الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[32] من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} الآية 84 إلى قوله تعالى: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} الآية 87
تاريخ النشر: ٠٦ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 4409
مرات الإستماع: 3182

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ۝ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:84-86].

يقول، -تبارك وتعالى- منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله ﷺ بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديَّ الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملاً بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] 

ولهذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ [سورة البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضًا ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه كما قال تعالى: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54]، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال -عليه الصلاة والسلام: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر[1].

وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ [سورة البقرة:84] أي: واذكروا إذ أخذنا عهدكم الموثق أن لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ [سورة البقرة:84]، والسفك يقال على الإراقة، وأما الجراح اليسيرة التي لا يكون فيها إراقة الدماء فإن ذلك لا يقال له السفك. 

والمقصود بالسفك القتل، فـلاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ أي لا يسفك بعضكم دم أخيه، هذا هو المراد، وليس المقصود بالآية أن لا يسفك الإنسان دمه، وإن كان ذلك يحرم بأدلة أخرى، لكن المقصود هنا لا يسفك بعضكم دم بعض، وقد ذكرنا علته سابقاً، وأشار إليها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في هذا الموضع.

قوله: وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ [سورة البقرة:84] أي: لا يخرج بعضكم بعضاً من دياره، وأصل الديار هي الأماكن التي يسكنها الناس سواءً كانت من المدر أو كانت من غيره، وسواءً كانت ثابتة أو مؤقتة، فيشمل ذلك البنيان ويشمل أيضاً ما حوله من الأراضي الزراعية، وما أشبه ذلك، كما قال الله هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر:2] فديارهم تشمل الأراضي والمساحات التي ليس فيها بنيان وإنما فيها زروعهم وأشباه ذلك، كما تشمل البنيان.

قوله: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] يمكن أن يكون ذلك متوجهاً إلى أجدادهم الذين أخذ عليهم هذا الميثاق أنهم أقروا بذلك وشهدوا به وصح الخطاب للذين كانوا في زمن النبي ﷺ؛ لأنهم منهم، وعلى طريقتهم ومنهاجهم.

وقد سبق الكلام على أن الخطاب قد يتوجه إلى المعاصرين للنبي ﷺ مع أن ذلك قد وقع لأسلافهم، وعلى كل حال إذا كان الميثاق أخذ من أجدادهم، فلا شك أن ذلك يشمل الذين كانوا في عهد النبي ﷺ إذ كان يحرم عليهم هذا الصنيع وهم لا ينكرونه بل يقرون بثبوته، وصحته.

ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ الآية [سورة البقرة:85]: روى محمد بن إسحاق بن يسار عن ابن عباس -ا ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ الآية، قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج.

هذا الكلام يحتاج إلى مناقشة فهو يقول بأن بني قينقاع هم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة هم حلقاء الأوس، والصواب أن النضير هم حلفاء الخزرج وقريظة هم حلفاء الأوس، ففي قصة بني قريظة لما جيء بسعد بن معاذ إنما اختاروه ليحكم بينهم؛ لأنهم حلفاؤه، فكان ذلك رجاء أن يحكم حكماً مخففاً عنهم للحلف الذي كان بينه وبينهم، ولهذا اجتمع عليه قومه من الأوس وكانوا يقولون له: الله الله في حلفائك؛ حيث أرادوا أن يصنعوا لهم معروفاً إذ كانوا ينافسون الخزرج، فالخزرج شفعوا في حلفائهم وهم بني النضير وقصة بني النضير معروفة، وخبر عبد الله بن أبي وهو من الخزرج في شفاعته لهم معروف، وقد شفع أيضاً لبني قينقاع، وإنما أظهر تبرمه واعتراضه لحكم النبي ﷺ وسعد بن معاذ في قريظة، وقال: يقتل أربعمائة دارع في غداة واحدة؟ يعني كيف يقتل أربعمائة مائة رجل ممن يلبس الدروع، أي أربعمائة ممن يصلح للقتال، وفي بعض التقديرات أنهم كانوا سبعمائة.

فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامة، ولا كتابًا، ولا حلالاً ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التوراة وأخذًا به؛ بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم؛ مظاهرة لأهل الشرك عليهم.

يقول الله تعالى ذكره حيث أَنَّبهم بذلك: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] أي: تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة ألا يقتل ولا يُخرج من داره، ولا يُظَاهَر عليه من يُشْرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نزلت هذه القصة.

والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله ﷺ ونعته، ومبعثه ومخرجه ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله -عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  [سورة البقرة:85] أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ أي: جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ [سورة البقرة:85-86] أي: استحبوها على الآخرة واختاروها.

فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [سورة البقرة:86] أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة.

وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:86] أي: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي، ولا يجيرهم منه.

في قوله -تبارك وتعالى- هنا: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] قوله -تبارك وتعالى: هَؤُلاء يحتمل أمرين:

الأول: أن يكون ذلك من قبيل المنادى الذي حذف فيه ياء النداء، كقوله -تبارك وتعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [سورة يوسف:29] يعني يا يوسف أعرض عن هذا، فيكون المعنى: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم.

ويحتمل معنىً آخر، ولربما يكون أكثر تبادراً إلى الأذهان، ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم، بمعنى أن {هؤلاء} تكون على سبيل الاعتراض -يعني اعتراضية- يعني تصل الكلام بما بعدها وتكون للتوضيح والبيان، فالآية تحتمل هذا وهذا، والله تعالى أعلم.

ثم في قوله -تبارك وتعالى- هنا: فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة البقرة:85]، أي ليس له جزاء إلا الخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة، والخزي بمعنى الذل والمهانة والصغار، وذلك يمكن أن يكون المراد به ما يحصل لهم من الهوان مما يسوقه الله لهم من القتل والإذلال حيناً بعد حين، كما قضى الله عليهم ذلك، حيث شردهم وفرقهم وأذلهم، وضرب عليهم المسكنة، فالذل لا يفارق وجوههم بحال، وصار الله يسوق عليهم من يسومهم الخسف والذل.

ويمكن أن يكون المراد به ما يحصل لهم من الإذلال بدفع الجزية، كما قال تعالى: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29]، وهذا المعنى متعلق بالأول لا يخرج عنه.

ويمكن أن يكون المراد به غير ذلك مما يصدق عليه معنى الذل والمهانة والصغار في الحياة الدنيا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [سورة البقرة:85].

وإذا كان ذلك مما جازى الله به هؤلاء اليهود لأنهم كانوا يعملون بأحكام التوراة بطريقة انتقائية، فيأخذون ما يشتهون ويتركون ما لا يشتهون، يعملون ببعض أحكام التوراة دون بعض، فإن الخزي والعذاب الذي يستحقه من كان أشرف منهم لا شك أنه أعظم، فهذه الأمة إذا عملت ببعض أحكام القرآن مما يوافق أهواءها، وتركت بعض أحكام القرآن فإنها أحق بالذل والخزي والصغار والعذاب في الآخرة من هؤلاء اليهود. 

ومن هنا كان يجب على هذه الأمة أن تعرف هذه البلية والورطة التي وقع فيها بنو إسرائيل فلا يقعون فيها فيكون ذلك سبباً لعذابهم، وسخط الله  عليهم، وذلهم وصغارهم في الحياة الدنيا.

ولو نظرنا إلى هذه الأمة فهذا هو واقعها اليوم في مشارق الأرض ومغاربها حيث صار اليهود الأذلاء يستذلونهم؛ وهذا بسبب أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، يأخذون من الدين أشياء ويتركون الأشياء الأخرى، والله المستعان.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87].

ينعت -تبارك وتعالى- بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء -عليهم السلام- وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنه آتى موسى  الكتاب -وهو التوراة- فحرفوها وبدلوها، وخالفوا أوامرها وأولوها.

وأرسل الرسل والنبيين -عليهم السلام- من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء الآية [سورة المائدة:44]، ولهذا قال تعالى: وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [سورة البقرة:87] قال السدي عن أبي مالك: أتبعنا، وقال غيره: أردفنا.

قوله هنا: وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي أتبعنا بعث موسى ﷺ بالرسل الذين جاؤوا من بعده، وهو مأخوذ من القفا، يعني أنهم جاؤوا على أثره -عليه الصلاة والسلام- وكل من جاء تابعاً لغيره وكان مقتفياً لأثره فإنه يقال له بأنه يقفوه، من قفاه يقفوه، كما قال الله في الأمور المعنوية: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] يعني لا تتبع، وكذلك من كان يمشي خلف أحد يقال: إنه قفاه، يقفوه، يقفو أثره، بمعنى الاتباع، قفينا من بعده بالرسل يعني أتبعناه بالرسل.

فالآية التي قبلها بينت أنهم ينتقون من أحكام الله ما يناسب أهواءهم، وهذه الآية تبين كيف تعاملهم مع الرسل، فهم يؤمنون ببعض، ويقتلون الآخر.

قال السدي، عن أبي مالك: أتبعنا، وقال غيره: أردفنا، والكل قريب، كما قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا [سورة المؤمنون:44] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات، وهي: المعجزات.

قال ابن عباس -ا: من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، وإبراء الأسقام وإخباره بالغيوب وتأييده بروح القدس -وهو جبريل ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به.

جاء هذا في سورتي آل عمران والمائدة، ففي آية آل عمران الله قال عن عيسى ﷺ: قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ.. [سورة آل عمران:49] إلى آخر ما ذكر.

وفي آية المائدة يقول تعالى: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً.. [سورة المائدة:110] إلى آخر ما ذكر.

فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحَسَدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ الآية [سورة آل عمران:50]، فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء -عليهم السلام- أسوأ المعاملة ففريقًا يكذبونه وفريقًا يقتلونه؛ وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم، وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم، وربما قتلوا بعضهم؛ ولهذا قال تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87].

والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية، وتابعه على ذلك ابن عباس -ا- ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة، مع قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [سورة الشعراء:193-194].

روح القدس المشهور أنه جبريل -عليه الصلاة والسلام، وهذا عليه عامة أهل العلم، وروح القدس من باب إضافة الموصوف إلى الصفة.

والقدس بمعنى الطهر، والقداسة الطهارة والنزاهة، بمعنى الروح المطهرة، المنزهة المقدسة، وهو جبريل -عليه الصلاة والسلام. 

والمشهور أنه قيل له ذلك لأن الله خلقه من غير ولادة، فليس له أب ولا أم، كما قال الله عن عيسى ﷺ: وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171] أي روح مخلوقة كانت بتكوين الله إذ قال له: كن فكان، من غير أب على ما جرت به العادة، فجبريل -عليه الصلاة والسلام- كان بتكوين الله وخلقه من غير ولادة.

وبعضهم يقول: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [سورة البقرة:87]، أي أيدناه بالإنجيل، وهذا بعيد غاية البعد؛ وذلك أن الله لما ذكر روح القدس في غير هذا الموضع في قوله تعالى: إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [سورة المائدة:110]، قال بعد ذلك: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة المائدة:110] فلو كان روح القدس هو الإنجيل لكان ذلك من قبيل التكرار، فدل هذا على أن روح القدس ليس هو الإنجيل.

وبعضهم يقول: القدس هو الله، فروح القدس يعني روح الله، بمعنى أن الإضافة تكون للتشريف، كما قال عن عيسى ﷺ: وَرُوحٌ مِّنْهُ [سورة النساء:171]، وهذا أيضاً فيه بعد.

وبعضهم يقول: هي الكلمة التي كان يقولها عيسى ﷺ حينما يريد إحياء الموتى حيث كان يتلفظ بهذه الكلمة: أيدتك بروح القدس، وهذا أيضاً بعيد. 

فالصواب أن روح القدس هو جبريل -عليه الصلاة والسلام.

والدليل ما روى البخاري عن عائشة -ا: أن رسول الله ﷺ وضع لحسان بن ثابت منْبرًا في المسجد، فكان ينافح عن رسول الله ﷺ فقال: رسول الله ﷺ: اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك[2]، وقد رواه أبو داود في سننه، والترمذي، وقال: حسن صحيح.

وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب[3].

قوله: نفث في روعي يعني في قلبي.

وقال الزمخشري في قوله تعالى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87] إنما لم يقل: وفريقًا قتلتم؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل -أيضًا- لأنهم حاولوا قتل النبي ﷺ بالسم والسحر، وقد قال في مرض موته: ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهَري[4] قلت: وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره.

قوله: أبهري هو العرق المعروف في القلب الذي يكون به موت الإنسان إذا انقطع.

وهذه لفتة جيدة نقلها عن الزمخشري وهي من النكات واللطائف اللغوية البلاغية، وهي أن قوله: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ جاء بصيغة الماضي، أي حصل التكذيب في الماضي.

وقوله: وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ عبر بالمضارع فيما يتعلق بالقتل، ومعلوم أن الفعل المضارع يدل على الاستمرار والتكرر حيناً بعد حين، فالتكذيب أضافه إلى ما مضى، والقتل عبر به بالمضارع بمعنى أنهم يقتلون الأنبياء باستمرار.

هذه اللطائف والدقائق يذكرها بعض المفسرين، ويمكن أن تناقش كثير منها، فلو أردت أن تناقش هذه مثلاً فإن التكذيب أيضاً كالقتل مستمر منهم، فهم حاولوا قتل النبي ﷺ وكذبوه، بل حاولوا قتله وما استطاعوا، ولكنهم كذبوه قطعاً، فلو قال مثلاً: فريقاً تكذبون، وفريقاً تقتلون لكان ذلك أيضاً يدل على المقصود، والله أعلم. 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب: كتاب البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586) (ج 4 / ص 1999).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3040) (ج 3 / ص 1176) ومسلم في كتاب:  كتاب فضائل الصحابة (2485) (ج 4 / ص 1932) ولفظهما: اللهم أيده بروح القدس  دون قوله: كما نافح عن نبيك، وعند الطبراني في الكبير (ج 4 / ص 37) اللهم أيده بروح القدس ما نافح عن نبيك.
  3. أخرجه ابن ماجه في كتاب: التجارات، باب: الاقتصاد في طلب المعيشة (2144) (ج 2 / ص 725) وابن حبان (ج 8 / ص 329 والطبراني في الكبير (ج 8 / ص 166) كلهم بألفاظ متقاربة، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2085).
  4. أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ﷺ ووفاته (4165) (ج 4 / ص 1611).

مواد ذات صلة