الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
إلى قاصدي البيت الحرام
تاريخ النشر: ٢٥ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 19905
مرات الإستماع: 14540

 

 

تذكر نعمة الله

الوصية الأولى: أن يذكر العبد نعمة الله عليه حيث أنهض همته، وقوى عزيمته، فتوجه إلى بيته الحرام ملبياً نداء الله ونداء خليله، حيث أمره الله - تبارك، وتعالى - أن يؤذن في الناس بالحج، فكل من قصد تلك البقاع يريد النسك الأكبر، أو يريد النسك الأصغر فهو ملبٍّ لدعوة إبراهيم ﷺ.

إن الكثيرين لم يرفعوا لهذه الدعوة رأساً، ولم يكن ذلك من اهتماماتهم، لقد رأينا رجالاً جاوزوا الثمانين، وما حج أحدهم، وما اعتمر، مع قدرته على ذلك، بل لربما لم يرفع لذلك رأساً، ولم يحدث به نفسه، والله غني حميد، غني عن العالمين، ونحن الفقراء إليه غاية الاحتياج.

فأقول: هذه نعمة تحتاج إلى ذكر، وتحتاج إلى شكر، والنعم إذا ذكرها العبد بقلبه مستحضرًا، وذكرها بلسانه لاهجاً شاكراً، وذكرها بجوارحه بالقيام بوظائف العبودية، فإن ذلك مؤذن بثبوتها، وبقائها، وحفظها على العبد، ولذلك يقول الله يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 47].

ويقول لهذه الأمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب: 9].

فذِكْر النعم بهذه الأمور الثلاثة: بالقلب، واللسان، والجوارح أمر يحبه الله ويدعو إليه، فمن توجه عزمه إلى تلك البقاع فينبغي أن يستحضر إنعام الله، وإفضاله عليه أن وفقه، فتحركت نفسه، وتاقت إلى بيت الله الحرام، الذي تهفو إليه نفوس المؤمنين.

فالله جعله مثابة للناس، فكلما فارقوه تاقت نفوسهم إليه، وعاودهم الحنين مرة بعد مرة، فلا يسأمون من كثرة الترداد عليه، ومن الطواف بذلك البيت العتيق، فهذا شيء جعله الله في قلوب أهل الإيمان.

ثم ينبغي أن يذكر العبد نعمة الله عليه أن بلغه بيته الحرام، وقد تقطّع دونه أقوام، وأقوام، إن الكثيرين ماتوا دون أن يصلوا إلى هذه الغاية، كم من نفوس قد تقطعت، كم من قوافل قد شردت، كم من أناس كانوا يتمنون رؤيته، وأنفقوا في ذلك كل مستطاع، ومع ذلك انقطعوا دونه.

وأخبار الكثيرين منهم مسطورة محفوظة، منهم من وصل، ولكن بشق الأنفس، ومنهم من لم يصل، وكثيرون اللهُ هو الذي يعلمهم وحده.

ولقد دُونت أخبار بعض هؤلاء، فمن ذلك: خبر شيخ منهم قبل نحو خمسين سنة، وهو رجل معروف في البلاد الإفريقية الغربية، وهو الشيخ عثمان دابو من بلاد "جامبيا" في أقصى الغرب الإفريقي، تحدث مع بعض أصحابه عن حج بيت الله الحرام، وكيف أن الله قد عافاهم، ثم هم لا يجيبون دعوة إبراهيم ﷺ فخرج مع أربعة من صحبه يمشون على الأقدام، لا يركبون إلا في فترات يسيرة متقطعة على بعض الدواب، حتى وصلوا إلى البحر الأحمر، ثم ركبوا سفينة إلى ميناء جدة، استمرت رحلتهم مدة تقرب من السنتين في الطريق إلى مكة دون العودة، ينزلون أحياناً في بعض المدن يتكسبون، ويتروحون، ويتزودون لنفقات رحلتهم، ثم يواصلون المسير.

خرج هؤلاء من دورهم ليس معهم من القوت إلا ما يكفيهم لمدة أسبوع واحد، وأصابهم في طريقهم من المشقات، والضيق، والكروب ما الله به عليم، كما يحدث عن نفسه.

فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون! وكم من ليلة طاردتهم فيها السباع، وفارقهم لذيذ المنام!. 

وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان! فقطاع الطريق يعرضون للمسافرين في كل واد، ومحل.

يقول: لُدغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمى شديدة، وألم عظيم أقعدني، وأسهرني، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي، فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار.

يقول: فكان الشيطان يوسوس في صدري، أما كان الأولى أن تبقى في أرضك؟ لماذا تتكلف هذا العناء، والله لم يفرض عليك هذا الحج؟.

يقول: فثقلت نفسي، وكدت أن أضعف، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي، وسألني عن حالي، فالتفت عنه، ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس ما بي، فقال: قم فتوضأ، وصلِّ ركعتين.

يقول: فقمت، فشرح الله صدري، وقوى قلبي.

أيها الأحبة، قد مات ثلاثة منهم في الطريق، كان آخرهم موتاً قد مات في لجج البحر الأحمر.

يقول الشيخ: لما مات صاحبنا الثالث نزل بي هم شديد، وغم عظيم، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام، والساعات على أحر من الجمر، فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً، وخشيت أن أموت قبل أن أصل إلى مكة، فأوصيت أصحابي إذا أنا مت أن يكفنوني في إحرامي، ويقربوني بقدر الطاقة إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، وأن يتقبلني في الصالحين.

يقول: بقينا في جدة أياماً، ثم واصلنا الطريق إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع، والبِشر يملأ وجهي، والشوق يهزني، ويشدني، إلى أن وصلنا إلى بيت الله الحرام، ثم سكت، وهو يحدث صاحبه، ويحكي له ما جرى، وجعل يكفكف دموعه، ثم أقسم أنه لم يرَ لذة في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لما رأى الكعبة المشرفة.

يقول: لما رأيت الكعبة سجدت شكراً لله، وأخذت أبكي من شدة الرهبة، والهيبة، كما يبكي الأطفال.

هذه صورة من صور المعاناة، وقد كتب الكثيرون أمثال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في رحلته إلى حج بيت الله الحرام، وهي رحله بديعة، مليئة بالفوائد، والعبر.

وكتب محمد أسد - رحمه الله - حينما قدم مع زوجته من أوروبا على سفينة، ومرضت زوجته مرضاً شديداً حتى ماتت في جدة.

وما كتبه الشيخ محمد رشيد رضا حيث صور حاله، وما كان ينتابه من ألوان المشاعر، والمخاوف، وهو في  طريقه من جدة إلى مكة على طريق غير معبد، مع أنها مسافة يسيرة، وهو رجل كبير معروف يُستقبل، ومع ذلك كان يجد هذه المشقات، والمخاوف في طريقه من جدة إلى مكة.

وقد صور بعضهم ما كان ينتابهم في طريقهم إذا وصلوا إلى جزيرة العرب، يذكرون كيف أن القوافل كانت تستأجر فرقاً لحراستها، والدفاع عنها، يصورون حالهم حينما يسمعون صوتاً ينادي هؤلاء الركب، أو القافلة أن يلزموا الأرض، ويتمددوا عليها؛ لأن جمعاً من قطاع الطريق قد كمنوا لهم في نواحي بعض الأودية، فأطلقوا عليهم الرصاص.

صوروا حالهم في حال النهب، وفي حال المطاردات، فلا يصلون إلى مكة إلا بشق الأنفس.

إلى عهد ليس بالبعيد كان الذين يصلون إلى مكة لا يصلون إليها إلا وقد تقطعت أنفاسهم، أو كادت، لربما نزل الواحد منهم ممن يأتي من نواحي الشرق على هذا الساحل الشرقي، ثم بعد ذلك يسير على قدميه إذا وجد أناساً ركب معهم، أو سار معهم يخدمهم، ويرعى لهم الدواب، ويحتطب لهم من أجل أن يوفروا له الصحبة، والحماية.

وكل من توجه ناحية الغرب سار معهم، ولربما بقي حتى يصل من هذا الشاطئ إلى مكة، لربما بقي عاما، أو أكثر، يسير هذا السير المتقطع، لا يدري متى يصل، والأخبار في ذلك كثيرة مشهورة لمن أراد أن يطالعها.

واليوم قد تسهّل ذلك لنا جميعاً، صار الواحد منا يلبس إحرامه، وهو في المطار، بل هو في بيته، ثم ما يلبث أن يصل إلى مطلوبه، تصل به الطائرة في مدة وجيزة، وهو يقرأ صحيفة، ويحتسي كوباً من القهوة، ثم ما يلبث أن يصل، أليست هذه نعمة عظيمة تحتاج إلى شكر؟.  

فإذا حصل لنا مثل ذلك ينبغي أن نتذكر أولئك ممن عانوا كثيراً حتى وصل بعضهم، ومات آخرون، ولمّا تيسر للناس ما أنعم الله عليهم به من ألوان النعم، وما يسر الله عليهم من هذه المراكب السريعة المريحة، وما أفاض الله على عباده من المال، صار الناس بعد ذلك يتكاثرون، يذهبون جماعات، وأفرادًا إلى بيت الله الحرام، بعدما كان لا يصل إليه إلا القليل منهم، فصار ذلك ظاهرة شائعة، يشاهدها كل أحد، فهذا من فضل الله علينا، وعلى الناس، فينبغي أن نذكر هذه النعمة.

إلى عهد قريب يحدثني رجل حي يرزق، يقول: وقفنا في المسجد الحرام عند بدء القيام، فعددت من وقف مع الإمام، فلم نجاوز ثمانية عشر رجلا عند التكبيرة الأولى، هذا قبل أكثر من خمسين سنة.

وإلى عهد قريب، قبل سنوات ليست بالبعيدة كان المسجد النبوي في القيام لا يمتلئ المبنى القديم، وانظر الآن الناس يصلون في الساحات.

فالله قد أفاض نعمه على الناس، فصار الوصول سهلاً، أضف إلى ذلك ما حصل للناس من الوعي، ومراجعة دينهم، فصاروا يقبلون على طاعة الله ويتوافدون إلى بيته، ويتكاثرون هناك، لكن هذا الأمر يحتاج صاحبه إلى تذكير، وتبصر.

 

 
تذكر هدف الرحلة

الوصية الثانية: أن نتذكر جيداً الهدف من تلك الرحلة، أن نتذكر ذلك في أنفسنا، وأن نذكِّر من معنا ممن يصحبنا، أن نذكرهم بالهدف: إنه سفر طاعة، وليس بنزهة، ولا فرجة، ولا تجارة، إنما هو تقرب إلى المالك المعبود .

تأمل حينما تتجرد من ملابسك، إنه أمر على خلاف المعهود، يذكرك بحالٍ قد تغيرت، ويذكرك بتجردك من حظوظك، وبتجردك من دنياك، فينبغي أن لا نصحب حظوظ النفوس في مثل هذه الرحلة.

حينما يتنظف الإنسان، ويتطهر يكون قد تهيأ لمثل هذا المسير، ومثل هذا العمل العظيم، ولا يخفى ما تؤثره نظافة الظاهر في استقامة الباطن، وطهارته.

جرب نفسك حينما تقدم من سفر، وأنت مثقل بالأدران، فإن ذلك ينعكس على النفس، ولابد، فتشعر النفس بثقل لا تستطيع أن تنكره.

وقد جُرب في السجون الأمريكية أنهم أمروا السجناء بأن يغتسلوا كل يوم، وألبسوهم ثياباً بيضاء، في غاية النصاعة، والنظافة، فوجدوا أن ذلك يؤثر في سلوكهم إيجاباً.

فالإنسان حينما يتنظف، ويتطهر، ويلبس رداء الإحرام الأبيض فإن ذلك يؤثر في نفسه، ولابد.

وهذا الإحرام هو عبارة عن قطعتين من القماش، أشبه ما يكونان بالكفن، فيذكره ذلك بالرحلة التي يرتحل فيها من هذه الدنيا إلى عالم الآخرة.

ويتأمل العبد حاله حينما يكشف رأسه، فإن ذلك إعلان، وإعلام منه بالذل لله رب العالمين، فلا يتعالى، ولا يترفع، ولا يشعر بفوقية على أحد من الناس.

وهو منهي في هذه الحال عن الرفث، والفسوق، والجدال في الحج، فلا تمتد عينه للحرام، ولا يده للحرام، ولا تمشي رجله إلى الحرام، فهو في غاية السلم، والمسالمة، لا يصل أذاه إلى أحد، لا يتعدى على أحد، لا يجادل لينتصر على مجادله، أو يتفوق على أقرانه، فالنفوس قد تركت حظوظها، فلا جدال، ولا فسوق، ولا رفث.

ونحن نتساهل في ذلك كثيراً، الإنسان في إحرامه ينظر إلى النساء الغاديات، الرائحات، وما علم أن ذلك من الفسوق.

الإنسان لربما يكذب، أو يغتاب، أو يتندر بالناس، وما علم أن ذلك من الفسوق: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67].

فالذي يستهزئ بالناس يكون من الجاهلين، وقد ذهب الإمام الأوزاعي - رحمه الله - إلى أن من سب، أو شتم فإن عليه فدية[1].

وهذا القول، وإن كان مرجوحاً لكنه بلغ الأمر ببعض الأئمة أن أوجب عليه الفدية في مثل هذه الحال.

إذا تفكر الإنسان فيما عهده، واعتاده، مما يمنع منه في حال الإحرام من الطيب، وما يفصل على البدن مما يقال له المخيط، ومن قص الأظفار، والشعر، وما إلى ذلك، فإن هذا كله إذعان منه، واستسلام لله - تبارك، وتعالى - ينضبط معه غاية الانضباط، فهو عبد ذليل لربه، ومولاه.

ثم بعد ذلك في النهاية يحلق، أو يقصر، وهذا نوع عبودية، وذل، ومعلوم أن حلق الشعر يكون أحيانًا على سبيل العادة، وأحيانا يكون ذلا، وعبادة، وهو المقصود في النسك.

بل إن جميع المناسك إنما يقصد بها إقامة ذكر الله كما جاء عن عائشة - رضي الله عنها - : "إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا، والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى"[2].

فليس ذلك من الأمور التي نفعلها على سبيل العادة، وليس ذلك من سفر الترويح، والنقاهة، وإنما هو شيء نقيم به العبودية لربنا، ومالكنا، ومعبودنا فإن مثل هذا العمل يحتاج إلى أمر آخر، وهو: 

  1.  مختصر اختلاف العلماء (2/226).
  2.  أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب في الرمل (2/179)، رقم: (1888).
استحضار النية في الحج

الوصية الثالثة: أن يكون للعبد فيه نية، والنبي ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[1]

وأنت حينما تعلن، تقول: لبيك اللهم لبيك، أي: إجابةً لك بعد إجابة، فأنت مجيب لنداء الله ولستَ ملبياً دعوة أحد سوى الله - تبارك، وتعالى - ولست ملبياً لحظوظ النفس، ولست متكثراً بهذا العمل عند الناس، فتكون مرائياً، أو مُسمِّعاً، تحج، أو تعتمر، ليقال: قد حج ثلاثين حجة، أو أربعين عمرة، أو خمسين عمرة، أو نحو ذلك.

إنما خلق الله الموت، والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وذلك يعني: أخلصه، وأصوبه.

يقول ابن عيينة - رحمه الله - : حج علي بن الحسين، فلما أحرم، واستوت به راحلته، اصفر لونه، وانتفض، ووقعت عليه الرعدة، صار يرتجف، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: لم لا تلبي؟ فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك، ولا سعديك[2].

فهل استشعرنا هذا المعنى؟ لماذا نتوجه إلى بيت الله؟ هل نفعل ذلك محاكاة للآخرين، أو تكثُّراً، أو أننا نفعل ذلك عبودية، وتقرباً إلى الله - تبارك، وتعالى -؟.

فهذا يحتاج إلى إخلاص، وإخبات، وإخفاء للعمل، يحتاج إلى قصد صحيح، من أجل أن يؤجر الإنسان عليه، ولا يكفي ذلك بل لابد من أمر آخر، وهو: 

  1. أخرجه البخاري، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ ؟ (1/6)، رقم: (1).
  2.  سير أعلام النبلاء (4/392).
متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أعمال الحج

الوصية الرابعة: وهي المتابعة للنبي ﷺ  فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].

يحتاج الإنسان إلى إخلاص، ويحتاج إلى عمل صحيح، يتابع فيه رسول الله ﷺ ولذلك فإننا بحاجة إلى التفقه في أحكام العمرة، وفي أحكام الحج، أمّا أن يذهب الإنسان هكذا على وجهه، دون أن يعرف أحكام ذلك، فإنه قد يرجع صفر اليدين، وكم من إنسان قد ارتكب بعض ما يبطل حجه، أو عمرته، ثم رجع، ولم يكتشف ذلك إلا بعد عشرات السنين؟.

رأيت من ذهب، وحج، ولم يطف طواف الإفاضة، فلما قيل له ذلك، قال: أقمنا على جبل في منى حتى رجعنا، فقيل له: ترجع، وتطوف طواف الإفاضة، فأبى، وهي حجته، ما حج قبلها، هي فرضه، هكذا يفتك الجهل.

وكم من امرأة قد تزوجت، وهي لم تطف، أو طافت، وهي حائض، ثم بعد ذلك عقد عليها، وهي لا زالت في حال الإحرام، وعندها كثير من الأولاد بعد هذا الزواج، وهو زواج فاسد، عقد باطل لا يصح؛ لأنه تزوجها، وهي محرمة، ولذلك نجد الكثيرين يقعون في كثير من الأخطاء التي تتكرر كثيراً، فهي شائعة.

تجد المرأة إذا مرت بالميقات، وهي حائض لا تحرم، مع أنها تريد النسك، تجد من يلتزم الاضطباع من أول عمرته إلى آخرها، وترى بعض النساء يخصصن لوناً للإحرام كالأخضر، أو الأسود تقرباً إلى الله، وتعبداً.

تجد من يلتزم أدعية مخصوصة في كل شوط، مع أن هذا أمر ما تعبدنا الله به.

ونجد آخرين يتجشمون، ويتقصدون العمرة في ليلة سبع، وعشرين من رمضان، ويحصل لهم من ألوان المشقات، ويحصل لمن معهم من النساء يجرجرون النساء بين تلك الجموع، وفي ذلك الزحام تلتصق بالرجال التصاقاً محكماً، كل ذلك طلبًا للأجر، وما علموا أنهم قد يرجعون بالوزر، مع أن العمرة في ليلة سبع، وعشرين لا مزية لها.

وهكذا ما يعتقده الكثيرون من فضل العمرة في رجب، وما يفعله كثير منهم مما قد لا يجزئه في النسك من أخذ طرف يسير من الشعر مما يفعله الرجال يأخذون شيئًا يسيراً، ومن الطرف الآخر شيئاً يسيراً، ويظنون أن ذلك يجزئهم، وقد لا يجزئهم.

احتساب الأجر في الحج

الوصية الخامسة: سفر الطاعة يثاب الإنسان فيه على كل بذل يبذله، فنحن بحاجة إلى احتساب النفقات، والأتعاب، والقاعدة: أن الوسائل لها أحكام المقاصد.

والله يقول: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة: 120، 121].

هذا في المجاهدين، تكتب خطواتهم، وتكتب نفقاتهم في الطريق، فلا يقطعون، وادياً، أو يسيرون مسيراً إلا كتب لهم.

والله يقول: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس: 12].

فعلى أحد الوجهين المشهورين في التفسير أن الآثار المكتوبة هي الخطا التي يخطوها الإنسان إلى المساجد، والطاعات، وألوان القربات، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهذه الآثار تشمل هذا، وتشمل ما يتركه الإنسان بعد موته، من علم ينتفع به، إلى غير ذلك مما يتركه الإنسان، فيجده الناس بعد موته.

وقد قال النبي ﷺ : من سلك طريقًا يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقًا إلى الجنة[1].

وجاء في الحديث الآخر: صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته، وفي سوقه خمساً، وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة[2].

وهكذا الزوائد، بمعنى ما يكون من أثر هذا العمل، مما يحصل له من مرض بعده، وما يحصل له في طريقه في رجعته من نفقات، ونحوها فإن ذلك يكتب له جميعاً.

يدل على ذلك حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم، قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء، وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله ﷺ : قد جمع الله لك ذلك كله[3].

يكتب له طريقه، تكتب له الخطا إلى المسجد، ويكتب له ذلك أيضا في عودته من المسجد.

ويدل على ذلك: حديث عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: قَفلة كغزوة[4] أي: أنه يكتب للغازي ما يحصل له من خطا، ونفقات، وهو في الطريق.

فما يصيب الإنسان بعد نسكه من مرض، أو ما يحصل له من حادث، أو غير ذلك من نفقات، أو أتعاب، فكل ذلك يؤجر الإنسان عليه، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يستخسر نفقة ينفقها في هذا السبيل، فإن ذلك كله يخلفه الله على العبد، لا يضيع، هي مخلوفة، محفوظة، يجدها الإنسان في ميزان حسناته.

الله أخبرنا عن المنافقين أنهم يتخذون ما ينفقون مغرماً، فقال: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا [التوبة: 98].

يشعر أن ذلك من الغرم، وأنه فوت، وخسارة، كأنه يقطع من قلبه، أما المؤمن فإنه ينفق هذه النفقات - من قيمة التذاكر، أو المساكن التي يسكنها، إلى غير ذلك من الأمور - وهو يستشعر أن هذا محل صحيح صالح لمثل هذه النفقات.

ليست الخسارة في هذا، الخسارة حينما تنفق الأموال في أمور تافهة، أو في معصية الله أو في السرف، والتبذير، ومضاهاة الآخرين في عرض الدنيا، فينبغي للإنسان أن يتذكر ذلك جيداً، وأن يحتسب عند الله هذه النفقات.

 

 

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ باب فضل طلب العلم (5/28)، رقم: (2646) وابن ماجه، باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم (1/81)، رقم: (223).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة (1/131)، رقم: (647).
  3.  أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد (1/460)، رقم: (663).
  4.  أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في فضل القفل في سبيل الله تعالى (3/5)، رقم: (2487).
حفظ الأوقات في الحج

فإذا وصل الإنسان إلى تلك المحال، والبقاع الشريفة، فينبغي أن يحفظ كل لحظة من وقته، وأن يستغل ذلك في طاعة الله فلا يفرط، ولا يضيع، الصلاة في المسجد الحرام كما أخبرنا النبي ﷺ : صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه[1].

أتدرون كم تبلغ؟ تبلغ عشرين ألفًا من الأيام، وهذه المدة تزيد على خمس، وخمسين سنة، صلاة واحدة، كم عمر الإنسان؟ لو بدأ الإنسان يصلي من السابعة، فإذا استمر على ذلك خمساً، وخمسين سنة فإن عمره يكون اثنتين، وستين سنة، وهذا متوسط أعمار الناس، النبي ﷺ أخبر أن الأعمار ما بين الستين، والسبعين أعذر الله إلى امرئ أخر أجله، حتى بلّغه ستين سنة[2].

فتصور صلاة واحدة تعدل ذلك جميعاً، فكم نفرط! وكم نضيع! وكم يلحقنا من الغفلة التي تقعدنا عن مثل هذه المطالب العلية!.

إن الكثيرين تضيع أوقاتهم بنوم، أو سهر لا طائل تحته، أو ذهاب إلى الأسواق، أو تجول من غير طائل يتعرضون فيه للفتنة من حيث يشعرون، أو لا يشعرون

  1.  أخرجه ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام، ومسجد النبي ﷺ (1/451)، رقم: (1406)، وأحمد (23/46)، رقم: (14694). 
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر (8/89)، رقم: (6419).
مراعاة حرمة البيت الحرام

الوصية السابعة: أن نرعي حرمة ذلك المكان، والله قد أقسم - والقسم لا يكون إلا بمعظم كما هي القاعدة - : وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد: 1] أي: أقسم بهذا البلد على أحد الأقوال المشهورة في تفسيرها.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران: 96] وقال: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25].

فذكر الإرادة، وضمّن ذلك معنى الهم، أي: من همّ فيه بإلحاد، بميل عن جادة الصواب، وانحراف عن الحق، بمقارفة ما لا يليق، ومواقعة معصية الله أو التعرض لمحارم المسلمين، أو سرقة أموالهم، أو أذيتهم، أو الإفساد في الحرم، فهو متوعد بالعذاب الأليم، والله لم يتوعد على مجرد الإرادة، والهم إلا في هذا المقام.

فالمسألة ليست سهلة، المعصية تعظم بحسب متعلقها، ومن ذلك أنها تعظم إذا كانت في الحرم، فتكون أشد، وأنكى مما إذا كانت في مكان آخر.

وقد دعا إبراهيم ﷺ لمكة: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: 126].

والله يقول: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنً [االبقرة: 125] والنبي ﷺ يقول: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟[1] أخرجه الشيخان.

وفي حديث عبد الله بن عدي مرفوعًا إلى النبي ﷺ أنه قال: والله إنك لخيرُ أرض الله، وأحب البلاد إلى الله[2].

وفي الحديث الآخر: لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك، هلكوا[3] يعني: مكة.

وقال ﷺ حين فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات، والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة[4].

فينبغي للإنسان أن يدرك جيداً أنه متوجه إلى بقعة ليست كغيرها من البقاع، وأن المعصية فيها لا تكون كالمعصية في غيرها، وأن الإلحاد في تلك المحالّ قد توعد الله عليه بالعذاب الأليم، فينبغي للإنسان أن يحفظ للبيت حرمته، ولمكة هذه المكانة، فيكون في قلبه مهابة، ويكون معظماً لبيت الله الحرام التعظيم اللائق، فلا يكون الوصول إلى بيت الله الحرام سبباً لنزع الحياء، والحشمة، وسبباً لسلوك ما لا يليق، والانفلات من كل ضابط يضبط الأخلاق، ويزمّ النفوس، ويحفظ الجوارح عن كل ما لا يليق.

فلماذا نرى كثيراً من المظاهر، والمشاهد غير المسئولة تقع هنا، وهناك في بيت الله الحرام؟ إذا دخلت إلى المسجد لربما رأيت مزاحمة النساء للرجال في الطواف، وعند تقبيل الحجر، ولربما رأيت من تتبرج من النساء، ولربما رأيت بعض الرجال يتصرف غير مبال، يدخل في الأماكن التي قد خصت للنساء، ترى آخرين قد أطلقوا أبصارهم، ينظرون هنا، وهناك، في الطائفات، وفي النساء اللاتي في حرم الله.

ونرى آخرين لربما يتحلقون هنا، وهناك للحديث، وقضاء الأوقات كأنهم قد جلسوا في نزهة، أو في برية، أو في نادٍ من نواديهم، وما علموا أنهم قد جلسوا أمام الكعبة، أمام بيت الله الحرام، حلق تجتمع على شرب الشاي، والقهوة، والحديث، واللغو، والضحك، وما إلى ذلك، وهذا أمر لا يليق بتلك البقاع، إضافة إلى أذية الناس بالتحدث أثناء صلاة التراويح، أو القيام، أو التعليق عليهم، والسخرية من تصرفاتهم، ومن جهلهم، وأخطائهم، أضف إلى ذلك ما يُرى من الأثرة الشديدة التي تنبئ عن تربية ضعيفة، تجد من يستأثر بالماء، أو يستأثر بما يشرب به الماء، أو يستأثر بالفرش، أو يستأثر بالمحل، ويأخذ فوق حاجته، وما علم أنه في الحرم، وتجد أيضاً أموراً قد يفعلها بعض الناس جهلاً، أو قلة مبالاة، يدنسون الحرم ببقايا الأطعمة، والمشروبات، ولربما رأيت بعض النساء تنام أمام الرجال، أو تقص الشعر عند الفراغ من النسك أمامهم، ولربما أبدت شيئًا من بدنها، وأخرى قد تركت أطفالها يعبثون، ويؤذون عباد الله المصلين، والتالين.

ونجد آخرين - وهم كثير - ليس لهم شغل إلا هذا الهاتف المحمول، فنغمات الجوال أشكال، وألوان، ولا تكاد تقع عينك إلا على من يتصل، أو من يتشاغل به، ولو أن هذه الأوقات التي يطول فيها مثل هذا الحديث بهذا الهاتف صُرفت بذكر، وقراءة لكان خيراً لهم.

وإذا نظرت إلى كثير من المعتكفين رأيت أموراً لا تصلح مع الاعتكاف من جدال، ومن كثرة للنوم، أو الأكل، فترى بعضهم لا يستيقظ إلا للأكل، أو نحو ذلك.

وهكذا ما يحصل من التجاوز، والتعدي، فهذا ينام في فراش هذا، ولا يبالي، وتجد خلطة زائدة، وتجمعاً لا يصلح للمعتكفين بحال من الأحوال، يعتكف عشرة، وأكثر في مكان واحد، ولا تجد هؤلاء إلا في غاية الانبساط، والحديث، والضحك، والمؤانسة.

والمقصود بالاعتكاف هو الخلوة، والانقطاع، من أجل أن يحصل للإنسان المعاني التي شرع من أجلها الاعتكاف، وهذه لا يمكن أن تحصل بهذه الخلطة الزائدة، والمحادثة الكثيرة، والجدال، والضحك، والمؤانسة، وما إلى ذلك ممن نراه.

وهكذا ما تشاهده أيضاً عند أبواب الحرم من مزاحمة النساء للرجال، أو تحايل آخرين بإدخال الأطعمة في رمضان، أو الصلاة، والجلوس على الأبواب، فيضيقون على الناس، وإذا نظرت إلى الساحات، وجدت اختلاطاً كثيراً، ووجدت التجمعات هنا، وهناك، ووجدت التعدي على الناس، والأذية لهم، ووجدت أيضا تلويثاً، وتقذيراً لتلك البقاع الطاهرة التي ينبغي أن يشترك الجميع في نظافتها، وتطهيرها، حيث أمر الله بذلك.

وتجد آخرين يجلس أحدهم، ولا يبالي في طريق الناس، ونجد غفلة عارمة لدى الشباب، أو لدى كثير من الشباب، والفتيات، حيث يأتي بهم أهلهم، ثم يتركونهم، وقد استرعاهم الله إياهم، فينفلت هؤلاء الشباب، الأب - أو الأم - لربما بقي تحت سارية في الحرم، يقرأ، أو يصلي، ولا يدري شيئًا عما يجري لبناته، أو لهؤلاء الشباب الذين قد جاء بهم، فانفلتوا كالذئاب المسعورة، يتتبعون هذه، ويجوبون الأسواق حتى يضنيهم المسير، ثم بعد ذلك يتساقطون بعد الفجر، فينامون إلى غروب الشمس، أهكذا تكون العبادة؟ أهكذا تكون رعاية تلك الحرمة؟

فينبغي للإنسان أن يراجع نفسه، ومثل هؤلاء الذين لا تنهض نفوسهم للعبادة ينبغي للإنسان أن لا يأتي بهم معه، وإنما يبقون في بيوتهم، فذلك أحفظ لهم، وأسلم لغيرهم.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ : لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض (9/50)، رقم: (7078)، ومسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ (2/886)، رقم: (1218).
  2.  أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب المناسك، باب فضل مكة (4/248)، رقم: (4240).
  3.  أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب فضل مكة (2/1038)، رقم: (3110).
  4.  أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب إثم الغادر للبر، والفاجر (4/104)، رقم: (3189) ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة، وصيدها، وخلاها، وشجرها، ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (2/986)، رقم: (1353).
أحكام تتعلق بالمرأة

الوصية الثامنة: تتعلق بالمرأة، وبأولياء المرأة، فالمرأة عورة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر  إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من وجه ربها، وهي في قعر بيتها[1].

أي: أنه همّ بها، أو أنه صوب نظره إليها؛ ليغري بها، وليزينها للناظرين، ويغريها أيضا، ويفتنها، أو أنه استشرفها الشيطان: أي: تمنى أن تكون على شرف، أي: على مكان رفيع من أجل أن تراها العيون، أو أنه استشرفها الشيطان بمعنى: أنه يزينها، ويغري بها الرجال، كل ذلك قد قيل في معناه.

إذا كانت المرأة تريد التقرب إلى الله، والعبادة مهما كانت متحجبة إذا خرجت فهي عورة، وقد استشرفها الشيطان، مهما كانت متحجبة.

وفي أثر عن ابن مسعود "إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها، وما بها من بأس، فيستشرف لها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتِه، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضاً، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها"[2]. إسناده حسن.

يقول أبو عمرو الشيباني: رأيت ابن مسعود "يُخرج النساء من المسجد في يوم الجمعة، ويقول: "اخرجن إلى بيوتكن خير لكن"[3].

وجاء في حديث أم حميد زوجة أبي حميد الساعدي أنها قالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك وانظروا: تحب الصلاة خلف النبي ﷺ في المسجد النبوي، وكيف تخرج مثل هذه الصحابية؟ تخرج في أطمارها، في عباءة ساترة، في غاية الحشمة، في مجتمع نزيه، نظيف، طاهر.

قالت: إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمتُ.. شهد لها بذلك، ما خرجت لتلتذ بصوت الإمام، وما خرجت من أجل أنها تشعر أنها محبوسة في بيتها، فتريد الترويح بأي طريقة، وما خرجت لتتبرج، وما خرجت لتجد صويحباتها في المصلى.  

تحب أن تصلي معه، قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي قال: فأَمرتْ فبُني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها، وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله [4] استجابة، وامتثال.

وجاء في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - مرفوعًا إلى النبي ﷺ : خير مساجد النساء قعر بيوتهن[5].

وعنها أن النبي ﷺ قال: صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها خير من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها خير من صلاتها خارج[6].

وعن ابن مسعود عن النبي ﷺ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها[7].

فإذا جمعنا هذه الروايات نجد أن أفضل مكان تصلي فيه المرأة هو "مخدعها" والمراد به غرفة صغيرة في داخل غرفتها، يوضع فيها نفيس المتاع، ثم يلي ذلك: صلاتها في بيتها، والمقصود به ما نسميه الآن بالغرفة، أي: في غرفتها، ويلي ذلك صلاتها في حجرتها هو صحن الدار، وهو ما تفتح إليه أبواب ما نسميه الآن بالغرف، يعني: بمثابة الصالة، ويلي ذلك صلاتها في دارها، ثم يأتي بعد ذلك صلاتها في مسجد الحي، ثم بعد ذلك صلاتها في المسجد الجامع، ثم يأتي بعد ذلك صلاتها في مسجد رسول الله ﷺ.

فهل يفقه النساء ذلك؟ يخرجن في شدة الحر، في صلاة الظهر، في الشمس المحرقة يزاحمن الرجال، وقد كفاهن الله ذلك، فإذا أقنعتها، وفهّمتها، وأوردت عليها الأحاديث، وأن صلاتها في بيتها أفضل، ثم بعد ذلك ذهب ما عندك من جهد، وطاقة في الإقناع، والبيان، والشرح، فإذا فرغت من ذلك كله أجابت بجواب بسيط، قالت: إذًا لماذا أتينا إلى هنا؟  

فتعيد الكلام نفسه، وأن صلاتها في الغرفة في الفندق أفضل من صلاتها في المسجد الحرام، أن ذلك أفضل لها من مائة ألف صلاة.

هذه المرأة تريد أن تصلى مع النبي ﷺ والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، ومع ذلك يقول لها النبي ﷺ بأن صلاتها في أبعد مكان في بيتها أفضل لها من صلاتها مع النبي ﷺ فمتى تفقه النساء هذه القضية؟.  

فالتي تريد الثواب، والأجر عند الله تصلي في أبعد مكان في بيتها، وأظلمه، وقد جاء عن ابن عمر مرفوعًا إلى النبي ﷺ : لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن[8].

وفي حديث ابن مسعود مرفوعاً: ما صلت امرأة من صلاة أحب إلى الله من أشد مكان في بيتها ظلمة[9].

وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لنسائه عام حجة الوداع: هذه، ثم ظهور الحصر قال: فكن كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة، وكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من النبي ﷺ[10].

ومعنى قوله: هذه، ثم ظهور الحصر: الزمي الحصير، يعني: الزمي الأرض، اجلسي في بيتك، حجة واحدة.

تصور حال النساء في ذلك المجتمع، والحجاب الذي عليه النساء آنذاك، وتصور الحجاب الذي عليه كثير من نسائنا اليوم، عباءة مخصرة، ونقاب في غاية الزينة، تتكحل، وتتطيب، ثم تخرج في غاية الإغراء، مما أدى إلى فتنة الكثيرين، وترك كثير من أهل الصلاح المجيء إلى بيت الله الحرام بسبب هذه الفتن، ولجأ آخرون إلى المدينة، فصاروا يعتكفون فيها، بسبب هؤلاء المنقبات اللاتي لا يتقين الله في مثل هذا الأمر.

والنبي ﷺ حينما رأى أزواجه قد وضعن أخبية في المسجد للاعتكاف في بداية العشر، قال: آلبر تردن؟ وأمر بنقضها[11].

  1.  أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (3/93)، رقم: (1685)، والطبراني في المعجم الكبير (9/295)، رقم: (9481)..
  2. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/185)، رقم: (8914).
  3.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9/294)، رقم: (9475)، وعبد الرزاق الصنعاني في المصنف (3/173)، رقم: (5201) 
  4. أخرجه أحمد، رقم: (27090) وابن خزيمة في صحيحه، رقم: (1689).
  5.  أخرجه أحمد، رقم: (26542) وابن خزيمة، رقم: (1683).
  6.  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (9/48) رقم: (9101).
  7.  أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ذلك (1/156)، رقم: (570).
  8. أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد (1/155)، رقم: (567)، وأحمد (9/337)، رقم: (5468).
  9.  أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/188)، رقم: (5362).
  10.  أخرجه أحمد، برقم: (26751) وقال محققو المسند: إسناده حسن.
  11.  أخرجه مسلم، كتاب الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه (2/831)، رقم: (1172).
ما يجب أن يكون عليه الحاج من أخلاق

الوصية التاسعة: السفر قطعة من العذاب، فلا يصح بحال من الأحوال أن يجتمع مع عناء السفر خشونة الأخلاق، وما قيل له سفر إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وكثير من الناس - لاسيما إذا صحب معه الضعفة من الأطفال، أو النساء - يخرج عن طوره، وتكون أخلاقه، وحشية، فيسخب، ويصدر منه من الكلام الجارح ألوان، وألوان، فلا يتقي الله بهؤلاء الذين قد صحبوه، والنبي ﷺ يقول: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي[1].

ويقول: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه[2].

ويقول: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه[3].

ويقول: من يُحْرم الرفق يحرم الخير[4] وفي حديث عائشة مرفوعًا: إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق[5].

فالرعونة، والفظاظة، والغلظة، والجفاء أمر ينبغي أن يتحرز منه الإنسان، يكفيهم عناء السفر، فهم بحاجة إلى تسلية، وتهوين، بحاجة إلى شيء من تعزية النفوس، وتصبيرها، أما أن يجتمع مع عناء السفر فظاظة الأخلاق، وجرح المشاعر، والوحشية في التعامل فهذا أمر لا يليق، ويقع فيه كثيرون للسف الشديد.

وقد سمعت أشياء، وأشياء، كم من رجل طلق امرأته عند باب الحرم، يسبها، ويشتمها، ويؤذيها، ويلعن الساعة التي جاء معها فيها، لا حاجة لهذه العمرة.

كم من امرأة تقول: قد حلفت أن لا أصحبه في سفر، لا في حج، ولا في عمرة، لما رأت من أخلاقه.

لماذا يتبدى الإنسان بهذه الصورة الكريهة المقيتة؟

هل ترضى أن تذهب مع إنسان يعنفك على كل صغيرة، وكبيرة، ويزجرك زجراً، ويسوقك سوقاً عنيفاً، لا يراعي ضعفك، ومرضك، وعجزك، وتعبك؟ من يرضى لنفسه بهذا؟

فينبغي للإنسان أن يوسع صدره، وأن يتحلى بالرفق، والحلم، والأناة، وتكون ابتسامته لا تفارق وجهه، ومحياه مع أهله، مع من يصحبهم، لا يعنف، لا يعاتب، لا يغلظ، يختار لطيف الكلام، وطيب القول، يعفو عن الخطأ، والزلة، ويبحث عن راحتهم، وإن تعب هو.

هذه الأمور نحتاج أن نتذكرها، أمّا أن يكون لهؤلاء الأهل، والقرابات سيئ الأخلاق، أردت أن تحسن إليهم، فأسأت، فهذا أمر ينبغي أن يعاد فيه النظر.

الوصية الأخيرة: وهي أننا نرى الكثيرين يفرطون هناك، ويتساهلون، ويضيعون شيئاً من حقوق الله ولربما اجترأ بعضهم على محارمه، وهذا أمر كثير يفوت الحصر، فلابد من تضافر الجهود، فالنبي ﷺ يقول: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان[6].

فلا يصح أن يمشي الإنسان، ويمضي، وهو يرى المنكر أمامه، ويطأطئ رأسه، ثم لا يحرك ساكناً، الذمة لا تبرأ بذلك، لو أن كل أحد قد احتسب على هؤلاء، فنصحهم بالتي هي أحسن، وذكرهم بالله ووعظ، يقول لهذه المرأة - ولا يقف عندها - : اتقي الله، هذا ليس بحجاب، أيتها المرأة، يا أمة الله، هذا الحجاب لا تبرأ به الذمة، يا أمة الله، استغفري الله، وتوبي، فإن هذا الفعل لا يليق، أيها الرجل، أيها الشاب، هذا الذي تقارفه أتدري أين أنت؟ أما تخاف من وعيد الله نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] ويعظ، وينصح، ويذكِّر، لو كل أحد قام بهذا لتلاشت المنكرات، وما تفاقمت كما نشاهد، ونرى.

أسأل الله أن يعيننا، وإياكم على طاعته، وأن يجعلنا، وإياكم من أهل السعادة، وأن يختم لنا بخير، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه . 

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ باب في فضل أزواج النبي ﷺ (5/709)، رقم: (3895) وابن ماجه، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء (1/636)، رقم: (1977).
  2.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب فضل الرفق (4/2003)، رقم: (2593).
  3.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب فضل الرفق (4/2004) رقم: (2594).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب فضل الرفق (4/2003)، رقم: (2592).
  5.  أخرجه أحمد (40/488)، رقم: (24427)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم: (6140).
  6.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد، وينقص، وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان (1/69)، رقم: (49).

مواد ذات صلة