الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[23] من قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية 85 إلى قوله تعالى: {هَلْ كُنتُ إَلاّ بَشَراً رّسُولاً} الآية 93
تاريخ النشر: ١٦ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 2477
مرات الإستماع: 2051

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:85].

وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن عبد الله بن مسعود قال: بينا أنا أمشي مع النبي ﷺ في حرث وهو متوكئ على عَسِيب، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابُكُم إليه؟ وقال بعضهم: لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبي ﷺ، فلم يرد عليهم شيئاً، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي[1] الآية، وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية، وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية.

وقد روى ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله ﷺ عن الروح، فأنزل الله وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ الآية، فقالوا: تزعم أنا لم نؤتَ من العلم إلا قليلاً، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [سورة البقرة:269]، قال: فنزلت: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [سورة لقمان:27] الآية، قال: ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ الآية: وذلك أن اليهود قالوا للنبي ﷺ: أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فلم يُحِر إليهم شيئاً، فأتاه جبريل فقال له: قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً، فأخبرهم النبي ﷺ بذلك، فقالوا: من جاءك بهذا؟ قال: جاءني به جبريل من عند الله فقالوا له: والله ما قاله لك إلا عدونا، فأنزل الله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة البقرة:97][2].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الروايات التي أوردها المصنف -رحمه الله- في سبب نزول هذه الآية كلها تدل على أن هذه الآية نزلت بسبب سؤال اليهود، وإنما كان ذلك بالمدينة، والرواية الأولى في صحيح البخاري، وجاء في بعض روايات هذا الحديث أنه قال: فرفع رأسه فعلمت أنه يوحى إليه، وهذه الرواية سواء بهذا اللفظ أو اللفظ الذي أورده المصنف -رحمه الله- ليست بصريحة في أن ذلك هو سبب النزول، فقد يكون سكت ورفع رأسه ينتظر نزول الوحي فلم ينزل عليه شيء بخصوصه فيما يتعلق بهذا الموضوع، فذكر لهم الآية التي نزلت عليه بمكة، فقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي​​​​، فابن مسعود يقول: علمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال: وَيَسْأَلُونَكَ، يحتمل أن الملك نزل إليه وأمره أن يقرأ عليهم آية الإسراء، فالله تعالى أعلم.

والروايات الأخرى التي أوردها ابن جرير عن عكرمة: سأل أهل الكتاب، وهي رواية مرسلة، والمرسل من أقسام الضعيف، والرواية الأخرى أيضاً من طريق العوفي عن ابن عباس ضعيفة، وإن كان اليهود هم الذين سألوا، فرواية البخاري تشهد له، وكذلك أيضاً قول اليهود: من صاحبك؟ يسألونه، فلما ذكر جبريل قالوا: ذاك عدونا، هذا صح في غير هذه الرواية، فيكون ذلك شاهداً له، وأيضاً ثبت في أسباب النزول أنها نزلت بسبب سؤال المشركين بمكة، ولكن ذلك ليس في الصحيحين -أن المشركين سألوا النبي ﷺ عن الروح، وهذا موافق لكون السورة مكية.

فمن أهل العلم في مثل هذا من يعمد إلى الترجيح، والترجيح له طرق كثيرة، فيمكن أن يرجح الرواية التي دلت على أن ذلك قد نزل بسبب سؤال المشركين بمكة باعتبار أن السورة مكية، هذا وجه، ويمكن أن ترجح الرواية الدالة على أنها في المدينة، حديث ابن مسعود لكونه أقوى من جهة الثبوت والصحة، وكذلك أيضاً لكون ابن مسعود راوي الحديث حاضر القصة، يقول: بينا أنا أمشي مع رسول الله ﷺ في حرث وهو متوكئ على عسيب، فمن شهد هذا مُرجَّحٌ على غيره.

وقد يقال وهو الأحسن -والله تعالى أعلم: إن الآية نزلت بمكة بسبب سؤال المشركين، ولا يمنع ذلك من أن تنزل ثانية بالمدينة، فإن من القرآن ما يتكرر نزوله، ومما يُقطع به في هذا أن الأحرف السبعة نزلت الأحرف الستة منها في المدينة، ولم ينزل شيء منها في مكة، وإنما كان ينزل على حرف قريش، ولما هاجر النبي ﷺ نزلت عليه باقي الأحرف، وهذه الأحرف لا تختص بالسور النازلة في المدينة قطعاً، وإنما هي أيضاً في السور المكية، ومعنى ذلك أن تلك الآيات والسور أو الأوجه الأخرى من القراءة نزلت في المدينة، ليس كل السورة ولكن الآيات التي فيها أوجه أخرى من القراءة نزلت في المدينة، يعني سورة الفاتحة مكية، فـمَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4]، ومالك يَوْمِ الدِّينِ، أحد القراءتين نازلة في المدينة، فهذا مثال واضح لا ينازع فيه، يبقى الكلام في مثل هذا في أسباب النزول.

قال بعض أهل العلم: إن تكرار النزول خلاف الأصل، والفائدة من تكرار النزول كما يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بأن الآية قد تنزل ثانية تذكيراً بالحكم وتأكيداً له، وأن حكم هذه الواقعة هو حكم ما سبق، ويوجد لهذا نظائر كثيرة وإن كانت لا تخلو من ضعف بمفردها، لكن مجموعها يحصل به قوة، ويعضد بعضها بعضاً فيما يتعلق بسبب النزول كقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126]، قيل بأنها نزلت بعد أحد، لما قتل من قتل من الصحابة ومثل بحمزة -، وصح أيضاً أنها نزلت عام الفتح، فيمكن أن تكون الآية نزلت مرتين، ولما قال المشركون للنبي ﷺ صف لنا ربك فنزلت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، وسأله اليهود أيضاً فنزلت هذه السورة.

وذلك غير ممتنع -والله تعالى أعلم، فمثل هذا أحسن من الترجيح؛ لأن الترجيح إهدار لبعض هذه الروايات الصحيحة، لكن إذا تعددت هذه المرويات وعلمنا تقارب الزمان فيمكن أن نقول بأن الآية نزلت بعد هذه الأحداث جميعاً، مثل آية اللعان، لما جاء عويمر العجلاني ورمى امرأته وقذفها بالزنا فنزلت آية اللعان وكذلك أيضاً لما جاء هلال بن أمية وقذف امرأته بالزنا فيمكن أن يقال: إن هذه الحوادث وقعت متقاربة.

وهكذا صدر سورة التحريم لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، يمكن أن يقال -والله أعلم: إن هذه الروايات في الصحيحين وفي غيرهما أن ذلك نزل بسبب شربه ﷺ العسل عند بعض نسائه، وصح أيضاً أنه نزل بسبب الجارية لما وقع عليها، فلابد من القول -إذا أردنا أن نجمع بين القولين- بأن ذلك وقع في زمان متقارب؛ لأن ذلك لا يمكن أن يقال: إنه تكرر فيها النزول؛ لأن ذلك لا يمكن أن يقع، ومثل ذلك قصة هلال بن أمية -"اللعان"، والسبب أن النبي ﷺ لا يمكن أن يقول لمن جاءه يقذف امرأته بالزنا وقد نزل عليه فيه اللعان، أن يقول له: البينة أو حد في ظهرك[3]، وإنما سيرشده إلى الملاعنة، -والله تعالى أعلم.

ورواية العوفي عن ابن عباس لو صحت فهي صريحة في أنهم سألوا عن الروح التي تعمر الجسد، وليس كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- بأنه ملك من الملائكة، مع أن ابن القيم -رحمه الله- عزا ذلك إلى المفسرين من السلف، والسلف لم يتفقوا على هذا المعنى، بل تفرقت أقوالهم فيه كما تقدم -والله أعلم.

ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء، كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسماً خاصاً، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها ماءً صار ماءً مُصْطاراً أو خمراً، ولا يقال له "ماء" حينئذ إلا على سبيل المجاز، وكذا لا يقال للنفس "روح" إلا على هذا النحو، وكذا لا يقال للروح "نفس" إلا باعتبار ما تئول إليه، فحاصل ما نقول: إن الروح هي أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن، فهي هي من وجه، لا من كل وجه، وهذا معنى حسن، والله أعلم.

قلت: وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها، وصنفوا في ذلك كتباً، ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده في كتاب سمعناه في الروح.

الروح أمر غيبي، ويكفي أن نقول بأنها هي التي تعمر الجسد، أما ماهيتها فذلك مما اختص الله -تبارك وتعالى- به، والكلام الذي أورده ابن كثير -رحمه الله- هنا يتعلق بالفرق بين النفس والروح، حاصله أن الروح هي أصل النفس، ولكن ذلك يكون بعد ملابسة الروح للجسد، فإذا اتصلت بالجسد قيل لها: نفس، وأما بمفردها فلا يقال لها: نفس، وهو كلام له حظ من النظر، لكن القطع بهذا لا شك أنه يتوقف على معرفة حقيقة الروح، فمن الناس من يقول: النفس هي الروح، ومنهم من يفرق بينهما، فهذا من الفروق التي لها حظ من النظر، والعلم عند الله -، فروح الإنسان إذا خرجت وهي منفردة عن الجسد يقال لها روح، ولا يقال لها نفس إلا إذا كانت متصلة بالجسد، فإذا انفكت منه قيل لها: روح، ومجموع الروح والجسد يقال له: إنسان، والجسد بلا روح يقال له: جثمان، ولا يقال: نفخ الملَك فيه النفْس، وإنما يقال: نفخ الملك فيه الروح، -والله أعلم.

وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ۝ إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ۝ قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ۝ وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً [سورة الإسراء:86-89].

يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم ﷺ فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، قال ابن مسعود -: يطرق الناسَ ريحٌ حمراء -يعني في آخر الزمان- من قبل الشام، فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية، ثم قرأ ابن مسعود: وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ الآية.

صح عن النبي ﷺ أنه يسرى على القرآن في ليلة وذلك في آخر الزمان، فالآية التي ذكرها الله هنا ليس المقصود بها آخر الزمان، وإنما يقول الله لنبيه ﷺ: وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر، فالذي أنزله عليك قادر على رفعه ومحوه ثم لا تجد من يتوكل علينا في رد شيء منه بعد أن ذهبنا به، ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً يتوكل برده بعد رفعه، فالله -تبارك وتعالى- على كل شيء قدير.

وقوله: وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ۝ إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ، يحتمل أن يكون الاستثناء متصلاً، ويحتمل أن يكون الاستثناء منفصلاً منقطعاً، فإذا كان الاستثناء متصلاً فالمعنى إلا أن يرحمك ربك فلا نذهب به، وإذا كان منقطعاً يكون بمعنى لكن، فيكون المعنى لكن لا يشاء ذلك؛ رحمة من ربك، أي لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، والفرق بين المعنيين واضح.

ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له؟!.

وقوله: وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ الآية، أي بيّنا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه، ومع هذا فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً أي: جحوداً للحق ورداً للصواب.

وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً ۝ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ۝ أَوْ تُسْقِطَ السّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ۝ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىَ فِي السّمَاءِ وَلَن نّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاّ بَشَراً رّسُولاً [سورة الإسراء:90-93].

روى ابن جرير عن محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس -ا: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلاً من بني عبد الدار.

قوله: عن محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر، الشيخ من أهل مصر تبيّنه بعض الروايات الأخرى وهو محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت وهو مجهول.

وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج السهميين، اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله ﷺ سريعاً وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنَتُهم حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رَئِيّاً تراه قد غلب عليك- وكانوا يسمون التابع من الجن الرَّئِيَّ- فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال رسول الله ﷺ: ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإنْ تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم[4]، أو كما قال رسول الله ﷺ تسليماً.

فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليُسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك، صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولاً كما تقول، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جناتٍ وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال لهم رسول الله ﷺ: ذلك إلى الله، إن شاء فعل بكم ذلك.

فقالوا: يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب؟ فيتقدم إليك ويعلمك ما تُراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يُعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نَهلك أو تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، فلما قالوا ذلك، قام رسول الله ﷺ عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب، فو الله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله ﷺ، وانصرف رسول الله ﷺ إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه، ولمِا رأى من مباعدتهم إياه[5].

هذه الرواية ضعيفة، وقد يتساهل بها في السيرة، ولكن عند الكلام على أسباب النزول لابد من تطبيق شروط المحدِّثين.

وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشاداً لأُجيبوا إليه، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفراً وعناداً له، فقيل لرسول الله ﷺ: إن شئت أعطيناهم ما سألوا، فإن كفروا عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة؟ فقال: بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة[6]، وهذا قوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [سورة الإسراء:59]، وقال تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ۝ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ۝ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ۝ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ۝ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [سورة الفرقان:7-11].

فائدة:

لا يوجد ما يدل على أن الإنسان إذا جاء في الآخرة أنه ينسى ما علم، والله يقول: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [سورة المجادلة:11]، فهذا تفاوت بين مراتب أهل الإيمان، فأعلاهم في المراتب هم أهل العلم، ورأسُهم رسول الله ﷺ، والنبي ﷺ أخبر أن معاذ بن جبل يُبعث متقدماً على العلماء بِرَتْوة[7]، قيل: يعني موضع رمية، وقيل غير ذلك.

والعلم الذي يرتفع به الإنسان في الآخرة هو العلم بالله ودينه وشرعه، ودار جزائه، هذا هو العلم، وكل ما ورد في فضل العلم فهو محمول على هذا، من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً[8] إلى آخره، ولا يزهد الناس بالعلوم النافعة، فإن هذا يؤجر الإنسان عليه إذا كان له فيه نية، والناس أيضاً يتفاضلون فيه، فأشرف هذه العلوم بعد العلم الشرعي هو علم طب الأبدان، فهو علم شريف، ثم بعد ذلك تأتي العلوم الأخرى بحسب الحاجة إليها.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [سورة الإسراء:85]، برقم (4444)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب سؤال اليهود النبي ﷺ عن الروح وقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، برقم (2794).
  2. رواه الإمام الطبري في تفسيره(17/543).
  3. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة، برقم (2526)، من حديث ابن عباس -ا.
  4. رواه ابن جرير في تفسيره (17/556).
  5. رواه ابن جرير في تفسيره (17/556).
  6. رواه أحمد في المسند (4/60)، برقم (2166)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (17510)، والطبراني في الكبير برقم (12736)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3388).
  7. رواه الحاكم في المستدرك برقم (5170)، ورقم (5175)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (40)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5880).
  8. رواه مسلم من حديث أبي هريرة -، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2699).

مواد ذات صلة