الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[7] من قوله تعالى: {اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ} الآية 32 إلى قوله تعالى: {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} الآية 46.
تاريخ النشر: ٢٧ / شوّال / ١٤٢٨
التحميل: 2658
مرات الإستماع: 2407

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ ۝ وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ ۝ وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ [سورة إبراهيم:32-34].

يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السماوات سقفاً محفوظاً، والأرض فراشاً، وأنزل من السماء ماء، فأخرج به أزواجا من نبات شتى، ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان، والأشكال، والطعوم، والروائح، والمنافع، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر، تجري عليه بأمر الله تعالى، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك، وما هناك إلى هنا، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر رزقاً للعباد من شرب وسقي، وغير ذلك من أنواع المنافع، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ أي: يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهاراً لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40]، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:54]، فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [سورة الحـج:61]، يُكَوِّرُ الليْلَ عَلَى النَّهَارِ ويُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [سورة الزمر:5].

وقوله: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ يقول: هيأ لكم ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم.

وقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها، وفي صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ كان يقول: اللهم لك الحمد غير مكفيّ ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا[1].

وقد روي في الأثر أن داود قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتني يا داود. أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن نّعْبُدَ الأصْنَامَ ۝ رَبّ إِنّهُنّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ [سورة إبراهيم:35، 36].

يذكّر تعالى في هذا المقام محتجًا على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرّأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: رَبّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وقد استجاب الله له، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [سورة العنكبوت:67] الآية

وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [سورة آل عمران:96] وقال في هذه القصة: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا فعرّفه لأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [سورة إبراهيم:39]، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق -عليهما السلام- بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضًا فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطوّلًا.

وقوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه تبرأ ممن عبدها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ، الإحصاء: هو العد، وأصل ذلك فيما يُذكر -والله تعالى أعلم: أن العادّ في السابق كان كلما بلغ عقدًا في الأعداد وضع حصاة، من أجل أن يضبط العد، فصار ذلك يقال له: الإحصاء، أخذًا من وضع الحصى، هكذا قيل، كما قيل في اليمين: إن أصلها أن الرجل كان إذا حلف أخذ بيمين صاحبه توثيقًا لليمين، توثيقًا للقول بالفعل، فقيل له يمين، والله تعالى أعلم.

وما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، والفرق بينه وبين ما في البقرة: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126]، فدعا لها بشيئين: أن يصير هذا المكان بلدًا؛ لأنه جاء إلى وادٍ ليس فيه أحد، ودعا لها بالأمن، كما في قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وجاءها مرة أخرى بعد أن صارت بلدًا، فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، فدعا لها هنا بشيء واحد وهو الأمن.

ومن الأدلة على أن هذه هي المرة الثانية أنه قال: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [سورة إبراهيم:39]؛ لأن إسحاق لم يكن موجودًا حينما جاء أول مرة، إنما جاء بإسماعيل وأمه.

ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه تبرأ ممن عبدها، ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كقول عيسى : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118]، وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى، لا تجويز وقوع ذلك.

عن عبد الله بن عمرو -ا: أن رسول الله ﷺ تلا قول إبراهيم : رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ الآية، وقول عيسى : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ الآية، ثم رفع يديه ثم قال: اللهم، أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي وبكى فقال الله: اذهب يا جبريل إلى محمد -وربك أعلم- وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله ﷺ ما قال، فقال الله: اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك[2].

قول عيسى -عليه الصلاة والسلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وقول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، والفرق بين هذا وبين قول الأنبياء كنوح -عليه الصلاة والسلام: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح:26]، وقول موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ الآية [سورة يونس:88]، فدعاء الأنبياء هؤلاء -عليهم الصلاة والسلام- على قومهم يمكن أن يقال فيه -والله تعالى أعلم:

إن نوحًا -عليه الصلاة والسلام- قال ذلك لما أخبره ربه -تبارك وتعالى: أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ [سورة هود:36]، وجلس فيهم هذه المدة الطويلة، وأما قول موسى ﷺ فيمكن أن يكون قد قال ذلك بعد أن قالوا له: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:132]، فلما يئس منهم دعا عليهم، ولكل مقام مقال، فالحال أحيانًا قد يكون المناسب فيها الدعاء عليهم، وأحيانًا الدعاء لهم، فقد يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون[3]، وقد يدعو عليهم ويقول: اللهم اجعلها عليهم سنينَ كسِنِيّ يوسف[4]، فالدعاء لهم ليس بمطرد في كل المواضع، ولا إشكال في هذا.

وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يقول: وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ الله -تبارك وتعالى- لا يغفر للكفار، فيحمل هذا باعتبار أن المراد وجود سبب المغفرة، بأن يتوب الله عليهم، يوفقهم للتوبة فيغفر لهم، ويمكن أن يقال بأن ذلك كقوله -عليه الصلاة والسلام- لما دعا لأبيه: وَاغْفِرْ لِأَبِي الآية [سورة الشعراء:86] وقال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [سورة مريم:47]، ورَبّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [سورة إبراهيم:41]، حتى نهاه ربه -تبارك وتعالى- عن ذلك، كما وقع للنبي ﷺ حينما استأذن ربه أن يستغفر لأمه، وقال لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك[5]، واستغفر بعض الصحابة لآبائهم الذين ماتوا على الشرك احتجاجًا باستغفار إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لأبيه، فأنزل الله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [سورة التوبة:113].

رّبّنَآ إِنّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ [سورة إبراهيم:37].

وهذا يدل على أن هذا دعاء ثانٍ بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه تأكيدًا ورغبة إلى الله ؛ ولهذا قال: عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ.

وقوله: رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ قال ابن جرير: هو متعلق بقوله: الْمُحَرّمِ أي: إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ قال ابن عباس -ا- ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: لو قال: "أفئدة الناس" لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: مِنَ النَّاسِ فاختص به المسلمون وقوله: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ أي: ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك.

قوله: رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ، قال ابن جرير: هو متعلق بقوله: الْمُحَرّمِ، بمعنى: أنك جعلته محرمًا ليقيموا الصلاة، والاحتمال الآخر أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- جعلهم عند بيت الله المحرم ليقيموا الصلاة، يعني: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي في هذا المكان لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ، أي: أسكنتهم ليقيموا الصلاة، والآية تحتمل المعنيين.

وما ذكره ابن جرير -رحمه الله- له وجه حسن، والله -تبارك وتعالى- وصف هذا البيت بأنه محرم فقال: سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحـج:25]، كما أن الله جعل بإزاء ذلك أوقاتًا، وهي الشهور الحرم من أجل أن يتمكن الناس من الوصول إلى البيت، فإذا نظرت إلى الأشهر الأربعة وجدت ثلاثة منها تتعلق بموسم الحج، فالناس قد يحتاجون شهرًا حتى يصلوا إلى البيت، ثم يبقون في مناسكهم، ويحتاجون شهرًا حتى يرجعوا، فصارت ثلاثة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وواحد فرد وهو رجب يأتون فيه للعمرة، فهذا في الأوقات، إنما جعلته محرمًا ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده.

وذلك أنه يعني كما ذكر بعض أهل العلم: أن إقامة الدين والعبادة إنما يكون ذلك مع وجود الأمن، فإذا أمن الناس تفرغوا للعبادة؛ ولهذا ذكر النبي ﷺ فضل العبادة في أيام الهرج، كثرة الهرج، أو الهرج: بمعنى القتل، وجاء تفسيره أيضًا بالاختلاف والفتن، ولا شك أن بين الأمرين ملازمة، فإذا وقع الاختلاف والفتن فإن ذلك يؤدي إلى وقوع القتل.

وقوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ الأفئدة: يعني القلوب، قال: أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ، وهذا التفسير ذكره عن ابن عباس -ا، ومجاهد وسعيد بن جبير بأن "من" تبعيضية، أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ، ويمكن أن تكون بيانية، تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ، ولم يقل: تهوي إليه، ودعا للبيت أن يكون آمنًا، ومعنى: تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ أي: تنزع إليهم، وفسر ذلك أيضًا بالإسراع، أو الإقبال، أو الميل، تميل إليهم، هوى نحوه أي مال.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- في أول زاد المعاد ذكر من خصائص مكة أن الأفئدة تهوي إليها، وذلك أن الإنسان كلما رجع منها عاوده الحنين والشوق إليها مرة ثانية، فلا يزال به حتى يرجع ثانية وهكذا، فيتكرر رجوعه إليها، بخلاف سائر البلاد، وهذا المعنى الذي ذكره باعتبار أن الدعاء تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ لمكة، فقال: تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ باعتبار أنهم نزلوا هذا المكان، فصار ذلك مختصًا به، والله تعالى أعلم.

وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثّمَرَاتِ أي: ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك، وكما أنه وادٍ غير ذي زرع فاجعل له ثمارًا يأكلونها، وقد استجاب الله ذلك كما قال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [سورة القصص:57]، وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل .

رَبّنَآ إِنّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ ۝ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّي لَسَمِيعُ الدّعَآءِ ۝ رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاَةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبّنَا وَتَقَبّلْ دُعَآءِ ۝ رَبّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [سورة إبراهيم:38-41].

قال ابن جرير: يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم خليله أنه قال: رَبّنَآ إِنّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ أي: أنت تعلم قصدي في دعائي، وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء، ثم حمد ربه على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ أي إنه يستجيب لمن دعاه.

قوله: وَمَا يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ جاء متصلًا بدعاء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، وجاء بعده: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى آخره، فهذا في ثناياه، فهل هو من جملة قول إبراهيم ودعائه رَبّنَآ إِنّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ؟ أو أن هذا من كلام الله فيكون من قبيل المتصل لفظًا، المفصول معنىً؟ ظاهره الاتصال، أنه من كلام متكلم واحد، ولكنه منفصل، هذا من كلام إبراهيم ﷺ، والجمهور على أن هذا من كلام الله، تعقيبًا على دعاء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.

وقد استجاب لي فيما سألته من الولد، ثم قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي: محافظًا عليها مقيمًا لحدودها، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي: واجعلهم كذلك مقيمين لها، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ أي: فيما سألتك فيه كله، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبيّن له عداوته لله .

قوله: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ قال: "أي: محافظًا عليها مقيمًا لحدودها، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي: أي واجعلهم كذلك مقيمين لها"، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يمكن أن تكون "مِن" هنا تبعيضية، ويمكن أن تكون بيانية، كما في قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة آل عمران:104].

والفرق بينهما أنها إذا كانت تبعيضية فهي دعاء للبعض، وإذا كانت بيانية فإنها دعاء للجميع، مثل قول الإنسان لأولاده: أريد منكم أبناء بررة، لا يقصد أن بعضهم يكون كذلك، والتبعيضية كأن يقول: أريد منكم فقهاء، وأطباء، فهو يقصد أن بعضهم يكون هكذا وأن البعض يكون هكذا.

وقوله: رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ قال: "أي: فيما سألتك فيه"، فهذا من الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يُعد -كما هو ظاهر- تفسيرًا للدعاء بالسؤال، وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ؛ لأنه هو يدعو، فهو يطلب من ربه أن يتقبل دعاءه أي مسألته التي سألها، تقبل دعائي، وهذا هو الظاهر المتبادر، وهذا المقام مقام طلب وسؤال، وابن جرير ذهب إلى أن المراد بـ وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ أي: تقبل عبادتي، فالدعاء يأتي بمعنى العبادة، ولا يخفى أن بين الأمرين ملازمة، فالسؤال هو عبادة من أجلّ العبادات؛ ولذلك فإن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- عمّمه، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ أي: تقبل سُؤْلي وتقبل عبادتي.

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ، دعاء لوالديه، بعضهم يقول: إن أمه كانت مسلمة، ولا دليل عليه، وليس فيه جواب عن السؤال الذي سأله الصحابة بأن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- استغفر لأبيه وهو مشرك قطعًا، فالحاصل أنه جاء في بعض القراءات غير المتواترة -قراءة سعيد بن جبير- الإفراد: اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدِي، وجاء في قراءة إبراهيم النخعي: اغْفِرْ لِي وَلِوَلَدَيَّ يعني: إسماعيل وإسحاق، وهذه قراءات شاذة، فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- دعا لأبيه، ودعا لوالديه؛ وذلك قبل أن ينهاه الله -تبارك وتعالى- عن هذا، رجاء أن يفتح الله على قلوبهما فيدخلا الإسلام، والله يقول: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [سورة التوبة:114].

وَلِلْمُؤْمِنِينَ أي: كلهم، يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ أي: يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.

قوله: يَقُومُ الْحِسَابُ أي: يقوم الناس للحساب، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة المطففين:6]، ظاهر اللفظ واضح لا حاجة للتقدير: يوم يقوم الناس للحساب، يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ أي: يقام الحساب والسؤال، كما هو الظاهر المتبادر.

وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلًا عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ۝ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ [سورة إبراهيم:42، 43].

يقول تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ يا محمد غَافِلًا عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ أي: لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجّلهم أنه غافل عنهم، مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك ويعده عليهم عدًا، إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ أي: من شدة الأهوال يوم القيامة، ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم.

قوله: لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ كقوله : فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُوا [سورة الأنبياء:97]، وشخوص البصر معناه: أنه يبقى البصر مفتوحًا، فلا يغمض الإنسان عينه؛ لشدة الهول.

ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر، فقال: مُهْطِعِينَ أي: مسرعين، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ الآية، وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ [سورة طـه:108] إلى قوله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [سورة طـه:111]، وقال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا [سورة المعارج:43] الآية.

قوله: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ [سورة القمر:7]، فالإهطاع فسره الحافظ بالإسراع، وهذا قال به طائفة من السلف، ومن بعدهم، والشنقيطي -رحمه الله- يرجح هذا المعنى، وفُسر بغير هذا فقيل: المُهطِع: هو الذي ينظر بذل وخشوع، وقيل: المهطع هو الذي يديم النظر، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ينظرون إليه، لا ينظرون إلى شيء آخر، وقيل: هو الذي لا يرفع رأسه من الخضوع، وبعضهم يفسره بالساكت، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ وتفسيره بأنه الذي لا يرفع رأسه يصير مكررًا مع قوله: مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ إذا فسر إقناع الرأس بتنكيسه وطأطأته، فيكون ذلك تكرارًا، إذا فسر بهذا.

وقوله مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ قال ابن عباس -ا- ومجاهد وغير واحد: رافعي رءوسهم.

قوله: مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ فُسر بالرفع، وفسر بطأطأة الرأس وتنكيسه، فسر بهذا وهذا، ورافعي رءوسهم ليس من العز، وإنما ينظرون إلى الداعي، قد شخصت أبصارهم.

لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي: أبصارهم طائرة شاخصة يديمون النظر، لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم، عياذًا بالله العظيم من ذلك، ولهذا قال: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أي: وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف؛ ولهذا قال قتادة وجماعة: إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف.

إذا فسر إقناع الرأس بمعنى تنكيسه فتكون شاخصة أبصارهم لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يعني ينظرون إلى الأرض بصورة قد شخصت فيها أبصارهم، أو أنهم قد رفعوا أبصارهم إلى الداعي ينظرون إليه نظرًا مستمرًا، والثاني هو الأقرب، -والله أعلم.

وقوله: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ، العرب تقول للشيء الفارغ: أجوف، ويقولون: هواء، كما قال حسان حينما هجا أبا سفيان بن الحارث:

ألا أبلغْ أبا سفيانَ عني فأنتَ مجوفٌ نخبٌ هواءُ[6]

يعني يتهمه بالجبن والخور والضعف، فيكون قلبه هواء، كما يقال في الحرب أو الخوف: انتفخ سحره، والعرب تعبر بذلك يقولون: إن الرئة تنتفخ مع الخوف، وذكره بعضهم عند قوله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [سورة الأحزاب:10]، بعضهم حملوه على ظاهره، قالوا: وصل القلب إلى هذا المكان، والعرب تعبر بمثل هذا عن الخوف أو عن فراغ القلب من كل شيء، والله قال عن أم موسى -عليه الصلاة والسلام: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا [سورة القصص:10] مع الفارق بين الموضعين، فَارِغًا قالوا: أي من كل شيء إلا من ذكر موسى -عليه الصلاة والسلام.

والقصد أنه عبر عن الفؤاد بالفراغ، فقال: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أي: أن قلوبهم خالية، فلا تفسر بأنها ارتفعت إلى أعلى المكان؛ لأنه قال عن نفس الأفئدة: إنها هواء، فدل على أن هذه القلوب قد امتلأت بالخوف، فما عاد أصحابها يعقلون شيئًا، ولهذا وصفهم الله -تبارك وتعالى- في موضع آخر بالسكر، سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى [سورة الحـج:2]، فلا يعقل شيئًا من شدة الهول الذي رآه أو نزل به، والمعنى الظاهر والمتبادر والذي عليه المحققون أن قلوبهم خالية ليس فيها شيء، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، ولا حاجة لأن يقال: إن قلوبهم لما وصلت الحناجر صارت هواء بهذا الاعتبار.

ثم قال تعالى لرسوله ﷺ: وَأَنذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ رَبّنَآ أَخّرْنَآ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ نّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتّبِعِ الرّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوَاْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ۝ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ۝ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [سورة إبراهيم:44-46].

يقول تعالى مخبرًا عن قِيل الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ كقوله: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [سورة المؤمنون:99] الآية، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ [سورة المنافقون: 9، 10] الآيتين.

وقال تعالى مخبرًا عنهم في حال محشرهم: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ [سورة السجدة:12] الآية، وقال: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا [سورة الأنعام:27] الآية، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا [سورة فاطر:37] الآية، قال تعالى ردًا عليهم في قولهم هذا: أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ أي: أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء، فذوقوا هذا بذلك.

قال مجاهد وغيره: مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ أي: ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، كقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [سورة النحل:38] الآية، وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ أي: قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [سورة القمر:5].

قوله: وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ المكر معروف، وفسره بعضهم بجزاء مكرهم، وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ قالوا: أي عند الله جزاء مكرهم، أو أنه مكتوب عنده فيجازيهم عليه، وبعضهم يقول: وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ أي: عند الله مكرهم الذي يمكرهم به، والأول هو المتبادر، والله تعالى أعلم.

والمقصود بالمكر -والله أعلم- هو ما حصل منهم من التكذيب والسعي في الصد عن سبيل الله ، وإطفاء نوره، كما قال الله : وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [سورة الأنفال:30]، قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [سورة يونس:21].

وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن دابيل أن عليًا قال في هذه الآية وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ قال: أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسريْن صغيرين فرباهما حتى استغلظا واستفحلا وشبا، قال: فأوثق رِجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت وجوّعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت، قال: -ورفع في التابوت عصًا على رأسه اللحم- فطارا، وجعل يقول لصاحبه: انظر ما ترى؟ قال: أرى كذا وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كلها كأنها ذباب، قال: فصوِّب العصا، فصوبها فهبطا جميعًا، قال: فهو قوله : وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.

قال أبو إسحاق: وكذلك هي في قراءة عبد الله -: وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ.

هذه القراءة مروية عن بعض الصحابة كعمر وأبيّ وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، وهذه الرواية لعلها مأخوذة من الإسرائيليات، ولا شك أن فيها من الغرابة ما فيها، توضيح هذه الرواية: أن هذا النمرود جاء إلى نسور صغار فرباها، حتى قويت واشتدت، فجلس هو ورجل في تابوت وأوثق كل نسر على ناحية، ثم رفع عصا فيها لحم وهذه النسور مجوعة، فصارت تحاول الطيران من أجل أن تصل إلى هذا اللحم، فارتفع التابوت، حركت أجنحتها فارتفع التابوت، وفيه هؤلاء، ووصلوا إلى مكان مرتفع جدًا فصاروا ينظرون إلى الجبال كما في بعض الروايات يقول: أرى الجبال كالذباب، يعني صغيرة جدًا كما نرى في الطائرة، وقال: أرى الدنيا كالذباب، ثم بعد ذلك قال: صوِّب العصا، نزلْها، فنزلَها فصارت هذه النسور تتبع العصا، وصار لها جلبة قوية كادت الجبال أن تندك. فهذه الراوية فيها من الغرابة مافيها من أنها:

أولًا: النسور لا تستطيع أن تحمل تابوتًا فيه رجلان.

ثانيًا: هذه النسور مُجوّعة، لا تستطيع مع ضعفها والجهد الذي بلغ بها من الجوع أن تواصل حتى تصل إلى هذا المكان العالي جدًا في الارتفاع، وهي محملة بشيء ثقيل.

ثالثًا: أنه لما صوّب العصا ونزلها، نزلت النسور بسرعة ولم يحصل لهم أي شيء.

رابعًا: النمرود ملك عظيم جدًا، فلا يصل به الأمر إلى أنه يخاطر ويركب في تابوت مربوط بنسرين ويطير مثل المجنون، ويخاطر بملكه، وكان بإمكانه أن يربط عبدًا من عبيده أو أحد أتباعه ويضعه في التابوت، فهذه كلها وجوه للرد، وأن الإنسان لا يمكن أن يقبل مثل هذه المبالغات.

وعلى هذه القراءة وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، يعني: هذا لبيان شدة المكر أنه كادت الجبال تزول منه، وعلى هذه الرواية التي ذكرها أصلًا لا يصنع خفقان النسرين بالنسبة للجبال شيئًا، وعلى هذه القراءة وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لبيان شدة مكرهم، ويقال: حتى في هذه القراءة المشهورة وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، فسر وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ يعني: لشدته لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، يعني مكروا مكرًا شديدًا من شأنه أن يزيل الجبال لو وُجه إليها، وهذا هو المتبادر، يعني من شدة مكرهم، فإنه مكر كُبَّار عظيم يزيل الجبال، والعرب تعبر بمثل هذا، والله يقول: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ۝ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [سورة مريم:89-90]، فالكفر يقال عنه مثل هذا والكيد والمكر الشديد، هذا معنى، والمعنى الثاني يقابله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، باعتبار أن "إن" هنا نافية بمعنى "ما"، وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ أي: وما كان مكرهم لتزول منه، مكرهم ليس بشيء، لا قيمة له، عكس المعنى الأول.

وذكر مجاهد هذه القصة عن بُخْتنصَّر وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها، نودي أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق ثم سمع الصوت فوقه، فصوّب الرماح فصوّبت النسور.

ففزعت الجبال من هدتها، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك، فذلك قوله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.

ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها: لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ بفتح اللام الأولى وضم الثانية.

لَتَزُولُ، وهي قراءة الكسائي.

وروى العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ يقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وكذا قال الحسن البصري، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ما ضر شيئًا من الجبال ولا غيرها، وإِنما عاد وبال ذلك عليهم، قلت: ويشبه هذا قول الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ يقول: شركهم، كقوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ الآية، وهكذا قال الضحاك وقتادة.

قوله: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "أي شركهم، كقوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ"، أي شركهم، فيحتمل أن تكون "إن" هذه مخففة من الثقيلة، بمعنى أنها ليست نافية، وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، ويكون هذا بيانًا لشدة مكرهم، أنه كاد يزيل، أو من شأنه أن يزيل الجبال، يعني يبلغ الكيد إلى حد أنه لو وُجه إلى جبل لأزاله، والمقصود بمكرهم هو افتراؤهم على الله، وحربهم لرسله -عليهم الصلاة والسلام، وشركهم بالله .

لكن كلام ابن جرير يوجه الآية ويفسرها باعتبار أن ذلك لبيان ضعف أثر مكرهم، فلا يضرون إلا أنفسهم، وما يضرون الله شيئًا، ومكرهم لا أثر له، والله -تبارك وتعالى- يبطله، فمكرهم ماذا سيصنع؟ لن يزيل الجبال، تحقيرًا لهم ولما يبذلون، كالذي ينفخ على الشمس من أجل إطفائها، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [سورة الصف:8].

  1. رواه البخاري برقم (5142)، كتاب النفقات، باب ما يقول إذا فرغ من طعامه.
  2. رواه مسلم برقم (202)، كتاب الإيمان، باب دعاء النبي ﷺ لأمته وبكائه شفقة عليهم.
  3. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم، برقم (3290)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، برقم (1792)، من حديث عبد الله بن مسعود .
  4. رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، برقم (6030)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (675)
  5. رواه البخاري برقم (1294)، كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، ورواه بلفظ: "مالم أُنْه عنه" برقم (3671)، كتاب فضائل الصحابة، باب قصة أبي طالب، ومسلم برقم (24)، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة، ونسخ جواز الاستغفار للمشركين، والدليل على أن من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم، ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل.
  6. المستقصى في أمثال العرب لأبي القاسم الزمخشري (1/386)، دار الكتب العلمية -بيروت، ط2، سنة النشر: 1987م.

مواد ذات صلة