الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[4] من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} الآية 19 إلى قوله تعالى: { وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} الآية 22
تاريخ النشر: ٢٥ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 3107
مرات الإستماع: 5626

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ۝ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [سورة الكهف:19، 20]

يقول تعالى: وكما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين؛ ولهذا تساءلوا بينهم: كَمْ لَبِثْتُمْ، أي: كم رقدتم؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار واستيقاظهم كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ أي: فضتكم هذه، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها؛ فلهذا قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أي: مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد، فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا أي: أطيب طعاماً، كقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا[النور:21] وقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14] ومنه الزكاة التي تُطيب المال وتطهره.

وقوله: وَلْيَتَلَطَّفْ أي: في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه، يقولون: وَلْيَتخَفَّ كل ما يقدر عليه، وَلا يُشْعِرَنَّ أي: ولا يعلمن، بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أي: إن علموا بمكانكم، يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ يعنون أصحاب دقيانوس، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة؛ ولهذا قال: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:19] كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فيه إجمال، أي: أطيب طعاماً.

وابن جرير -رحمه الله- يرى أن المعنى أي: ينظر أيَّ أهل المدينة أطيب طعاماً وأحل من جهة المكاسب وأطهر، وهذا القول يختلف عن قول من قال: أَزْكَى طَعَامًا، أي: ينظر في الأطيب من الطعام من حيث هو.

ولكن لا يخفى أن بين القولين ملازمة، فإذا كانت مكاسب هذا الطعام محرمة فإنه يكون حراماً بهذا الاعتبار، يقال: أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا أي: من جهة مكسبه، ومن حيث ذاته حيث هو، فيأتي بالطعام الطيب الذي لا شبهة فيه.

وعلى كل حال بهذا الاعتبار يمكن أن يفهم المعنى، والله أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ يقول ابن كثير -رحمه الله: "فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة".

يَرْجُمُوكُمْ الرجم يحتمل أن يكون المقصود به الرجم بالحجارة كما قاله بعض أهل التفسير، ومنهم من يقول: أي: يرجموكم بالشتم بالقول، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

وسبق الكلام على الاستعاذة وأن المراد بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يحتمل أن يكون المرجوم فعيلاً بمعنى مفعول أي مرجوم، والشيطان ليس المراد أنه مرجوم بالحجارة، وإنما يرجم بالسب واللعن والشتم وما إلى ذلك، ويحتمل أن يكون بمعنى راجم، أي: أنه يرجم الناس بالوساوس والخواطر والأفكار السيئة.

وهكذا في قوله تعالى: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [سورة مريم46]، يحتمل أن يكون المعنى: لَأَرْجُمَنَّكَ يعني بالقول، ويحتمل أيضاً أن يكون بالحجارة.

قوله: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21].

يقول تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أي: أطلعنا عليهم الناس، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ذكر غير واحد من السلف: أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة.

وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك.

وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه...

في قوله: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [سورة الكهف:21]، لِيَعْلَمُوا يحتمل أن يكون ذلك عائداً إلى أصحاب الكهف ليعلموا قدرة الله من حيث اللفظ، ولكنه في غاية البعد؛ لأن ذلك ربط بقوله: أَعْثَرْنَا، ويأباه السياق تماماً، فلو أنه قال: كذلك بعثناهم ليعلموا أن وعد الله حق فهذا واضح.

وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة، حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس.

وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، فجعل لا يرى شيئًا من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها، لا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة، ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضَرْبها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا قد وجد كنزاً، فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنز، ومن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره، وهو متحير في حاله، وما هو فيه، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف -ملك البلد وأهلها، حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، وكان مسلماً فيما قيل واسمه يندوسيس ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه، وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله ، فالله أعلم.

هذا كله ملتقى عن بني إسرائيل.

وقوله: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم.

ويحتمل: إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ يحتمل أن المراد بذلك أصحاب الكهف، أي: في أصحاب الكهف، والله أعلم.

كثير من المفسرين يقولون: إن المراد بذلك البعث والقيامة، فأراد الله أن يبين لهم وأن يقررهم إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ، وإذا كان المعنى كذلك فلا يصح معه أن يقال بأن الملك الذي أدركهم كان مسلما، وأن الأحوال قد تبدلت بعد أولئك الكفار.

ويحتمل أن يكون المعنى يتنازعون في شأن القيامة في إثباتها ونفيها، ويحتمل: يتنازعون بينهم أمرهم، أي: أصحاب الكهف حينما عثروا عليهم.

قوله: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا.

قوله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ يحتمل أن يكون المعنى متصلاً لفظاً ومعنى، يعني: أن ذلك من قول هؤلاء القائلين ومن تمامه.

ويحتمل أن يكون ذلك من الموصول لفظاً المفصول معنى، ويكون ذلك من قول الله : فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا، قال الله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ، ولكن الأول أقرب، والأصل في الكلام الاتصال، وأنه من مقول متكلم واحد.

قوله: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21] الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا ؟

الراجح أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، يعني: الملك ومن معه، قالوا: لأن هؤلاء هم أهل الغلبة، وبعضهم يقول: الذين قالوا ذلك هم أهل الإيمان، وهذا يخالف قول من قال بأن الملك كان مسلماً، ولا دليل على هذا، ويزعم هؤلاء الذين قالوا بأن ذلك من قول أهل الإيمان أنهم ذكروا المسجد: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا

والواقع أن مثل هذا لا يصدر من أهل الإيمان بل يكون من القبوريين المشركين والوثنيين الذين يعبدون الأضرحة والمشاهد وما أشبه هذا؛ ولهذا إذا قلنا بأن ذلك لا يكون من أهل الإيمان فإن هذا الفعل يكون من أهل الإشراك ولا عبرة بقولهم ولا فعلهم، وهذا هو الأقرب، والدليل على ذلك: أن النبي ﷺ قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[1].

وقد يقول قائل: لعل هذا كان جائزاً في زمانهم وفي عهدهم، ولكن هذا الفهم أو الاحتمال غير صحيح، بدليل اللعن كيف يكون جائزاً في زمانهم ويلحقهم اللعن بسببه؟ لا يمكن، فعن عائشة -ا: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله ﷺ: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله[2].

ففعل هؤلاء غير محمود، ثم إن الشريعة جاءت بتحريم الشرك وذرائع الشرك، ولا شك أن بناء المساجد على القبور من أعظم ذرائع الشرك، وعليه يكون المعنى في قوله: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا أنه من كلام أهل الكلمة والنفوذ وهم غير مسلمين، ولا يفهم من هذا أن الملك كان مسلما، كما ذكرت الروايات الإسرائيلية .

الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر؛ لأن النبي ﷺ قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، يحذر ما فعلوا[3]، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يُخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها.

الذي وُجد ليس قبر دانيال، وإنما الذي وجد هو دانيال، كان في بيت المال عند الفرس، رجل مسجى لم يتغير فيه شيء، وكانوا إذا أجدبوا خرجوا يستسقون به، يقال: إن هذا هو دانيال وعنده رقعة، يعني: عنده كتاب أو ورق أو جلد مكتوب فيه، ويقال: إنه من أنبياء بني إسرائيل ممن أخذهم بُخْتُنَصَّر في خراب بيت المقدس، أخذ كثيراً من أشرافهم أولادَ الأنبياء وخلقاً لا يحصيهم إلا الله، وقتل من قتل وأخذ هؤلاء معه إلى العراق، يقال: إن من جملة من أخذهم دانيال، ويقال: إنه حبسه في بئر، والله تعالى أعلم.

وقد أمر عمر بن الخطاب أن يُحفر له بالليل قبور متعددة ويوضع في واحد منها ويعمّى خبره، وهذا الذي قد حصل.

وهناك قاعدة ذكرها أهل العلم، وهي: أن ما يذكره الله في القرآن من حكاية قول القائلين، فإما أن يعقبه بما يشعر برده أو يسكت عنه، فإذا عقب بما يشعر برده فهذا واضح في بطلانه، إما أن يذكر ذلك قبله أو معه أو بعده، وإما أن يسكت عنه، فدل ذلك على صحته، غالباً، فمثلا قوله –تبارك وتعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة111]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة البقرة113]، وتارة يذكر ما هو حق وباطل: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف28]، فيُبطل أحد الأمرين ويسكت عن الآخر مما يدل على صحته: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا فدل على صحتها، وسيأتي في قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [سورة الكهف:22].

قوله: رَجْمًا بِالْغَيْبِ دل على بطلان هذه الأقوال.

ثم قال: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [سورة الكهف:22]، ولم يقل: رَجْمًا بِالْغَيْبِ، فاستنبط جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام، ومنهم الحافظ ابن كثير أن ذلك هو الصحيح؛ ولهذا قال ابن عباس -ا- وبعض التابعين إنهم من القليل الذين علموه.

فقوله: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21]، لم يعقب الله –تبارك  وتعالى– على بطلان هذا القول، وقد احتج القبوريون على صحة فعلهم في عبادة القبور بهذه الآية، ويرد عليهم من وجهين:

الأول: أن القواعد أغلبية، فنقول في القاعدة: هي أغلبية، يعني: إن سكت عنه لم يذكر معه أو قبله أو بعده ما يدل على بطلانه، فهذا يدل على صحته غالباً وليس دائماً، فالقواعد لها مستثنيات فيكون هذا واحداً من الصور الخارجة عن القاعدة.

الثاني: لو فرض أن عبادة القبور كان جائزاً في شريعتهم، فإنه لا يجوز في شريعة من الشرائع أن يعبد غير الله -، وهذا قد حرم بهذه الشريعة، وهذه الشريعة أكمل الشرائع، وفيها من سد الذرائع الموصلة إلى الشرك ما ليس في غيرها، فحرمه الله علينا، وشرع من قبلنا إذا وُجد في شرعنا ما يدل على تحريمه ومنعه فلا شك قطعاً بالاتفاق أنه ليس بشرع لنا، هذا أمر متفق عليه، وإن اختلف في أصل القاعدة. فلا يترك المنصوص الصريح الواضح لأمر فيه احتمال، لا يجزم به.

قوله:وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.

وقوله: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به، وإلا وَقَفْنَا حيث وقَّفنا.

وقوله: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ أي: من الناس، قال قتادة: قال ابن عباس -ا: أنا من القليل الذي استثنى الله ، كانوا سبعة.

وكذا روى ابن جريج، عن عطاء الخرساني عنه أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله ، ويقول: عدتهم سبعة.

وروى ابن جرير عن ابن عباس -ا: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ قال: أنا من القليل، كانوا سبعة.

فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس -ا- أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.

قال تعالى: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا أي: سهلاً هيناً؛ فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب، أي: من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.

قوله -تبارك وتعالى: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا [سورة الكهف:22]، أي: سهلاً هيناً، المقصود أن الإنسان لا يتعمق في هذا ولا يكثر من الجدل والتمحل فيه، وإنما يذكر ما عنده أو ما عرفه في هذا مما أوحى الله إلى نبيه ﷺ دون الدخول معهم في مراء في هذه القضية التي لا علم لهم بها، ولا يترتب عليها كبير فائدة، وهذا أدبٌ أدَّبَ الله به نبيه ﷺ وهو القدوة والمقدم بحيث تكون الأمة بهذه الصفة، وأن يترك الواحد المراء والجدل وإن كان محقا.

فالإنسان الذي يريد أن يقرر الباطل أو يدحض الحق أو يريد الجدال لمجرد الجدال أو لشهوة في نفسه وهوى فمثل هذا لا يجادل في الأصل.

وكذلك إذا كانت القضية التي يجادل فيها مما لا يترتب عليه عمل ولا فائدة؛ ولهذا كره السلف البحث والتنقير والجدل فيما يسمى بالأغاليط وصعاب المسائل وتتبع ذلك والاشتغال به، وهكذا الاشتغال بكل ما لا يترتب عليه عمل أو لا يكاد يقع أصلاً، وهذا الذي وقع فيه المتكلمون بطوائفهم المختلفة فاشتغلوا بالقيل والقال والجدال العقيم الذي لا ينبني عليه عمل ولا يقرب إلى الله وإنما صار الأمر كما قال بعضهم:

نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

فمثل هذا ما الفائدة منه، وإنما ينتج منه الحيرة والاضطراب والتنقل من دين إلى دين واعتقاد إلى اعتقاد، كما قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل، والمنقول عن السلف كثير في ذم هذا الصنيع والتحذير منه، وأن ذلك لا يجدي على أهله نفعاً؛ ولهذا كان بعض الذين وقعوا في هذا الأمر يقول: أضع الملحفة على وجهي وأصابح الصبح وأقارن بين أقوال هؤلاء وهؤلاء ولا يتبين لي من ذلك شيء، والآخر يقول: أموت وما عرفت إلا أن الممكن يفتقر إلى الموجد والافتقار أمر سلبي، أموت وما عرفت شيئاً، والجويني رجل قد خبر هذه الأمور وعرفها يقول عند موته: أموت على عقيدة عجائز نيسابور.

فالاشتغال بالجدل في أمر لا فائدة فيه ولا طائل تحته -سواء كان ذلك في أمور الاعتقاد أو في الأمور العملية- هذا أمر لا يجدي، فيعرض الإنسان عنه ولا يقف عنده، ويمكن أن يذكر ما عنده أو ما عرفه دون التعمق وقطع الزمان بمثل هذه الأمور، والله تعالى أعلم.

وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:22] لأنهم لا يعرفون، لا علم عندهم بذلك، والنبي ﷺ قد أوحى الله إليه، فهو مؤيد بالوحي، كيف يستفتي من هو دونه والأصل أن يستفتي الإنسان من هو أعلم منه؟!

  1. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (1 / 446)، برقم: (1265)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (1 / 376)، برقم: (530)
  2. رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة (1/167)، برقم: (424)، ومسلم،  كتاب المساجد ومواضع الصلاة،  باب النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (1/375)، برقم: (528)، واللفظ للبخاري.
  3. جاء الحديث عند البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3 / 1273)، برقم: (3267)، ومسلم،  كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (1/377)، برقم: (531)، بلفظ: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). يحذر ما صنعوا.

مواد ذات صلة