بها، لاحظ في ذلك الوقت حيث أعلام التوحيد ظاهرة في زمن الخليفة الراشد المحدث ويتسارعون إلى شجرة فأمر بقطعها قطعًا لدابر الشر والفتنة[3].

وهكذا كان دأب من كان على سنة وجادة إلى عصرنا هذا، إلى عهد قريب ليس بالبعيد في القرن هذا الماضي جاء سيل واجتحف قبورًا في ناحية قريبة ليست بالبعيدة قُرب اليمامة التي وقعت فيها حرب مع مُسيلمة الكذاب، وكانت أشد حروب المرتدين في عهد أبي بكر الصديق ، فلما جحف السيل هذه الناحية وهي ناحية كبيرة وجُرف وادي خرج لهم قبر فرأوا رجلاً على هيئته لم يتغير، وفيه آثار الدم، وعليه كفن من ثياب، وله شعر لم يتغير، فحُمل وغُيّب قبره، وضع له قبر آخر وغُيب، هذا قريب في القرن الماضي، طبعًا الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- قد يُكرم الله من شاء منهم فلا تأكله الأرض، وإلا الأصل أن ذلك للأنبياء إن الله حرّم أجساد الأنبياء على الأرض[4]

فهذا هو الأصل بالنسبة للأنبياء لا تأكلها الأرض، لكن بالنسبة لغير الأنبياء فالأصل أن ذلك يذهب يعني الجثمان ويتلاشى ويضمحل إلا من أكرمه الله كما جاء في عدد من الأخبار، يعني: لما احترق المسجد النبوي وتساقطت السقوف ونحو ذلك، وأرادوا أن يُجددوا عمارته وسقط بعض الألواح ونحو ذلك على القبور فلما أرادوا إبعادها ونحو ذلك خرجت لهم رجل في الحفر خرجت رجل ففزعوا خشوا أن يكون ذلك -هذا في زمن التابعين- خافوا أن يكون ذلك قدم النبي ﷺ، ففزع الناس، فجاءهم من يقول: هذه رجل عمر وليس هذا هو قبر النبي ﷺ؛ لأن قبورهم كانت على التوالي، فتبين أن رجل عمر لم تتغير.

شهداء أحد بعد مدة جابر بن عبد الله لم تطب نفسه أن يُدفن أبوه مع غيره؛ لأنه دُفن في القبر الواحد الرجلان والثلاثة فما طابت نفسه فحفر بعد مدة فاستخرج أباه لم يتغير طريًا، وفيه أثر الدم ووضعه في قبر مستقر، وأُجريت عين في زمن معاوية يعني بعد ما يقرُب من أربعين سنة من قِبل أُحد واحتاجوا إلى نقل بعض القبور قبور الشهداء في أحد فحفروا فوجدوهم لم يتغيروا، فهذه كرامة من الله لهم، لكن لا يُقال: إن هذا هو الأصل بالنسبة لأهل الصلاح والإيمان والخير وأن تكون هذه علامة على صلاح الإنسان من علمه، لا، لا، ليس بشيء من ذلك.

وذكرت لكم في العِبر من التاريخ أن بني العباس لما صارت الخلافة لهم ووقع على أيديهم من المظالم ما وقع من ذلك أنهم نبشوا قبور بني أُمية جميعًا من معاوية إلى آخر من مات من خلفاء بني أُمية إلا عمر بن عبد العزيز أبقوا على قبره، ففي كتب التاريخ كما جاء في "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير: أنهم لم يجدوا في قبر معاوية إلا مثل الخيط[5]، ما وجدوا شيئًا، ونقول: مثل هذا لعله كرامة من الله لمعاوية ؛ لئلا يعبثوا بجسده؛ لأنهم كانوا يُحرقون الجُثث.

فبعض هؤلاء الخلفاء ما وجدوا إلا الجُمجمة، وبعضهم وجدوا العظام كاملة هيكل، وبعضهم وجدوا جُثة، فالشاهد إن لم يوجد لا يعني أن هذا الإنسان ليس بذي منزلة عند الله ، إنما الذي يُحفظ هو أجساد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وما جاء في الحديث المشهور في خروج بني إسرائيل من مصر إلى الشام، وما جرى من نقل يوسف ؛ لأنه أوصى أن يُنقل إلى الأرض المقدسة فما عرفوا قبره حتى دلهم على ذلك عجوز من بني إسرائيل كما ثبت في الحديث، وأنها اشترطت على موسى إذا دلته على قبره أن تكون رفيقة له في الجنة، فأشارت إلى موضع ماء مُجتمع فأمرت بنزحه فُنزح، وأشارت إلى قبره تحت هذا الماء فاستخرجوا عظامه هل معنى ذلك أنه تحلل؟

الجواب: لا، المقصود استخرجوا جثته، فقد يُعبر عن ذلك بالعظام -عليهم الصلاة والسلام.

فهنا قال: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة:285]، يؤمن بالرسل جميعًا لا يُفرق، وهنا كما سيأتي جاء بهذا القيد في الرُسل؛ لأن هذا موضع خلاف كبير بين الطوائف الثلاث اليهود والنصارى والمسلمون، اليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد ﷺ، والنصارى لا يؤمنون بمحمد -عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء الذين يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض هؤلاء وصفهم الله بالكفر: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [سورة النساء:151]، فيجب الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- من غير تفريق.

وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ [سورة البقرة:285]، قال الرسول والمؤمنون: سمعنا وأطعنا سمعنا سماع قبول، وانقادت قلوبنا وجوارحنا، ونرجو أن تغفر لنا يا رب، تغفر ذنوبنا، فأنت الذي أنعمت علينا، وإليك المصير والمرجع والمآب.

هذا المعنى في هذه الآية العظيمة، وسيأتي الكلام على الفوائد المستخرجة منها -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [سورة البقرة:284]، برقم (125).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [سورة البقرة:284]، برقم (126).
  3. الطبقات الكبرى ط دار صادر (2/ 100)، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (1/ 268).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، تفريع أبواب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، برقم (1047)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (962).
  5. البداية والنهاية ط إحياء التراث (10/ 49).

مواد ذات صلة