الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[12] من قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} الآية 73 إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآية 79.
تاريخ النشر: ٠١ / ذو الحجة / ١٤٢٨
التحميل: 3000
مرات الإستماع: 2249

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ۝ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:73، 74].

يقول تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون مَن دونه من الأصنام والأنداد والأوثان مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا، أي لا يقدر على إنزال مطر، ولا إنبات زرع ولا شجر، ولا يملكون ذلك لأنفسهم، أي ليس لهم ذلك، ولا يقدرون عليه لو أرادوه، ولهذا قال تعالى: فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ: أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً؛ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ: أي إنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ.

قوله: شَيْئًا هنا يحتمل أن يكون بدلاً من الرزق، وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا ما لا يملك لهم شيئاً، والمعنى على هذا ظاهر، ويحتمل أن يكون شَيْئًا منصوباً بإيقاع الرزق عليه، وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا: أي: ما لا يملك لهم رزقاً شيئاً، يعني لا يرزقهم شيئاً، والذي لا يملك شيئاً من الرزق لا يستحق أن يكون إلهاً يعبد، ويمكن أن يكون توكيداً لقوله: لاَ يَمْلِكُ.

ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة النحل:75].

قال العوفي عن ابن عباس -ا: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن، وكذا قال قتادة، واختاره ابن جرير، فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر، والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سراً وجهراً هو المؤمن، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهراً واضحاً بيناً لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.

قوله -تبارك وتعالى: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا معلوم أن العبد مملوك، فهذه صفة كاشفة، ولماذا جيء بها هنا؟، لماذا لم يقل الله : "ضرب الله مثلاً مملوكاً" أو "مثلاً عبداً"؟ يمكن أن يقال بأن الجميع هم عباد الله ، وإنما المقصود هنا بالعبد: الرقيق الذي يباع ويشترى، وليس المراد بالعبودية هنا العبودية لله تعالى، عَبْدًا مَّمْلُوكًا، ووصفه هنا بأنه لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ؛ وهذا وصف آخر، عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هذه الصفة الثالثة.

ويمكن أن يقال: جيء بهذه الصفة باعتبار أن المكاتب يملك بعض التصرف، وهو لا زال يتصف بالرق، وهكذا أيضاً المأذون له من الأرقّاء في بعض التصرف، لكن هذا عبد مملوك غير مأذون له ولا يملك شيئاً من الحرية، فرقّه رقٌّ كامل، وهذه الآية ورد عن ابن عباس -ا- أنها نزلت في هشام بن عمر ومملوك له، هشام بن عمر كان ينفق ويبذل، وهذا المملوك بخلافه تماماً بل كان ينهاه عن النفقة، ويحثه على تركها، وهذا المملوك يقال له: أبو الجوزاء.

يقول هنا: قال العوفي عن ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هذا هو الكافر، وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هذا المسلم، قال: وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير.

وقال مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، للوثن: يعني لما عُبد من دون الله، يعني للآلهة المزعومة التي تعبد من دون الله، فالعبد المملوك المقصود به الوثن الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً، والذي يتصرف التصرف المشار إليه من آتاه الله مالاً فهو ينفق منه سراً وجهراً، فيكون مثلاً ضربه الله لنفسه، فهل يستوي هذا وهذا؟

وبعضهم يقول: هذا المثل ضربه الله : العبد المملوك للوثن، ومن أعطاه الله مالاً ينفق منه سراً وجهراً هذا لعابد الوثن، فهو خير منه وأشرف منه، كيف يعبد حجراً؟ كيف يعبد ما لا يملك ولا ينفع ولا يضر؟ كيف ينحط الإنسان إلى هذه المرتبة؟!

وقوله -تبارك وتعالى: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً [سورة هود:24]: يعني لا يستويان في الصفة بوجه من الوجوه وحال من الأحوال، فأين من يملك التصرف ومن لا ينفع ولا يضر ولا يملك هو شيئاً لنفسه، ولا يشعر بعابديه؟ ومعنى هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً: أي لا يستويان مثلاً، ونفي الاستواء يحمل على أعم المعاني، لا يستويان في شيء من الأشياء بحال من الأحوال، لا في القدرة ولا في التصرف ولا في الملك.

وقوله -تبارك وتعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ بَلْ أَكْثَرُهُمْ وصف أكثرهم بأنهم لا يعلمون يمكن أن يقال بأن إطلاق ذلك على الأكثر يراد به الكل، وهذا كثير في القرآن، وأحياناً يعبر بعبارة أخرى، كأن يقول: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88] أو نحو هذا باعتبار أن القليل ينزل منزلة العدم، أي لا يؤمنون أو لا يعقلون، وهنا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ عبر بالأكثر وأراد الكل، باعتبار أن ما خرج عن الأكثر غير معتبر؛ لأن الشاذ والقليل لا حكم له، ويمكن أن يكون هذا باعتبار الخلق عموماً بَلْ أَكْثَرُهُمْ: يعني أكثر الخلق، لاَ يَعْلَمُونَ وقليل من هؤلاء الخلق هم أهل الإيمان والعلم الذين يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أهل الإشراك باعتبار أن أكثر المشركين لا يعلمون، وفيهم من يعلم ولكنه لم ينتفع بعلمه، ويوجد قلة منهم يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا حقيقة لها، والله أعلم.

وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة النحل:76].

قال مجاهد: وهذا أيضاً المراد به الوثن والحق تعالى، يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية، فلا مقال ولا فعال، وهو مع هذا كَلٌّ أي عِيال وكلفة على مولاه أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ: أي يبعثه لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ ولا ينجح مسعاه هَلْ يَسْتَوِي مَن هذه صفاته وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ: أي بالقسط، فمقاله حق وفعاله مستقيمة، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا: هو مثل للكافر والمؤمن أيضاً كما تقدم.

هنا نقل عن مجاهد -رحمه الله- مثل ما جاء في المثل الأول، فهو يرى أن المثل الأول عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ في الوثن وفي الله -تبارك وتعالى، وهذا المثل الثاني أيضاً يرى أنه كذلك، وابن جرير -رحمه الله- وافقه في هذا المثل الثاني على أنه في الله وفي الوثن، وأما في المثل الأول فوافق ابن عباس، في أنه مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن، وابن عباس -ا- يقول في المثل الثاني كما قال في المثل الأول، فصار عندنا الآن قول مجاهد أنه في الله وفي الوثن، المثل الأول والثاني، وقول ابن عباس أنه في الكافر والمؤمن في الأول والثاني، وابن جرير وافق ابن عباس في المثل الأول ووافق مجاهداً في المثل الثاني، وهذا المثل الثاني: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ جاء أيضاً عن ابن عباس أنها نزلت في عثمان بن عفان وكان عنده مملوك يكره الإسلام، وهو كما وصفه الله كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ.

وعلى كل حال هذا مثل، وكما نعلم ”العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب“، فالله يضرب لهؤلاء الأمثال في عبادتهم لغير الله -تبارك وتعالى- كيف يعبدون من لا يضرهم ولا ينفعهم، كيف يعبدون العاجز الذي لا يملك التصرف، ويتركون الله -تبارك وتعالى- وعبادته الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، ويملك النفع والضر.

وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة النحل:77-79].

يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء، في علمه غيب السموات والأرض، واختصاصه بعلم الغيب، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء، وفي قدرته التامة التي لا تخالَف ولا تمانَع، وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، كما قال: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50]: أي: فيكون ما يريد كطرف العين، وهكذا قال ههنا: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كما قال: مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة لقمان:28].

ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسون المرئيات، والأفئدة وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح، وقيل: الدماغ، والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلاً قليلاً، كلما كبر زِيدَ في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشدَّه، وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه.

كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: يقول تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه [1].

فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله ، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله، أي ما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله ، مستعيناً بالله في ذلك كله؛ ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله: ورجله التي يمشي بها: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ولهذا قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة النحل:78] كقوله تعالى في الآية الأخرى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ۝ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الملك:23-24].

ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض، كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء، ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك، وسخر الهواء يحملها ويسير الطير كذلك، كما قال تعالى في سورة الملك: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [سورة الملك:19] وقال ههنا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

قوله -تبارك وتعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يحتمل أن يكون المراد أن الله -تبارك وتعالى- قادر على أن يأتي بها في لمح البصر أو أسرع من لمح البصر، وكما قال الله -تبارك وتعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50]

وبعض أهل العلم يقول: هذا في قربها عند الله -تبارك وتعالى- أي وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ في قربها بالنسبة لله -تبارك وتعالى- إلا كلمح البصر أو هو أقرب، وأما بالنسبة إلى الكفار الذين يستبعدون وقوعها فهي بعيدة الوقوع، لا يتوقعون وقوعها ولا يرجون ذلك، والله يقول: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ۝ وَنَرَاهُ قَرِيبًا [سورة المعارج:6، 7]: أي يوم القيامة.

والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد بذلك أن وقوع الساعة كلمح البصر، أي: أنها تقع بسرعة، كما أخبر النبي ﷺ في الحديث الذي يذكر فيه قيام الساعة، وذكر فيه أمورًا منها: أن الرجلين يتبايعان الثوب فينشرانه فتقوم الساعة ولا يقع هذا البيع، والآخر الذي يصلح حوضه فلا يسقي منه، والآخر الذي يرفع الإناء إلى فيه ليشرب فلا يشربه[2]، وهكذا، فشأنها كما وصف من سرعة وقوعها، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وهذا يدل على كمال قدرة الله -تبارك وتعالى.

وقوله -تبارك وتعالى: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ هذا يقال فيه ما قيل في بعض نظائره، كقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147]، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه:44]، والله يعلم أنه لا يتذكر ولا يخشى، لكن عبر بلعل، لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ التي للترجي، فمثل هذا -كما ذكرنا من قبل- من أهل العلم من يقول: إن الخطاب أو الكلام خرج فيه بحسب نظر المخاطب، فأمر الساعة بالنسبة إلى المخاطبين كلمح البصر أو هو أقرب، أما الله فهو يعلم ذلك بدقة، لا يخفى عليه شيء، أو تفسر (أو) بمعنى (بل) وعلى كل حال سبق الكلام على هذا المعنى، والله تعالى أعلم، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، وبعض أهل العلم يقول: إنه جيء بأو هنا أَوْ هُوَ أَقْرَبُ: للإبهام على المخاطبين.

وقوله: أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ، معنى مَا يُمْسِكُهُنَّ: ليس معناه ما يقبضهن كما قد يتوهم البعض، وإنما المقصود مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ: أي ما يقيمهن بين السماء والأرض فتحلق هذا التحليق، وتصفّ أجنحتها تارة وتحركها تارة وهي غير معلقة بشيء، ولا معتمدة على شيء، ولها جرم، وتقوم على هذا الهواء اللطيف ولا تسقط، من الذي يقيمها؟ هو الله -تبارك وتعالى، هذا معنى مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ، كما قال الله : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا [سورة فاطر:41].

  1. سنن البيهقي الكبرى:3/346) (6188) وأصله في البخاري.
  2. أخرجه الحاكم في المستدرك:4/582) برقم:8622) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

 

مواد ذات صلة