الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[2] من قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ} الآية 10 إلى قوله تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} الآية 17.
تاريخ النشر: ٢٢ / شوّال / ١٤٢٨
التحميل: 2598
مرات الإستماع: 2240

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكّ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى قَالُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدّونَا عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ ۝ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَمُنّ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۝ وَمَالَنَآ أَلاّ نَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ [سورة إبراهيم:10-12].

يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له، قالت الرسل: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أي: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى، وقالت لهم رسلهم: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي: في الدار الآخرة، وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً أي: في الدنيا كما قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ الآية، فقالت لهم الأمم محاجّين في مقام الرسالة بعد تقدير تسليمهم المقام الأول.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ، "مِن" من أهل العلم من يقول بأنها صلة، أي: زائدة، فهي زائدة إعرابًا، وإلا فالقرآن ليس فيه زائد؛ لأن الزيادة حشو في الكلام ينزه عنه القرآن، فعلى كل حال الذي حملهم على ذلك هو أن من آمن غفرت له جميع الذنوب.

ومن أهل العلم –كسيبويه- من يقول بأن "مِن" هذه للتبعيض، وأنه لا مانع من ذكر البعض والمراد الكل، ذكر بعض الذنوب والمقصود جميع الذنوب، ليشمل ذلك ما ذكر وما لم يذكر، لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ، وممن قال بأنها للتبعيض، قال: لعل ذلك كان لتلك الأمم قبل الإسلام، وأنه من خصائص أمة محمد ﷺ أن الإسلام يجب ما قبله، وهذا فيه إشكال ولا دليل عليه، وإنما كان مقصود من ذكره هو الخروج من هذا السؤال أو الإشكال.

ومن أهل العلم من يقول بأنها ليست للتبعيض وليست زائدة، وإنما هي للبدل، فيكون يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ أي: لتكون المغفرة بدلًا من الذنوب، وقوله -تبارك وتعالى: وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى، والمقصود بالأجل المسمى هو أجلهم الذي حده الله -تبارك وتعالى- لهم، فيتمتعون في هذه الحياة الدنيا حتى تأتي آجالهم.

وحاصل ما قالوه: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا أي: كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولمّا نرَ منكم معجزة؟، فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي: خارق نقترحه عليكم.

قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "أي: خارق نقترحه عليكم" تقدير لا بد منه؛ لأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بالآيات والحجج والمعجزات، فلم يقل أولئك الكفار ذلك لأنهم لم يروا آية، وإنما قصدوا بذلك الآيات التي يقترحونها على الرسل -عليهم الصلاة والسلام.

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ: أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أي: بالرسالة والنبوة، وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ على وفق ما سألتم، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بعد سؤالنا إِياه وإِذنه لنا في ذلك، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: في جميع أمورهم، ثم قالت الرسل: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أي: وما يمنعنا من التوكل عليه، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا أي: من الكلام السيئ والأفعال السخيفة، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.

وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ ۝ وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ۝ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ ۝ مّن وَرَآئِهِ جَهَنّمُ وَيُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ ۝ يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [سورة إبراهيم:13-17].

يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا الآية. وكما قال قوم لوط : أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الآية، وقال تعالى إِخبارًا عن مشركي قريش: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا.

وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، وكان من صنْعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره، وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصارًا وأعوانًا وجندًا يقاتلون في سبيل الله تعالى، ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته، ومكَّن له فيها، وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان؛ ولهذا قال تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ.

وكما قال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۝ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات:171]، وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة المجادلة:21]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [سورة الأنبياء:105] الآية، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الأعراف:128].

وقال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف:138].

قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، بعض أهل العلم يقول: إن "أو" على بابها في التخيير، يعني: إما أن تعودوا في ملتنا أو يكون لكم الإخراج، وبعضهم يقول: إن ذلك بمعنى لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ إلا أن تعودوا في ملتنا، والعود يأتي لمعنيين: بمعنى الرجوع إلى الحال الأولى التي كان عليها، ومن فسر العود بهذا التفسير قال: لا مانع من أن يكون الرسل -عليهم الصلاة والسلام- على دين قومهم، فهم طالبوهم بالرجوع ثانية إلى دينهم.

ومنهم من قال: إن مقصودهم بذلك أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ومن قال بأن الرسل -عليهم صلاة الله وسلامه- لم يكونوا على دين قومهم قال: إن العود معناه الصيرورة، وهو المعنى الآخر للعود، فالعود يأتي بمعنى عاد إلى كذا أي صار، تقول: عاد الماء ثلجًا، وليس بمعنى أنه رجع إلى حالته الأولى، فهو لم يكن ثلجًا، وإنما صار، وتقول أيضًا: عاد الثوب قميصًا، يعني القماش، ولم يكن كذلك من قبل، وعاد الفتى رجلًا، أو كهلًا، أو شيخًا، ولم يكن كذلك من قبل، وهكذا في أمثلة كثيرة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم.

وقوله: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ أي: وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:37-39]، وقال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [سورة الرحمن:46].

الوعد يكون في الخير غالبًا، والوعيد في الشر، وقول الحافظ: "لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة" الصحيح لمن خاف مقامه بين يدي يوم القيامة، لِمَنْ خَافَ مَقَامِي أي: خاف مقامه بين يدي، وهذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وقريب من هذا قول من قال: لِمَنْ خَافَ مَقَامِي أي: خاف موقفي، فالله -تبارك وتعالى- يحاسب كل واحد من الناس، فمن خاف لقاء الله وحسابه فإنه ينتفع بالوعيد والآيات والعظات والتذكير، والله يقول: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا [سورة الأنعام:30].

ومن أهل العلم من قال: لِمَنْ خَافَ مَقَامِي أي: خاف قيامي عليه ومراقبتي له، وهذا معنى آخر غير المعنى الأول، المعنى الأول في الآخرة في الحساب، وهذا أعم أي: من خاف مقامي عليه ومراقبتي له في كل حين، ومن ذلك المحاسبة، محاسبتي له في الآخرة.

وقوله: وَاسْتَفْتَحُوا أي: استنصرت الرسل ربها على قومها، قاله ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة.

قوله: وَاسْتَفْتَحُوا أي الرسل طلبوا النصر، وهذا اختيار ابن جرير، استفتحوا: أي طلبوا من الله أن ينصرهم على أعدائهم، وقوله -تبارك وتعالى: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [سورة الأنفال:19]، فالفتح يأتي بمعنى النصر، وقيل: إِن تَسْتَفْتِحُواْ أي: تطلبوا الفتح وهو النصر، فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ، ويأتي الاستفتاح بمعنى الحكم، والفتح هو الحكم، والحاكم يقال له: فاتح، والحكَم يقال له: فتاحة أيضًا، "فإني عن فتاحتكم غني": أي عن حكمكم، ويقال للحاكم أيضًا: فتّاح، إِن تَسْتَفْتِحُواْ أي: تطلبوا الحكم بين الفريقين.

وقوله: وَاسْتَفْتَحُوا يحتمل أن يكون المراد أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- طلبوا النصر، ويحتمل أن يكون ذلك عائدًا إلى الفريقين، طلبوا أن يحكم الله بينهم، وأن يظهر صاحب الحق، وقد نقل الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن بعض العلماء في الفتح: "أن الكفار والمكذبين وأصحاب الشبهات لربما يكونون في حال من المكابرة والتكذيب بحيث إنهم يطلبون أن يُظهر الله الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل إظهارًا لشدة وثوقهم بما هم عليه، ويحتمل أن يكون الأمم كما قال: "استفتحت الأمم على أنفسها"، يعني: دعوا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32]، ويحتمل أن يكون هذا مرادًا وهذا مرادًا، كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر، واستفتح رسول الله ﷺ واستنصر، وقال الله تعالى للمشركين: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة الأنفال:19] الآية، والله أعلم.

وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي: متجبر في نفسه عنيد معاند للحق، كقوله تعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ۝ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ۝ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [سورة ق:24-26]، وفي الحديث: إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة، فتنادي الخلائق، فتقول: إني وُكلت بكل جبار عنيد[1] الحديث. أي: خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.

وقوله: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وراء هنا بمعنى أمام، كقوله تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [سورة الكهف:79].

كلمة "وراء" من الأضداد، تأتي بمعنى أمام وبمعنى خلف، وتستعمل للمعنيين مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ أي: من أمامه، يعني فيما يستقبله، النار تنتظره، هو مفضٍ إلى النار، وهذا المعنى هو المتبادر؛ لأن ذلك شيء يستقبله، ويصير إليه، وهذا التفسير وإن لم يكن محل اتفاق لكن عليه كثير من المحققين، وهو الذي اختاره ابن جرير والشنقيطي وجماعة.

وقوله أيضًا -عليه الصلاة والسلام: من ورائكم أيام الصبر[2]، يعني فيما تستقبلون، وبعضهم يقول: مِنْ وَرَائِهِ أي: من بعده.

وكان ابن عباس -ا- يقرؤها: وكان أمامهم ملِك، أي: من وراء الجبار العنيد جهنم، أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلدًا يوم المعاد، ويُعرض عليها غدوًا وعشيًا إلى يوم التناد، وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ.

  1. رواه بمعناه الترمذي برقم (2574)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح، كتاب صفة جهنم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صفة النار، وأحمد في المسند (14/152)، برقم (8430)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (512).
  2. رواه أبو داود برقم (4341)، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، وابن ماجه برقم (4014)، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، والحاكم في المستدرك (4/358)، برقم (7912)، وقال:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كتاب الرقائق، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (494).

مواد ذات صلة