الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الخشوع
تاريخ النشر: ٠٦ / ربيع الآخر / ١٤٢٨
التحميل: 21786
مرات الإستماع: 11467

معنى الخشوع

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، وبعد.

فالكلام في هذا الموضوع ينتظم إحدى عشرة نقطة، وهي:

الأولى: في بيان معناه، وحقيقته.

الثانية: الفرق بينه، وبين الإخبات، وبينه، وبين الخضوع، وبينه، وبين الضراعة.

الثالثة: أهميته.

الرابعة: الخشوع في الكتاب، والسنة.

الخامسة: درجاته.

السادسة: تفاوت الناس فيه.

السابعة: أنواعه.

الثامنة: الطريق إليه.

التاسعة: ثمراته السلوكية.

العاشرة: ما ينافيه، ويضاده.

الحادية عشرة: أحوال السلف في هذا الباب.

أمّا الأولى: وهي معنى الخشوع:

فهو يدور في كلام العرب على معنى واحد، تدور عليه جميع استعلامات هذه الكلمة، وهو التطامن[1]  ولذلك نجد أن بعضهم يعبرون عنه بقولهم: الخاشع: المستكين، والراكع[2] وبعضهم يقول: "المتضرع"[3] وبعضهم يقول: "المختشع: هو الذي طأطأ رأسه، وتواضع" وبعضهم يقول كلاماً يقارب هذا، وهو يدور في لغة العرب على ما ذكرت، والتخشع هو: تكلف الخشوع.

فالتخشع لله هو: الاخبات، والتذلل له .

وأما معنى الخشوع في الاصطلاح فعبارات العلماء فيه متقاربة[4]: فمن قائل: هو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع، والذل.

ومن قائل: هو الانقياد للحق - والواقع أن الانقياد للحق هو من موجبات الخشوع.

ومن قائل: هو تذلل القلوب لعلام الغيوب.

وابن القيم - رحمه الله - يقول: إن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم، والمحبة، والذل، والانكسار[5].

والحافظ ابن حجر - رحمه الله - ينقل عن بعضهم تعريف الخشوع بأنه: تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون - سكون الأعضاء، والجوارح - وقد قيل: لابد من اعتبار الأمرين حتى يكون ذلك من قبيل الخشوع المعتبر.

وبعضهم يقول: هو معنى يقوم في النفس يظهر عنه سكون الأطراف يلائم مقصود العبادة[6].

وابن رجب له كلام جيد في بيان معناه يقول: "الخشوع في الصلاة: أصله خشوع القلب، وهو انكساره لله، وخضوعه، وسكونه عن التفاته إلى غير من هو بين يديه، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعا لخشوعه"[7] لأنها تابعة له، كما قال ﷺ : ألا وإن في الجسد مضغة...[8].

وكان ﷺ يقول في ركوعه في الصلاة: خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي[9] فهو يرى: أن خضوع الجوارح هو ثمرة لخضوع القلب، ولينه، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يرى أن الخشوع يتضمن معنيين: أولهما: التواضع، والتذلل.

والثاني: السكون، والطمأنينة، يقول: "وذلك مستلزم للين القلب، ومنافٍ للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله، وطمأنينته أيضاً، ولهذا كان الخشوع في الصلاة يتضمن هذا، وهذا، التواضع، والسكون"[10].

فشيخ الإسلام يرى أن لين القلب هو نتيجة، وأثر، ولازم من لوازم الخشوع، وأن الخشوع هو التواضع، والتذلل، والسكون، والطمأنينة، ولهذا جاء عن عليٍّ : "الخشوع في القلب: أن تلين كنفك للرجل المسلم، وألا تلتفت في الصلاة"[11] وجاء عنه أن: "الخشوع في القلب"[12].  

وهكذا جاء عن إبراهيم النخعي أيضاً، وطائفة من السلف[13] وكان ابن سيرين يقول: "كانوا يقولون في معنى الخشوع: لا يجاوز بصره مصلاه"[14].

وسئل الأوزاعي عن الخشوع، فقال: "غض البصر، وخفض الجناح، ولين القلب، وهو الحزن، والخوف"[15].

وكان الأوزاعي - رحمه الله - كما وُصف - : كأنه أعمى من الخشوع[16] يعني أن ذلك أثر أيضاً على بصره، ونظره.

والخلاصة: أن الخشوع معنى ينتظم خضوع القلب، وذله، وانكساره، وعبوديته، وسكونه، وتواضعه، وطمأنينته مع التعظيم، والمحبة، والخشية لله تعالى، ويظهر أثره على الجوارح بسكونها، والتواضع للخلق، فيكون القلب عامراً بالسكون، والطمأنينة، والتذلل، والمحبة، والتعظيم، مع خضوع الجوارح، وتواضع العبد، وسكون الجسم، وسكون الطرف، والنظر.

  1.  انظر: مقاييس اللغة (2/ 182).
  2.  انظر: غريب القرآن لابن قتيبة (ص: 101).
  3.  انظر: المفردات في غريب القرآن (ص: 283).
  4.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 516-517).
  5.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 518).
  6.  فتح الباري لابن حجر (2/ 225).
  7.  فتح الباري لابن رجب (6/ 367).
  8.  أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم (52)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599).
  9.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  10.  مجموع الفتاوى (7/ 28).
  11.  المصدر السابق.
  12.  المصدر السابق.
  13.  المصدر السابق (22/ 555-556).
  14.  تفسير الطبري(17/ 8)، وتفسير ابن كثير (5/ 461).
  15.  سير أعلام النبلاء (7/ 116).
  16.  انظر: تاريخ الإسلام (9/ 487)، والبداية والنهاية (10/ 125).
الفرق بين الخشوع، والإخبات، والخضوع، والضراعة

الفرق بين الخشوع، والإخبات: الله يقول: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج:34] ثم فسر المخبتين، فقال: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج:35] وقال أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [هود:23].

والخَبتُ أصله في كلام العرب: هو المكان المنخفض من الأرض، وابن عباس - رضي الله عنهما - يفسر: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ بالمتواضعين[1] ومجاهد - رحمه الله - من التابعين يقول: المخبت: "المطمئن إلى الله "[2] ويقول الأخفش: "المخبتون: الخاشعون"[3].

ويفسره إبراهيم النخعي - رحمه الله - : "بالمصلين المخلصين"[4] وفسره الكلبي: "بالرقيقة قلوبهم"[5] وفسره عمر بن أوس: "بالذين لا يظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا"[6].

وهذه الأقوال جميعًا - كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - تدور على معنيين: التواضع، والسكون لله [7] وبهذا نعرف أن الإخبات مقارب للخشوع، لكن الخشوع يصحبه ذل القلب، وانكساره، ويؤثِّر لينَ القلب، ورقة القلب مع المحبة، والتعظيم.

أما الفرق بين الخشوع، وبين الخضوع، فبينهما تقارب أيضاً، وقد قيل: إن الخضوع: بالبدن، يقال: فلان خضع لفلان، وإن كان قلبه لم يخضع له، فالخضوع في البدن، وهو الإقرار بالاستسلام، فيستسلم لمن خضع له. 

وأما الخشوع: فيكون في القلب، والبدن، والصوت، والبصر، فيظهر هذا على بصره، وجوارحه، وأصل الخضوع: هو الذل، والانقياد، فإذا قيل: خضوع القلب فهو ذل القلب، وإذا قيل: خضوع البدن فهو انقياده، واستسلامه.

وأما الفرق بين الخشوع، وبين الضراعة: فكذلك بينهما تقارب، وقد قيل: أكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح في الظاهر، وإن كان أيضاً يرتبط بالقلب بلا شك، وأما الضراعة: فأكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب، فلا يقال: فلان ضارع ببدنه، وأكثر ما تقال في خضوع القلب، وأصل الضراعة في كلام العرب: الذل، والخضوع، وبهذا تعرف أنها معانٍ متقاربة.

  1.  تفسير البغوي (5/ 386).
  2.  مدارج السالكين (2/ 5).
  3.  تفسير البغوي (5/ 386)، ومدارج السالكين (2/ 6).
  4.  المصدران السابقان.
  5.  المصدران السابقان.
  6.  المصدران السابقان.
  7.  مدارج السالكين (2/ 6).
أهمية الخشوع، ومنزلته

أما ما يتعلق بأهمية الخشوع، ومنزلته: فهو بلا شك في غاية الأهمية، ومن فقده فقد واجباً من واجبات الإيمان، ومما يدل على أهميته أنه واجب من واجبات الصلاة على قول طائفة من أهل العلم، وممن اختار هذا القول: القرطبي صاحب التفسير[1] وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[2] والحافظ ابن القيم[3] وطائفة من السلف، والخلف، وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على أن الخشوع واجب من واجبات الصلاة بأدلة متعددة منها:

الدليل الأول: أن الله قال: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ، وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] يقول مبيناً وجه هذا الاستدلال: "وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [سورة البقرة:45] فغير الخاشع تكون كبيرة عليه، فمعنى ذلك أنه مذموم؛ لأن الله قال: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] فهؤلاء الذين يكبر عليهم التحول من بيت المقدس إلى الكعبة، فهؤلاء فقدوا أساساً، وأمراً عظيماً، حيث إنهم خرجوا عن هذا الوصف: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] والله يقول: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:13].

يقول شيخ الإسلام: "من مجموع هذه الآيات، دل كتاب الله على أن من كبر عليه ما يحبه الله أنه مذموم بذلك، وأن ذلك مسخوط منه، والذم، أو السخط لا يكون إلا لترك واجب، أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع، فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] لابد أن يتضمن ذلك الخشوع في الصلاة، فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى، إذ لو قيل: إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها، ولم يخشع فيها، كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها، وتكبر على من خشع فيها، وقد انتفى مدلول الآية، فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة"[4].

الدليل الثاني الذي استدل به - رحمه الله - : قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:1 - 4] إلى أن قال بعد أن سرد جملة من الأمور الواجبة - : أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10 - 11].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فأخبر الله - سبحانه، وتعالى - أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة، وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم، وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال، إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها؛ لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات، ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب"[5]

واستدل أيضاً بدليل ثالث ذكره في موضع آخر من كتبه، يقول: يدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي ﷺ توعد تاركيه، كالذي يرفع بصره في السماء، فإن حركته، ورفعه ضد حال الخاشع، فعن أنس بن مالك قال: قال النبي ﷺ : ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: ليَنتهُنّ عن ذلك، أو لتُخطفنّ أبصارهم[6] رواه البخاري.

وكذلك حديث جابر بن سَمُرة  قال: دخل رسول الله ﷺ المسجد، فرأى فيه ناسًا يصلون رافعي أيديهم إلى السماء، فقال: ليَنتهِينّ رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء، أو لا ترجع إليهم أبصارهم[7] فاستدل به على أن الخشوع واجب، وبهذا استدل أيضاً الحافظ العراقي[8] على ذلك.

كما أن الله ذم قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضع من كتابه كما قال: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً  [البقرة:74] قال الزجاج: "قست: بمعنى غلظت، ويبست، وعسيت، فقسوة القلب: هي ذهاب اللين، والرحمة، والخشوع منه، والقلب القاسي، والعاسي: هو الشديد الصلابة"[9].

ويقول ابن قتيبة - رحمه الله - : "وقوة القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنه ينبغي أن يكون قويًّا من غير عنف، وليناً من غير ضعف، وهذا كاليد فإنها قوية لينة، بخلاف ما يقسو من العَقِب فإنه يابس لا لين فيه، وإن كان فيه قوة"[10].

ومما يدل على تأكد الخشوع في الصلاة أن صلاة الظهر يشرع تأخيرها عن أول الوقت إلى حد الإبراد، مع أن الصلاة في أول الوقت محبوبة إلى الله وهي أفضل العمل: الصلاة على وقتها[11] ومع ذلك شرع لنا النبي ﷺ الإبراد بالصلاة، وحكمة هذا التأخير فيما ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - : "أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع، وحضور القلب، والتأثر بها"[12] ويورثه ذلك ضجراً، وقلقاً، وانزعاجاً، ومن ثَمّ لا يحصل له المقصود في الصلاة من الخشوع، وحضور القلب، والتأثر بها.

وأمر آخر مما يدل على أهمية الخشوع، ومنزلته في الدين أن العبادة التي يصاحبها الخشوع تفضل العبادة التي لا خشوع فيها، وشتان بين اثنين أحدهما يصلي، وهو خاشع، والآخر يصلي، وهو أبعد ما يكون من الخشوع، يقول حسان بن عطية - رحمه الله - : "إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن بينهما في الفضل كما بين السماء، والأرض"[13].

كما أن الخشوع أيضاً هو أول ما يفقد من هذه الأمة، كما قال حذيفة : "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة" ورب مصلٍّ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه خاشعاً"[14] وقد قال نحوه أبو يزيد المدني.

ومما يدل على أهميته أيضاً أن الله استبطأ المؤمنين في تحقيق هذا الوصف: فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فدعاهم إلى خشوع القلب في ذكره، وما نزل من كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وهؤلاء هم الذين إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] وكذلك قال في الآية الأخرى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] يقول: "والذين يخشون ربهم هم الذين إذا ذكر الله تعالى وجلت قلوبهم، فإن قيل: فخشوع القلب لذكر الله، وما نزل من الحق واجب؟ قيل: نعم"[15] فشيخ الإسلام يقرر ذلك، ويؤيده، هذا ما يتعلق بأهمية الخشوع. 

  1.  تفسير القرطبي (12/ 104).
  2.  مجموع الفتاوى (22/ 554، 558).
  3.  الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 10).
  4.  مجموع الفتاوى (22/ 553-554).
  5.  مجموع الفتاوى (22/ 554).
  6.  أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم (750).
  7.  أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب النظر في الصلاة، برقم (912)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (846)، وأخرجه مسلم بلفظ: ليَنتهِينّ أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم كتاب الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم (428).
  8. انظر: طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 372).
  9.  مجموع الفتاوى (7/ 30).
  10.  المصدر السابق.
  11.  أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (527)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (85).
  12. - انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 13).
  13.  المصدر السابق (ص: 21).
  14.  أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (8448)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (34808)، ومدارج السالكين (1/517).
  15.  مجموع الفتاوى (7/ 29).
الخشوع في الكتاب، والسنة

تكرر الخشوع في كتاب الله وجاء في معانٍ متعددة: منها الذل، وسكون الجوارح، والخوف، والتواضع، فهذه أربعة معانٍ، ويمكن أن يضاف إليها معنى خامس: وهو الجمود، واليبس،

فأما المعنى الأول: وهو مجيء الخشوع بمعنى الذل فكما قال الله : وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ]طه:108] أي: ذلت، ويقول الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا [الحشر:21] أي: ذليلا، وقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية:2].

وأما الخشوع بمعنى سكون الجوارح فكما قال الله : الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2].

قال الحسن: "كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا لذلك الجناح"[1].

وقال مجاهد : "السكون فيها"[2].

وجاء عن ابن عمر : "إذا قاموا في الصلاة أقبلوا على صلاتهم، وخفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، وعلموا أن الله يقبل عليهم فلا يلتفتون يمينًا، وشمالاً"[3].

وقال ابن عباس في تفسيرها: "أي: خائفون ساكنون"[4] وبه قال طائفة من السلف كمجاهد، والحسن، وقتادة، والزهري، وإبراهيم النخعي.

وجاء عن سعيد بن جبير - رحمه الله - أنه قال: "يعني متواضعين، لا يعرف مَن عن يمينه، ولا مَن عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله "[5].  

هذا معنى من قام لله خاشعًا الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2] فهو ساكن الجوارح، منكسر القلب لا يرفع بصره، ولا ينظر عن يمينه، ولا عن شماله، وقد ذكر شيخ الإسلام في عدد من كتبه هذه المعاني، وذكر غيرها:

كقول الضحاك: "الخشوع هو الرهبة لله "[6] أي: هذا الخشوع الذي ذكره الله .

ونقل عن أبي سنان أنه قال في هذه الآية: "الخشوع في القلب، وأن يُلين كنفه للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك"[7].

ونقل عن قتادة قال: "الخشوع في القلب، والخوف، وغض البصر في الصلاة"[8].

وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في معنى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]: "ومنه خشوع البصر، وخفضه، وسكونه، يعني أنه مضاد لتقليبه في الجهات، كقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ۝ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ۝ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:6 - 8] خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ أي: أنها ساكنة ذليلة، ثم ذكر الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ۝ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:43 - 44] وفي القراءة الأخرى: خاشعاً أبصارهم يقول: وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة، حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصارهم، بخلاف آية الصلاة، وهي: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2] فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين - يعنى البصر، والبدن - وصفهم بكليتهم أنهم حققوا الخشوع فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ.

وقال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] لم يقل: إلا على الخاشعين في أبصارهم، بينما في المحشر قال: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ مع أنهم يسرعون في مشيتهم، ويقول شيخ الإسلام: "ومن ذلك خشوع الأصوات كقوله: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [طه:108] وهو انخفاضها، وسكونها"[9].

ومما يدخل في هذا المعنى - وهو السكون - قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] حيث قال مجاهد: "أي: الركون، والخشوع، وغض البصر، وخفض الصوت، والرهبة لله "[10].

والمعنى الثالث من معاني الخشوع في القرآن: الخوف كما قال قتادة: "الخشوع في القلب هو الخوف، وغض البصر في الصلاة"[11] كما قال الله : وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] قال الحسن: "هو الخوف الدائم في القلب"[12].

وقال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:45] وقال الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].

والمعنى الرابع في القرآن: هو التواضع، ومن ذلك قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

وقال: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199].

وقال: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109].

وقال: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ [الأحزاب:35].

وكذا قوله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:92] قال مجاهد: "هو الخشوع، والتواضع"[13].

والمعنى الخامس: هو اليبس، والجمود كما في قوله - تبارك، وتعالى - : وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً  [فصلت:39] يعني: هامدة يابسة لا نبات فيها.

وأما في سنة رسول الله ﷺ فقد جاء في عدد من الأحاديث:

منها: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيُحسن وضوءَها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤتِ كبيرة، وذلك الدهر كله[14].

وحديث أبي هريرة عند النسائي بإسناد صحيح قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم، القائم، الخاشع، الراكع، الساجد[15] فهذا يدل على منزلة من حقق الخشوع.

ومن ذلك أيضاً: حديث على بن أبي طالب الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله ﷺ: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي [16].

 

  1.  تفسير الطبري (17/ 8).
  2.  تفسير الطبري (17/ 8)، ومجموع الفتاوى (22/ 555).
  3.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 84).
  4.  تفسير الطبري (17/ 10)، ومجموع الفتاوى (22/ 555).
  5.  تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 18).
  6.  مجموع الفتاوى (22/ 555).
  7.  المصدر السابق (22/ 556).
  8.  المصدر السابق.
  9.  انظر: القواعد النورانية (ص: 77).
  10.  تفسير البغوي (5/ 408).
  11.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 84)، وتفسير القرطبي (1/ 374).
  12.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 670).
  13.  الزهد لوكيع (ص: 598)، وتفسير الطبري (21/ 323)، وتفسير ابن كثير (7/ 361)، وتفسير القرطبي (3/341)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 542).
  14.  أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، برقم (228).
  15.  أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، باب مثل المجاهد في سبيل الله برقم (3127)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5850).
  16. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
درجات الخشوع

لا شك أن هذا المعنى يتفاوت، ولا يكون الناس فيه أيضاً على وتيرة واحدة، وابن القيم[1] - رحمه الله - يجعل الخشوع من هذه الحيثية - أي من جهة مراتبه - ثلاث مراتب:

الأولى: وهي التذلل لأمر الله مع الاستسلام لحكمه، مع التواضع لنظر الله له، هذه هي المرتبة الأولى.

فالتذلل لأمر الله - تبارك، وتعالى - : أن نتلقاه بذلة من غير استنكاف، ومن غير نفرة، ومن غير تعالٍ عليه، وإنما يخضع العبد لأمر ربه، ومولاه فيقبل هذا الأمر، وينقاد إليه، ويتمثل هذا التوجيه الرباني مع موافقة الباطن لظاهره، مع إظهار الضعف، والافتقار لهداية الله فهو منقاد لأمر ربه بقلبه، وجوارحه متواضع لله .

وأما الاستسلام لحكم الله : فهذا يشمل الحكم بنوعيه: الحكم الشرعي، فلا يعترض على شرائع الدين، وأحكام الله  الدينية، فيقول: يا رب لماذا تشرع هذا؟ ولا يعترض على أحكام الله القدرية الكونية، فإذا نزلت به مصيبة، أو بمن يحب، فإنه يتلقى ذلك بالصبر، والرضا دون أن يتسخط، ودون أن يعترض على الأقدار، فهو لا يعارض أمر الله الشرعي بشهوة، ولا برأي، ولا يعارض قدر الله بتسخط، و تذمر، وامتعاض.

وأما ما يتعلق بالتواضع لنظر الله : فهو أن يتواضع القلب، والجوارح لله فينكسر قلبه، وينكسر العبد أيضاً لاستشعاره أن الله ينظر إليه، ويراه، وأن الله مطلع عليه، يعلم تفاصيل أحواله، هذه هي المرتبة الأولى.

أن تستسلم لربك، ومولاك ظاهراً، وباطناً، وأن تخضع لأحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأن تتطامن، وتتواضع لربك، ومليكك .

وأما المرتبة الثانية: فهي الرجوع إلى النفس باستشعار نقصها، وضعفها، وعجزها، أن يستشعر العبد أنه مقصر، ومذنب، فيورثه ذلك أيضاً تواضعاً، وأما في نظره إلى الخلق فإنه يرى فضاءلهم، ومحاسنهم، فنظره إلى النفس بأن لا يلتفت إلى محاسنها، ومن ثَمّ فلا يطالب الناس بحقوقه عليهم، ولا يطالب الناس أن يقدموا له شيئاً من الإكرام، والإجلال، أو يتشوق إلى رد المعروف الذي استشعره عليهم، لكنه في المقابل إذا نظر إلى الناس فإنه ينظر إلى إفضالهم، وإحسانهم، وينظر إلى مناقبهم، ومحاسنهم، فيثني عليهم، ويشكر معروفهم، ويحفظ صنائعهم، فلا تضيع، ولا تنسى، وهذا لا شك أنه من أكمل الكمالات، أن العبد ينظر إلى نفسه بعين النقص، وينظر إلى غيره بالنظر إلى فضائلهم، ومحاسنهم، ومن ثَمّ فإنه لا يتعالى على الخلق، ولا يجحد لهم معروفاً، وصنيعاً.

أما المرتبة الثالثة: فهي أن يصفي قلبه من النظر إلى المخلوقين، فلا يلتفت إليهم بعمله الصالح، فلا يعمل أعمالاً صالحة، وقلبه يتشبث بهم، ويتطلع إليهم، هذا مع إخفاء أحواله عن المخلوقين، فلا يعرفون أحواله مع الله من عبادة، وخشوع، وإخلاص، وغير ذلك مما قد يظهره العبد للناس، فهذا شيء بينه، وبين الله تعالى، فصارت مراتبه ثلاثاً.  

  1.  انظر: مدارج السالكين (1/ 518).
مراتب الناس في الخشوع

فكما أن الخشوع يتفاوت في نفسه، وليس على مرتبة واحدة، فكذلك الناس يتفاوتون فيه بحسب ما يقع في قلوبهم من معرفة الله ومعرفة صفات عظمته، وجلاله، واستشعار مراقبته، وكذلك بحسب ما يكون في قلوبهم من معرفة النفس، ونقائصها، وعيوبها، وكذلك بحسب فهمهم، وتدبرهم لمعاني القرآن، فيتفاوت الناس في ذلك تفاوتًا كبيرًا، ويكون بين الواحد، ومن بجانبه في الصلاة مثلاً كما بين المشرق، والمغرب، مع صرف النظر عن مادة هذا الخشوع، والسبب الموصل إليه بالنسبة لهذا، أو ذاك.

فمن الناس من يتحقق له هذا الخشوع لقوة مطالعته لقرب الله من عبده، واطلاعه على سره، وضميره، ومكنوناته، فيستحي من الله، ويراقب ربه في حركاته، وسكناته، ومنهم من يحصل له الخشوع لمطالعته لكمال الله، وجماله المقتضي الاستغراق في محبته، والشوق إلى لقائه.

وبعضهم يخشع حين يستشعر قوة الله  وجبروته، وبطشه، وشدة أخذه، ونكاله للظالمين، المجرمين، الخارجين عن حدوده، وطاعته، فهؤلاء يحصل لهم الخشوع مع صرف النظر عن الأمر الذي أوجب لهم هذا الخشوع، وهم كذلك أيضاً في هذا الباب بين ظالم لنفسه، وبين مقتصد، وبين سابق بالخيرات بإذن الله[1] لأن مراتب السالكين إلى الله في العبودية لا تخرج عن هذه المراتب الثلاث كما قال الله : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32].

فالظالم لنفسه: هو المقصر في الواجبات، المرتكب للمحظورات، والمقتصد: هو من اقتصر على الأمر الواجب دون زيادة، أو نقص، وترك المحرم.

والسابق بالخيرات: هو من جاء بالواجب، وفارق المحرم، مع مجانبته للمكروه، وفعله المستحبات، فالخشوع عمل من أعمال القلب التي تظهر على الوجه، والجوارح.

فالناس يتفاوتون فيه، وهم فيه على هذه المراتب، فالسابقون في هذا الباب هم أعلى المراتب، ثم يلي ذلك من هو مقتصد، ثم بعد ذلك الظالم لنفسه، والظالم لنفسه متوعد بالعقوبة، وقد كان النبي ﷺ يستعيذ بربه من قلب لا يخشع، ومن علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع[2].

والشاهد فيه: أن النبي ﷺ استعاذ بربه من القلوب التي لا محل للخشوع فيها، فدل على أن تحقيق الخشوع، وتحصيله من الواجبات في الحد الذي لا يرخص للمكلف في تركه، والتقصير فيه.

وهكذا أحوال العباد في صلاتهم من جهة الخشوع، فهم على مراتب، وقد جعلهم ابن القيم - رحمه الله - في بعض كتبه على خمس مراتب[3]:

الأول: الظالم لنفسه الذي تنقّص من وضوئها، ومواقيتها، وحدودها، وأركانها، ولا شك أن هذه الأمور تؤثر في خشوع العبد، بل إن الإمام يتأثر في خشوعه، وإدراكه في صلاته بسبب إخلال بعض المأمومين في طهارتهم، أو في إقامة صلاتهم.

والثاني: رجل يحافظ على المواقيت، والأركان الظاهرة، والوضوء، ولكنه يضيع مجاهدة النفس في الوسوسة، فهذا مؤاخذ، يأتي بالصلاة مستوفية للأركان، والشروط، ولكنه في صلاته مستغرق في وساوسه، وأفكاره، وخواطره، فهذا ليس له من صلاته إلا ما عقل، وغاية ما في الأمر أن تكون هذه الصلاة مجزئة، أي مسقطة للمطالبة، ولكنه قد لا يثاب عليها، أو أنه لا يثاب إلا على القدر الذي عقله فحسب.

وأما الثالث: فهو من حافظ على حدودها، وأركانها، وجاهد نفسه بدفع الوساوس، فهو مشغول بين صلاة، وجهاد، يحاول أن يستحضر، ويجاهد الخواطر، فهذا مأجور على مجاهدته، مأجور على صلاته، ولكنه ليس في المرتبة العالية.

وأما الرابع - وهو فوقه - : فهو من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها، وأركانها، وحدودها، واستغرق قلبه في مراعاة حدودها، وحقوقها؛ لئلا يُضيع شيئاً منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها، وإتمامها، قد استغرق قلبَه شأنُ الصلاة، وعبودية ربه - تبارك، وتعالى - فيها.

وأما الخامس - وهو أعلى هذه المراتب، وأرفع درجات الخاشعين في الصلاة - : فهو إضافة إلى ما سبق من تحقيق الشروط، والواجبات، والأركان، وحضور القلب، إضافة إلى ذلك فإنه قد امتلأ قلبه محبة لله، وعظمة، وإجلالاً له تعالى، يصلي كأن الله يراه، وكأنه يرى ربه فتندفع عنه تلك الوساوس التي عند الآخرين، والخطرات، ولا تأتي إليه أصلاً، ولا تجد طريقاً إلى قلبه.

فالأول: معاقب.

والثاني محاسب.

والثالث: مكفر عنه؛ لمجاهدته.

والرابع: مثاب.

والخامس قريب إلى ربه في أعلى المنازل، والدرجات. 

  1.  انظر: مجموع الفتاوى (7/ 29).
  2.  أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم (1548)، والترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ برقم (3482)، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من نفس لا تشبع، برقم (5467)، وبرقم (5536)، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من دعاء لا يسمع، وابن ماجه، أبواب الدعاء، باب دعاء رسول الله ﷺ برقم (3837)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1384)، وفي صحيح الجامع، برقم (1297).
  3.  انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 23).
أنـواع الخشــوع

الخشوع ليس له نوع واحد، وإن كان في صورته الظاهرة يخرج المرء، أو العبد مع غيره فيه بهيئة متحدة، إلا أن ذلك يفترق في حقيقة الأمر بسبب ما يقوم في القلب من الحقائق، والدواعي، فهناك خشوع حقيقي، وهذا هو القسم الأول، وخشوع مزيف، وهو خشوع النفاق، وهو خشوع الظاهر دون مواطأة الباطن، فالباطن الذي هو محل للخشوع أصلاً قد صار فارغاً من هذا الخشوع، فظهر ذلك مرتسماً على وجه صاحبه، وظاهراً على جوارحه، ولكن قلبه قد فرغ منه، فهذا لا فائدة فيه، وهو خشوع النفاق.

ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه، وأطرافه مع فراغ قلبه منه فإن ذلك يكون من قبيل خشوع النفاق إلا في حالة واحدة: وهي أن يكون العبد يفعل ذلك من أجل الوصول إلى الخشوع، كصاحب المجاهدة الذي حدثتكم عنه، بشرط أن لا يظهر ذلك أمام الناس بحيث يكون الإنسان بعيداً عن نظر الناس لا يلتفت إليهم بقلبه، ولا يحضر مجامعهم بهذا الفعل الذي يتصنع فيه الخشوع، فهو يتظاهر، أو يتصنع، أو يحاول أن يبكي، وأن يخشع، وإن لم يكن قلبه خاشعاً من أجل أن يحصل الخشوع، فهذا لا يكون مذموماً.

وأما المذموم فأن يكون ذلك على سبيل النظر إلى الخلق، وتصنع الخشوع من أجل تحصيل محمدتهم، وقد كان جماعة من السلف يستعيذون من هذا النوع، وهو خشوع النفاق، وكان بعضهم يقول: "استعيذوا بالله من خشوع النفاق" فقيل له: وما خشوع النفاق؟ فقال: "أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع"[1] وكان الفضيل بن عياض - رحمه الله - وهو من كبار الخاشعين - يقول: "كان يُكره أن يُرِيَ الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه"[2].

يعني أن يُظهر في ظاهره أعظم مما قام في باطنه، وقد ذُكر أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: "يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب"[3] إنما الخشوع في القلوب.

ولما ذكر شمس الدين ابن القيم - رحمه الله - أنواع البكاء في كتابه: "زاد المعاد" قال: "والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين، والقلب قاسٍ، فيُظهر صاحبه الخشوع، وهو من أقسى الناس قلباً"[4].

وقد رأى بعضهم رجلاً خاشع المنكبين، والبدن فقال: يا فلان، الخشوع هاهنا - وأشار إلى صدره - لا هاهنا - وأشار إلى منكبيه"[5]

وذكر أن عائشة - رضي الله عنها - رأت أناساً يمشون، ويتماوتون في مشيتهم، فسألت عن هؤلاء، فقيل لها: نُسّاك - أي: أن هؤلاء عباد - فقالت: "كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، و إذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقًّا"[6].

وقد فرق ابن القيم - رحمه الله - بين خشوع النفاق، وخشوع الإيمان في كتابه: "الروح" فقال عن خشوع الإيمان بأنه: "خشوع القلوب لله بالتعظيم، والإجلال، والوقار، والمهابة، والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل، والخجل، والحب، والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح، وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعاً، وتكلفاً، والقلب غير خاشع ... - إلى أن قال - : فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره؛ فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة؛ فماتت شهوات النفس للخوف، والوقار الذي خُشي به، وخمدت الجوارح، وتوقر القلب، واطمأن إلى الله، وذِكْرِه بالسكينة التي نزلت عليه من ربه، فصار مخبتاً له، والمخبت: المطمئن، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء، فكذلك القلب المخبت قد خشع، واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، وعلامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالاً، وذلا، وانكساراً بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه.  

وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره، وربا، فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء، فهذا خشوع الإيمان، وأما التماوت، وخشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعاً، ومراءاة، ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات، وإرادات، فهو يخشع في الظاهر، وحية الوادي، وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة"[7].

أي: أن جوارحه لم تواطئ قلبه في هذا الخشوع، هذا الفرق بين الخشوعين، وشتان ما بينهما.

  1.  انظر: مجموع الفتاوى (7/ 368)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 124)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 517)، والزهد لأحمد بن حنبل (ص: 117)، وصفة الصفوة (1/ 243).
  2.  مدارج السالكين  (1/ 517).
  3.  انظر: مدارج السالكين (1/ 517)، وإحياء علوم الدين (3/ 296)، والزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 69).
  4.  زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 178).
  5.  مدارج السالكين (1/ 517).
  6.  المصدر السابق.
  7.  الروح (ص: 232-233).
الطريق إلى الخشوع

كيف نحصّل الخشوع في قلوبنا؟ كيف نكون من الخاشعين؟

أقول: أول ذلك: أن تستحضر نظر الله تعالى إليك في حركاتك، وسكناتك في صلاتك، وفي قراءتك، وفي قيامك، وقعودك، فالخشوع لا يختص بالصلاة، وإنما هو عبادة قلبية يظهر أثرها على الجوارح في كل أحوال العبد، فهذا سبب أساسي في تحصيل الخشوع، استحضار نظر الرب إليك، وكلما كان العبد أكثر استحضاراً لهذا المعنى كلما زاد الخشوع في قلبه، وإنما يفارق الخشوع قلبك إذا حصلت الغفلة عن استشعار نظر الله ومراقبته.

هذا على بن الحسين زين العابدين كان إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه، ولا يخطر بها[1] يعني ما يقول بيده إذا مشى هكذا يُحركها، ولا يقول بها هكذا، وهو يمشي كأنه قد زها بنفسه، فهو يمشي بشيء من الإعجاب، والغرور، والتعاظم، وإنما صفة مشية المتواضع أن يجعل يديه إلى فخذيه دون أن يخطر بها، فإن هذا يذهب الوقار، والخشوع - الحركة الكثيرة - وكذلك لا يجافي بين يديه، وبين منكبيه، وفخذيه، فيظهر بصورة المتعاظم المتكبر المتغطرس، وهو يمشي هكذا، وإنما يلصق يده بجنبيه، وفخذيه، هذا على بن الحسين زين العابدين.

وكان إذا قام إلى الصلاة اضطرب، وارتعد، فقيل له - سُئل عن هذا - فقال: "تدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟"[2].

وكان إذا توضأ للصلاة يصفر لونه من شدة الوجل، والحياء، والخوف، واستشعار عظمة الله، والنظر إليه، سيقدم على صلاة يناجي فيها ربه[3] فيظهر ذلك صفرة في وجهه، كمن أراد أن يلاقي عظيمًا من العظماء، فقد يظهر ذلك الوجل على قسمات وجهه، وعلى حركاته، وسكناته، حتى إن بعضهم كان إذا قام إلى الصلاة، ووقع ذباب على وجهه لا يطرده بيده، ولا يحرك رأسه لطرد الذباب؛ لغلبة الخشوع عليه[4].

وهذا خلف بن أيوب كان لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة، فقيل له: كيف تصبر؟! قال: "بلغني أن الفساق يتصبرون تحت السياط ليقال: فلان صبور"[5] يعني الفساق إذا جلدوا، وضربوا الحدود، أو إذا جلدوا تعزيراً فإن الواحد منهم يتجلد لا يتحرك، وهو يجلد ليظهر للآخرين أنه لا يبالي، ولربما فعل ذلك بعض الطلاب في المدارس إذا أراد المعلم أن يعاقب بعض الطلبة فلربما أظهر تجلداً فقال بيده هكذا، ولم يحركها فربما ضُرب ضرباً يكسر العظم، وهو لا يتحرك ليظهر التجلد، فهذا كان يستشعر هذا المعنى - وهو خلف بن أيوب - فيقول: إذا كان هؤلاء يتجلدون للسياط، فكيف لا نتجلد أمام رب الأرباب، نتجلد عن دفع هذا الذباب؟ يقول: "أنا بين يدي ربي أفلا أصبر على ذباب يقع عليّ؟!".

أما الأمر الثاني مما يكسب الخشوع، و يؤثر الخشوع فهو ترقب آفات النفس، والعمل، ورؤية فضل كل ذي فضل، وسبق الكلام عن هذا القضية، وكلام ابن القيم - رحمه الله - فيها، ارجع إلى نفسك، وانظر إلى عيوبها، فإن ذلك يورثك انكساراً، وأمّا في الخلق فلا تنظر إلى عيوبهم، بل انظر إلى محاسنهم، فيورثك ذلك شعورًا بأنك أقل من هؤلاء جميعاً، وأنك المقصر المذنب، تحتاج إلى عفو ربك، ومسامحته، وإلى التشمير بالتقرب منه، وطاعته.  

وأما الأمر الثالث فهو معرفة الرب معرفة صحيحة تورث التعظيم، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، وكلام الحافظ ابن رجب - رحمه الله -.

فالمقصود: أن العبد كلما كان بالله أعرف كلما كان له أخوف، وكلما كان أكثر تعظيماً لله ولهذا قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فإذا عرف العبد صفات الكمال التي اتصف الله بها، واستشعرها فإنه ينكسر، ويخضع، ويتواضع، ويخشع قلبه أمام الله .

وأمر رابع نحتاج إليه في الصلاة لنستحضر الخشوع فيها، وهو: أن تضع في قلبك إذا قمت إلى الصلاة، وتهيأت لها أنها الصلاة الأخيرة، صلِّ صلاة مودع، فقد لا تصلي بعدها، فإذا قيل للعبد: هذه هي الصلاة الأخيرة، كيف يصلي؟ لا شك أنه يفرغ قلبه من كل شاغل من شواغل الدنيا، ويحضر قلبه في هذه الصلاة، خطب عدي بن أرطاة على منبر المدائن، فجعل يعظ الناس حتى بكي، وأبكى، فقال: "كونوا كرجل قال لابنه، وهو يعظه: يا بني أوصيك لا تصلِّ صلاة إلا وظننت أنك لا تصلي بعدها حتى تموت"[6].

وأمر خامس: أن تستشعر، وتستحضر أنك على الصراط فوق جهنم، وكأنك تشاهد الجنة، والنار أمام عينك، وكأنك قمت بين يدي الله في موقف الحساب، كان بعض السلف إذا سمعوا الأذان تغيرت ألوانهم، وفاضت عيونهم، كانوا يرون أنه يذكرهم بالنداء يوم العرض الأكبر، كانوا يستشعرون هذه المعاني في كل شيء حولهم، إذا سمعوا المؤذن يؤذن فاضت أعينهم؛ لأنه يذكرهم بالنداء في ذلك الموقف الرهيب، وهذا رجل من العلماء كان يخشع في صلاته فسُئل عن ذلك كيف يحصل لك هذا الخشوع العظيم؟ فقال: "أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي"[7].

وهذا الرجل من العلماء العباد، وهو سعيد بن عبد العزيز كان يبكي إذا صلى، وكان إذا صلى على الحصير يسمع من بجانبه، وقع الدموع على الحصير تتقاطر، وكان قد سُئل: ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ قال: "يا ابن أخي، وما سؤالك عن ذلك؟" فقال السائل: رجاء أن ينفعني الله بذلك، فقال: "ما قمت إلى صلاة إلا مُثلت لي جهنم"[8] كأنه يرى جهنم مسعرة، وأهلها يصطرخون فيها وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37] فكان ذلك يورثه خشوعاً، وبكاء في صلاته.  

ومن استشعر هذه المعاني في الصلاة فإن ذلك لا يفترق بالنسبة إليه في صلاة نافلة، أو صلاة فريضة، كما لا يفترق بالنسبة إليه في الصلاة الجهرية، أو الصلاة السرية، وأنت تعجب حين تسمع بعض الناس يستغربون ممن يخشع في الصلاة السرية كيف يخشع في الصلاة السرية؟ وكيف لا يخشع، وهو يقف بين يدي الله، ويستحضر الجنة، والنار، وأن الله يراه، وينظر إليه، ويناجيه؟ كيف لا يخشع؟ ولكن الغفلة التي غلبت على قلوبنا أورثتنا بعداً عن هذه المعاني، يقول بعض السلف: "لو رأيتَ أحدهم، وقد قام إلى صلاته، فلما وقف في محرابه، واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام هو الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين؛ فانخلع قلبه، وذهل عقله"[9] تخيلْ هذا: الناسُ في صفوفهم للصلاة يقفون صفوفاً فتتذكر، وتستشعر الوقوف بين يدي الرب فيخشع الإنسان، وينكسر قلبه.  

وكان منصور بن صفية يبكي في كل صلاة، وكانوا يرون أنه يذكر الموت، والقيامة في صلاته فيبكي هذا البكاء[10].

الأمر السادس: هو أن تفرغ قلبك لها، وأن تؤثرها على ما سواها مع مجانبة الصوارف، والشواغل التي تؤثر في القلب، وقد ذكر هذا المعنى الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره حيث قال: "والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له، وقرة عين، كما قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه أحمد، والنسائي عن أنس عن الرسول ﷺ قال: حُبب إليّ الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة[11]"[12].

وكان محمد بن المنكدر - رحمه الله - يقول: "إني لأدخل في الليل، فيَهُولني، فينقضي، وما قضيت منه إربي"[13] يقول: أدخل في الليل لأصلي صلاة الليل، فأشرع فيها، فينقضي الليل بأجمعه، ولم أشبع، ولم أقضِ نهمة نفسي، وذلك لاستغراقه في هذه الصلاة.

وقد قال سعد بن معاذ : "فيّ ثلاث خصال لو كنت في سائر الأحوال أكون فيهن لكنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت حديثاً من رسول الله ﷺ لا يقع في قلبي ريب فيه، وإذا كنت في جنازة لا أحدث نفسي بغير ما تقول، أو يقال لها"[14]. يعني من الحساب.

وقد قالوا لعامر بن عبد القيس، أتحدث نفسك في الصلاة؟ قال: "أوَشيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟" قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، قال: أبالجنة، والحور؟ قالوا: لا، بأهلينا، وأموالنا، فقال: "لئن تختلف الأسنة فيّ أحب إليّ"[15] أي من أن أحدث نفسي بشيء من حطام الدنيا، وأنا في هذه الصلاة!.

وهذا عامر بن عبد القيس - أيضًا - قيل له: أما تسهو في صلاتك؟ قال: أوَحديثٌ أحب إلىّ من القرآن حتى أشتغل به؟! هيهات، مناجاة الحبيب تستغرق الإحساس[16] وبعضنا ربما يكون إماماً، ويسجد للسهو في اليوم مراراً!، وقد اشتكى بعض الناس من إمام لهم يسهو في اليوم الواحد في ثلاثة فروض، هذه التي يسجد فيها للسهو! فأين القلب؟ هذا قلبه مشغول.

فينبغي للعبد أن يفرغ قلبه، فالمرأة - مثلاً - إذا جاءت إلى الصلاة لا تجعل شيئاً على النار تحتاج إلى مراقبته عن قرب، و إذا كان لديها طفل فإنها تضعه في مكان آمن لئلا ينشغل قلبها عليه، ولا تحتاج أن تتجوز في صلاتها من أجل ملاحظة هذا الطفل، كما أنها لا تجعله بجانبها لكيلا يشوش عليها، وكذلك من كان في انتظار مكالمة مهمة، أو نحو ذلك، أو عنده بعض المكالمات، وهو يريد أن يصلي الليل مثلاً، أو يتطوع، فإنه ينتهي من هذه المكالمات، وهكذا في الفريضة يُبكر قبل الأذان، ويقضي حوائجه، ويفرغ من هذه الأمور المقلقة له، ثم يدخل في الصلاة، وهو فارغ القلب لا يحدث نفسه بشيء سواها.

وهذا الحسن - رحمه الله - يقول: "إذا قمت إلى الصلاة قانتاً فقم كما أمرك الله، وإياك، والسهو، والالتفات، إياك أن ينظر الله إليك، وتنظر إلى غيره، وتسأل ربك الجنة، وتعوذ به من النار، وقلبك ساهٍ لا تدري ما تقول بلسانك"[17] الله ينظر إليك، ولربما كنت تفكر في بعض الأمور المحرمة، ولربما نظر الله إليك، وأنت تفكر في أمور حقيرة، فربما كان الواحد يصلح شيئاً تافهاً في بيته، لربما كان يصلح مسلاة لصبي، ثم يقوم يصلي، وقلبه مشغول بإصلاحها، والله ينظر إليه، ويطلع عليه، فهذا لا يليق بحال من الأحوال، فينبغي التفطن لهذه المعاني.

وللأسف نحن عندما كنا نعيش بعيدًا عن هذه الأحوال أصبحنا نستغرب منها، ولقد حدثني جماعة من الناس عن رجل من المعاصرين، وهو من العوام، وليس من طلبة العلم، ولا من العلماء أنه إذا قام يصلي فإن أهله، أو من بجانبه يحتاجون إلى تنبيهه إذا قرب وقت الأذان من أجل أن يوجز في صلاته؛ لأنه يستغرق في صلاته، وينسى كل شيء، كان هذا الرجل يتطوع بعد صلاة العشاء في المسجد النبوي، وكان بعض الحراس يعرفونه، وهو رجل يسكن المدينة من عشرات السنين، فكان إذا قرب وقت إغلاق الأبواب بعد صلاة العشاء بمدة معلومة يأتون إليه قبل ذلك بنحو عشر دقائق، وينبهونه من أجل أن يتفطن، من أجل أن يُجوِّز في صلاته، وامرأته كانت تأتيه قبيل الأذان الأول، وهو يصلي فتنبهه من أجل أن يُجوز فيخرج إلى مسجد رسول الله ﷺ منذ فتح أبوابه من الأذان الأول، حدثني عن هذا بعض جيرانه، وبعض من عرفه منذ زمن طويل، وحدثني عن هذا ابنه بعد أن مات - رحمه الله - هذا مثال واقعي لرجل من العوام يحصل له هذا الاستغراق في الصلاة، والخشوع.  

والأمر السابع مما يورث الخشوع: هو تدبر القرآن، يقول ابن جرير الطبري - رحمه الله - : "إني لأعجب ممن قرأ القرآن، ولم يعلم تأويله، كيف يلتذ بقراءته؟"[18] وجرب هذا في نفسك، اقرأ تفسير بعض الآيات، ثم اسمعها في الصلاة كيف تجد الفرق؟.

بل، وربما تكلم الإمام، أو تكلم غيره في صلاة التراويح عن تفسير بعض الآيات فإذا قرئت رأيت فرقاً شاسعاً بينها، وبين غيرها من الآيات التي لم تُفسر، وهذا شيء مشاهد، فمعرفة معاني القرآن تجعل القلب يستغرق في تدبره، والتفكر في معانيه، حتى إن القلب يخشع عند ذلك، بل لربما خشع الإنسان عند تسميع القرآن، وهو يُسمِّع لغيره قد لا يتحمل، وكان أبو بكر قريب الدمعة، كثير البكاء، لا يتمالك نفسه إذا صلى، ولذلك لما مرض النبي ﷺ وأمر أن يصلى أبو بكر بالناس اعتذرت عنه عائشة - رضي الله عنها - بأنه رجل رقيق لا يتمالك، إذا صلى، وقرأ القرآن فإنه يبكي[19].

فأقول: معرفة معاني القرآن طريق للتدبر، والتدبر طريق للفهم، والاتعاظ، والاعتبار، والخشوع؛ لذلك كان السلف يقرأ الواحد منهم آية واحدة، ويقوم يرددها إلى الفجر يبكي، هذا مالك بن دينار - رحمه الله - كان يقرأ قول الله : لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21] ثم يقول: "أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صُدع قلبه"[20].

ويقول ابن مسعود: "إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم"[21] وهم الخوارج.

هذه صفة قبيحة ينبغي للمؤمن أن يتباعد عنها؛ لئلا يكون متصفاً بصفة هؤلاء الذين ذمهم رسول الله ﷺ .

وقد قال أبو عمران الجوني - رحمه الله - : "والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرف إلى الجبال لمحاها"[22].

وكان الحسن يقول: "يا ابن آدم، إذا وسوس لك الشيطان في خطيئة، أو حدثت بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حمّلك الله في كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت، وتصدعت، أما سمعته يقول: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]"[23].

الأمر الثامن، والأخير مما يورث الخشوع: هو ترك التكلف في كل شأن من الشئون، ولذلك أقول: من الأحسن أن يصلي الإنسان في كل مكان، لا يتكلف لأحد فيه، وأن يصلي في مكان لا يكون بجانبه أحد قد يجد نفسه تشده لأنْ يتكلف له، اجعل الله أمام ناظرك، ولا تلتفت إلى غيره، ولا تتكلف لأحد.

وكذلك أيضاً التكلف في القراءة، ولهذا لا أقول: التجويد، ولكن التقعر، والتكلف، والمبالغة في التجويد، التجويد مطلوب لكن المبالغة في ذلك أمر يذهب الخشوع على الإمام، وعلى المأمومين، بل أبلغ من ذلك التكلف في الدعاء، حينما يتكلف الإنسان أن يأتي بالدعاء على غير سجيته المعهودة في كلامه، بمعنى إذا كان من عادة الإنسان أنه يلحن، فصار يحاول أن يأتي بالدعاء موزوناً معرباً، لا يخرم حرفًا، واحداً فإن ذلك يكون مدعاة لذهاب الخشوع، وليست هذه دعوة للحن، وإنما أقول: ينبغي في الدعاء أن يحرص الإنسان أن يدعو على سجيته، ولهذا فإن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لفت النظر إلى هذا المعنى، وكان يقول: "إن الله يسمع دعاء الداعين سواء كان مسجوعاً، أو ملحوناً، سواء كان معرباً، أو غير معرب"[24] بمعنى أنه إذا تكلف الإنسان السجع في الدعاء فإن ذلك يذهب عليه الخشوع "وكذلك إذا كان العبد يتكلف الإعراب فيه" يعني أن يأتي به على وزان لغة العرب في أواخر الكلم فإن ذلك يذهب الخشوع، يقول شيخ الإسلام: "بل ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب أن لا يتكلف الإعراب، وقد قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع، وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء في القلب، واللسان تابع للقلب"[25].  

فإذا كانت العناية بإصلاح اللسان فإن ذلك يؤثر في القلب، ولابد، يقول: "ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه، ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاءً يُفتح عليه لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه، والدعاء يجوز بالعربية، وبغير العربية، والله يعلم مقصد الداعي، ومراده، وإن لم يُقوم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات"[26].

وهذا أمر مهم قلّ أن يتنبه له، أو ينبه إليه، بل حتى الموعظة إذا كان هم الملقي هو توقي اللحن في الخطبة، أو في الموعظة، أو في المحاضرة، فإن ذلك يؤثر في وقعها على القلوب، قد يكون الكلام الذي يقال في ذاته من الكلام المؤثر، ولكن لما كان شُغْل الملقي بإصلاح لسانه، وتقويمه مخافة اللحن - ولا شك أن اللحن قبيح فاللحن في الكلام كالجدري في الوجه - قل التأثير، وهذا شيء مشاهد، تسمع الناس يتأثرون كثيراً ببعض المواعظ، والخطب، والمحاضرات، ويبكون عند حضورها، ويتأثرون غاية التأثر، وإذا سمعتها تجد قلبًا حاضراً، وقد يكون من الأسباب عدم تكلف صاحبها في إلقاء الكلام عند محاضرته، وتجد مع ذلك لحناً فجًّا فاحشاً لا يستطيع أن يسمعه من أجاد العربية، بل ينفر من أول جملة يسمعها فيه، بينما تجد الآخرين الذين لا ينظرون إلى هذه الجوانب يستهويهم هذا الكلام، ويعجبهم، ويتأثرون به غاية التأثر، ولربما تبرعوا بمئات الألوف من هذا الشريط الذي يسمعه الآخر الذي يعرف لحن الكلام، ولا يستطيع أن يواصل جملة واحدة فيه لركاكته، وضعفه، وكثرة اللحن فيه، بينما هؤلاء يتأثرون به، ويعجبهم غاية الإعجاب، ما السبب في هذا؟

السبب هو أن هذا يتكلم من غير تكلف، ولم تكن عنايته بإصلاح منطقه، ولسانه، وإنما كانت هذه المعاني في قلبه، فتكلم بكلمات صادقة من قلب خاشع؛ فأثر ذلك في سامعيه، والقلوب بينها إشارات، وأمور لا يدركها حس الإنسان، فالقلب يدرك بعض المعاني المعبرة عن الحب، وبعض المعاني المعبرة عن الانقباض، فيجد قلبه ينقبض لفلان، وفلان، ولا يلقاه إلا تكلفاً، كما أن القلب يتأثر حينما يسمع نصيحة يدرك أن هذا الكلام صدر من قلب مشفق، فيتأثر، وكذلك أيضاً تجد هذا الإنسان يتأثر بالموعظة إذا خرجت من قلب عامر بالخشوع، والخضوع، وأما إذا كانت المواعظ تلقى على الناس من قلب صلب لا يتأثر، أو يقرأ القرآن صاحب قلب قاسٍ فأنى للناس أن يتأثروا؟ هذه الآية يقرؤها هذا الإمام، ويقرؤها آخر، هذا يتأثر، ويتأثر من حوله، ومن يسمع قراءته غاية التأثر، والآخر يمر على مئات الآيات من أمثالها، ولا يحرك فيه ساكناً، ولا يحرك فيمن معه، ما السبب؟ السبب هو هذا المعنى - والله تعالى أعلم -.

  1.  صفة الصفوة (1/ 354).
  2.  المصدر السابق.
  3.  انظر: المصدر السابق.
  4.  انظر: إحياء علوم الدين (1/ 188).
  5.  المصدر السابق (1/ 151).
  6.  انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (40/ 61).
  7.  انظر: إحياء علوم الدين (1/ 151).
  8.  انظر: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (8/ 34).
  9.  انظر: تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 21).
  10.  انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال (28/ 539).
  11.  أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم (3940)، وأحمد في المسند، برقم (14037)، وقال محققوه: "إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين غير سلام أبي المنذر، فهو صدوق حسن الحديث" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3124).
  12.  انظر: تفسير ابن كثير (5/ 461).
  13.  انظر: الخشوع في الصلاة، ابن رجب، (ص: 27).
  14.  انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 222)، ومجموع الفتاوى (22/ 605).
  15.  انظر: مجموع الفتاوى (22/ 605).
  16.  انظر: المدهش (ص: 455). 
  17.  تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 25).
  18.  تفسير الطبري (جامع البيان) (1/ 10).
  19.  أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (664)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر، وغيرهما من يصلي بالناس، وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه، ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام، برقم (418).
  20.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 121)، وتفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 16).
  21.  أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق، وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم، برقم (7562)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1064)، وانظر: تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 14).
  22.  تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 16).
  23.  المصدر السابق.
  24.  مجموع الفتاوى (22/ 489).
  25.  المصدر السابق.
  26.  المصدر السابق.
ثمرات الخشوع

1 - أول هذه الثمرات، والآثار السلوكية: هو أن الخشوع يطرد الشيطان، لأن الشيطان لا يجتمع مع الخشوع إطلاقاً، فالخواطر، والوساوس تشغل القلب، والخشوع حضور القلب بكليته، وصاحب القلب الخاشع لا يجد الشيطان طريقاً في وساوسه، وخواطره إلى قلبه، ولذلك قال من قال من أهل العلم: "من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان"[1].

2 - الرفعة، وعلو المنزلة: "ومن تخشع لله تواضعاً - كما قال ابن مسعود - رفعه الله يوم القيامة"[2].

3 - وأما الأمر الثالث فهو بلوغ المرام، وتحصيل المطلوب، الله يقول: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1 - 2] فذكر ذلك في أول صفاتهم، والفلاح الذي قد حكم الله به بطريقة محققة بالتعبير بقد: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] هو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، قال رجل للحسن: أوصني، قال: "رطب لسانك بذكر الله، وندِّ جفونك بالدموع من خشية الله، فقلّ من طلبتَ لديه خيراً فلم تدركه"[3].

 فمن كان بهذه المثابة حصل له مطلوبه من ربه - تبارك، وتعالى - فأكرمه، وقربه.

4 - والأمر الرابع: هو أن الخشوع يورث صاحبه أخلاقاً محمودة، وذلك أن الخشوع أصل من أصول الأخلاق، وأساس من أسسها، كما قال ابن القيم - رحمه الله - : "فالكبر، والمهابة، والدناءة أصل الأخلاق المذمومة، والكبر يقابل الخشوع، والخشوع يقابله الصلف، والتعالي، والجفاء، والرعونة، والدناءة، وأما الخشوع فهو عكس ذلك، فهو أصل الأخلاق الفاضلة، كالصبر، والشجاعة، والعدل، والمروءة، والعفة، والسيادة، والجود، والحلم، والعفو، والصفح، والاشتمال، والإيثار، وعزة النفس عن الدناءة، والتواضع، والقناعة، والصدق، والأخلاق، والمكافأة على الإحسان بمثله، أو أفضل، والتغافل عن زلات الناس، وترك الانشغال بما لا يعنيه، وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة، ونحو ذلك، فكلها ناشئة من الخشوع، وعلو الهمة، والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة، ثم ينزل عليها الماء، فتهتز، وتربو، وتأخذ زينتها، وبهجتها، فكذلك المخلوق منها إذا أصاب حظه من التوفيق" - إلى أن قال - : "فمن علت همته، وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل"[4]

5 - الخامس: أن الخشوع يرد العبد إلى حكم العبودية، والكبر يرفعه عن هذا المقام، ولذلك كان الكبر لا يتناسب إطلاقاً مع عبودية القلب، ومع عبودية العبد، فالكبر كمال لله أما المخلوق فكماله في الخشوع، والتواضع، والإخبات، فالعبد لو تُرك مع نفسه فإن فيه صفات مذمومة قبيحة تدعو إليها النفس من التعالي على الخلق، والأَشَر؛ فيخرج عن طوره، وأصله الذي خُلق له، ويثب على حق ربه من الكبرياء، والعظمة، فينازع ربه ذلك، وقد أمر العبد بالسجود - كما قال ابن القيم - رحمه الله - خضوعاً لعظمة ربه، وفاطره، وخشوعاً له، وتذللاً بين يديه، وانكساراً له، فيكون هذا الخشوع، والخضوع، والتذلل ردًّا له إلى حكم العبودية، فيتدارك بذلك ما حصل له من الهفوة، والغفلة، والإعراض الذي خرج به عن أصله، فتُمثَّل له حقيقة التراب الذي خلق منه، وهو يضع أشرف شيء منه، وأعلاه، وهو الوجه، وقد صار أعلاه أسفله خضوعاً بين يدي ربه الأعلى، وخشوعاً له، وتذللاً لعظمته، واستكانة لعزته مردداً: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، يقول ابن القيم - رحمه الله - : "وهذه غاية الخشوع الظاهر فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوطء بالأقدام، واستعمله فيها، ورده إليها، ووعده بالإخراج منها، فهي أمه، وأبوه، وأصله، وفصله، فضمته حيًّا على ظهرها، وميتاً في بطنها، وجعلت له طهوراً، ومسجدًا، فأمر بالسجود إذ هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء، فيعفر وجهه في التراب؛ استكانة، وتواضعاً، وخضوعاً، وإلقاء باليدين، ويقول مسروق لسعيد بن جبير: "ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب لله"[5].

وكان النبي ﷺ لا يتقي الأرض بشيء قصداً بل إذا اتفق له ذلك فعله، ولذلك سجد في الماء، والطين كما جاء في الصحيحين[6]"[7].

لم يكن يتكلف شيئاً دون جبهته، ووجهه إذا صلى على التراب، فلم يكن يضع رداءه ﷺ دون وجهه، وإذا صلى على الحصير لم يتكلف وضع وجهه على الأرض مباشرة من دون حصير.

6 - أما الأمر السادس، والأخير من آثار الخشوع: فهو ما يحصل به من تفاضل الأعمال، وتفاوتها، فكم من الفرق بين اثنين كل منهما قائم في الصف يصلي، هذا خاشع، وهذا لم يخشع!.

فلا شك أن هذه الصلاة التي حصل بها هذا الخشوع أنها في غاية الكمال، ويؤجر عليها غاية الأجر، فالله - سبحانه، وتعالى - أحدٌ، عدل، يعدل بين عباده في الثواب، والجزاء، هذه سورة "قل هو الله أحد" أخبر النبي ﷺ أنها تعدل ثلث القرآن[8] وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "إن هذه السورة مع ما فيها من الثواب، والأجر، والمنزلة إلا أن العبد قد يقرأ آية سواها، ويخشع فيها، فيكون ذلك أعظم من قراءته هذه السورة، بل يقول: "إن العبد قد يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، مع حضور القلب، واتصافه بمعانيها فيكون ذلك أفضل في حقه من قراءة سورة "قل هو الله أحد" مع الجهل، والغفلة، والناس متفاضلون في فهم هذه السورة، وما اشتملت عليه، كما أنهم متفاضلون في فهم سائر القرآن"[9].

  1.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 517).
  2.  أخرجه وكيع بن الجراح في الزهد، (ص: 467)، برقم (216).
  3.  انظر: الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا (ص: 49).
  4.  انظر: الفوائد لابن القيم (ص:143-144).
  5.  سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 66).
  6.  أخرجه البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، برقم (2016)، ومسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان، برقم (1167).
  7.  انظر: الصلاة وأحكام تاركها (ص: 148).
  8.  أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد، برقم (5013)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد، برقم (811).
  9.  مجموع الفتاوى (17/ 140).
الأمور التي تنافي الخشوع

أولها: كثرة الحركة، سواء في الصلاة، أو خارج الصلاة، كما قلت لكم في الذي يمشي، ويخطر بيديه في مشيته، فهو كثير الحركة، فهذا أبعد ما يكون عن الخشوع، والوقار، وقلة الحركة تنبئ عن سكينة، وتؤدة، ووقار، وخشوع، وكذلك في الصلاة، والله يقول: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] والمراد به أن يكون العبد ساكناً مع طول القيام فيها، لا يلتفت، ولا يرفع بصره، ولا يتحرك، ولا يشتغل بشيء من جوارحه، أو ببصره عما هو بصدده؛ لأن الخشوع يتضمن السكينة، والتواضع جميعاً؛ ولهذا نقل عن عمر أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"[1] يعني: لسكنت، وخضعت، والله يقول: وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [فصلت:39] فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز - والاهتزاز حركة - وتربو - والربو الارتفاع - فعلم أن الخشوع فيه سكون، وانخفاض، ولهذا كان الرسول ﷺ يقول في حال ركوعه: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي[2] رواه مسلم في صحيحه، فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع؛ لأن الراكع ساكن متواضع[3].

الأمر الثاني: هو رفع البصر، وهو منهي عنه في الصلاة لكونه مما ينافي الخشوع، والله قد ذكر خشوع أهل الموقف فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ۝ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ [القمر:7] وقال: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ۝ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ [المعارج:44] وقال: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [سورة الشورى:45] أي: أنهم لا يحركون أبصارهم يمنة، ويسرة، وينظرون إلى أعلى، ولا يحركون جوارحهم، وإنما ينظرون من طرف خفي، يسارقون فيه النظر مسارقة، هذا ذكره بمعناه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "تعارض العقل، والنقل" وذكر نحو ذلك أيضاً في الفتاوى[4].

  1.  أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في أحاديث الرسول مرفوعاً (3/ 210)، وقال العراقي: "أخرجه التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي النَّوَادِر من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِسَنَد ضَعِيف أَنه من قَول سعيد بن الْمسيب رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَفِيه رجل لم يسم." انظر: تخريج أحاديث الإحياء (المغني عن حمل الأسفار) (ص: 178).
  2.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  3.  انظر: مجموع الفتاوى (22/ 555).
  4.  انظر: مجموع الفتاوى (6/ 578)، ودرء تعارض العقل والنقل (7/ 24).
السلف، والخشوع

هذا إمامنا، وقائدنا، وقدوتنا ﷺ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، وصفه عبد الله بن الشخير كما أخرج أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح قال: "رأيت رسول الله ﷺ يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء

إمامنا، وقائدنا، وقدوتنا ﷺ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، وصفه عبد الله بن الشخير كما أخرج أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح قال: "رأيت رسول الله ﷺ يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء"[1].

ويقول ابن مسعود: قال لي النبي ﷺ : اقرأ عليّ القرآن قلت: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري قال: فقرأت النساء حتى إذا بلغت: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: أمسك فرأيت عينيه تذرفان"[2] رواه البخاري، ومسلم.

وقد قال ابن مسعود : "ما كان بين إسلامنا، وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] إلا أربع سنين"[3] فأنت كم يمضي عليك، وأنت تسمع القرآن، وتشهد مع الناس الصلاة، وقلبك لا يتحرك؟!.

وكان ابن عمر إذا تلا هذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] قال: "بلى يا رب، بلى يا رب[4]" ويبكي حتى تبل الدموع لحيته.

وقد قال القرطبي - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: "..كما كانت هذه الآية سبباً لتوبة الفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وقد سئل عبد الله بن مبارك عن بدء زهده، وتوبته فقال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا، وشربنا حتى الليل، ونمنا، وكنت مولعاً بضرب العود، والطبول، فقمت في بعض الليل، فضربت بصوت عالٍ يقال له: راشين السَّحَر، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود في يدي لا يجيبني إلى ما أريد، فإذا به ينطق كما ينطق الإنسان يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] فقلت: "بلى، والله، فكسرت العود، وصرفت ما كان عندي من الناس، والأصحاب، فكان هذا أول زهدي، وتشميري"[5].    

وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق امرأة فواعدته ليلاً، فجاء يرتقي الجدران، وبينما هو يتسور ليصل إليها سمع قارئًا يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] فرجع، وهو يقول: "بلى والله قد آن" فآواه الليل إلى خَرِبة، وبها جماعة من السابلة من المسافرين، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق - وهم لم يشعروا بمكانه - فقال: "أوّاه، أراني بالليل أسعى في معاصي الله، وقوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام"[6] وفي بعض الروايات أنه قال لهؤلاء القوم: أنا الفضيل، جُوزوا - يعني: امضوا في طريقكم، وسفركم - والله لأجتهدن ألا أعصي الله أبداً، فرجع عن ذلك.

وأما ابن المبارك الذي عرفتم توبته، فكان يوصف خشوعه بأوصاف عجيبة، كان إذا قرأ في كتابه الزهد، والرقائق كأنه بقرة منحورة من كثرة البكاء، وكذا كان الفضيل في خشوعه.

جاء ناس إلى الفضيل بن عياض، واستأذنوا عليه عند بابه، فلم يؤذن لهم، فقال قائل: إنه لا يخرج إليكم إلا إذا سمع القرآن، فكان معهم رجل مؤذن حسن الصوت، فقال له اقرأ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] فقرأ، ورفع بها صوته، فأشرف عليهم الفضيل، وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع، ومعه خرقة ينشف بها الدموع من عينيه، ويقول:

بلغت الثمانين أو جُزتُها فماذا أُؤمل أو أنتـظر
أتاني ثمانون من مولدي وبعد الثمانينَ ما يُنتظر
علتني السنون فأبلينني  

ثم انقطع، وخنقته العبرة، فأكمل لهم رجل البيت: 

علتني السنون فأبلينني فَرقّت عظامي وكلّ البصر[7]

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] يقول الحسن البصري - رحمه الله - : "إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وخشعت لله قلوبهم، وأبدانهم، وأبصارهم، وكنتُ، والله إذا رأيتُهم رأيتُ قوماً كأنهم رأى عين - يعني: للجنة، والنار - فوالله ما كانوا بأهل جدل، ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله في القرآن بأحسن نعت فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63] قال: حلماء لا يجهلون، وإذا جُهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64] تجري دموعهم على خدودهم؛ خوفاً، وفرقاً من ربهم، فقال: "لأمرٍ ما سهروا ليلهم، لأمرٍ ما خشعوا نهارهم، ثم قرأ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] قال: كل شيء يصيب ابن آدم، ثم يزول عنه فليس بغرام، إنما الغرام الملازم له ما دامت السموات، والأرض، قال: صدق القومُ، واللهِ الذي لا إله إلا هو، فعملوا، وأنتم تَمنّون، فإياكم، وهذه الأماني؛ فإن الله لم يعطِ عبداً بأمنيته خيراً قط في الدنيا، والآخرة، وكان يقول: "يالها موعظة لو وافقت من القلوبِ حياةً"[8].

فتيـةٌ يُعرف التخشع فيهم كلهم أحكَمَ القرآنَ غلاما
قد بـرى جلدَهم التهجدُ حتــى عـاد جلداً مصفـرًّا وعظاما
تتجافى عن الفراش من الخوف إذا الجاهـلون بــاتوا نيــاما
بأنين، وعبرة، ونحيـــــب ويظلـون بالنهار صيامــا
يقرءون القرآن لا ريب فيه ويبيتون سجداً وقياما[9]

قرأ ابن عمر بـ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1] فلما بلغ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] بكى حتى خر، وامتنع عن قراءة ما بعده[10].

وبات رجل عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام الربيع يصلي، فمر بهذه الآية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [سورة الجاثية:21] فمكث ليلته حتى أصبح يبكي بكاء شديداً لا يجاوز هذه الآية[11].

ولهم دموعٌ من خشوع نفوسهم ودموعُها فوق الخدود غزارُ[12]

يقول مسروق: "قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري صلى ليلة حتى أصبح، أو كاد يقرأ آية، يرددها، ويبكي: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الجاثية:21][13].

بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لا يسأمونا
بقاعُ الأرض من شوقٍ إليهم تحنُّ متى عليهـا يسجدونا[14]

وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1] اضطرب حتى تضطرب أوصاله[15].

واشتكى ثابت البناني عينه، فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرأ عينك، قال: ما هي؟ قال: لا تبكِ، قال: "وما خير في عين لا تبكي؟"[16].

زف البكاءُ دموع عينِك فاستعــرن عينــاً لغيرك دمعها مــدرارُ
من ذا يعيرك عينَه تبكي بها أرأيتَ عيناً للدموع تُـعارُ[17]

وكان عبد الله بن الزبير يسجد، فيأتي المنجنيق، فيصيب ثوبه، ولربما أصاب طرف ثوبه، وهو لا يتحرك في صلاته، ولا يرفع رأسه، ولا يلتفت، ودخل عليه رجل بيته فإذا به يصلي، فسقطت حية على ابنه هاشم، فصاحوا: الحية، الحية، ثم قتلوها، وما قطع صلاته، ولما سئل بعد الصلاة قال: "ما شعرت بشيء من ذلك"[18].  

ويقول ثابت البناني: "كنت أمر بابن الزبير، وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك[19] ووصفه بعضهم إذا صلى كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فلربما نزل الطير على ظهره تحسبه الطيور جذع حائط، وصلى يوماً في الحِجر، فجاء حجر من المنجنيق، فضرب ثوبه فما انفتل، وما تحرك، وما التفت، وذلك في حصار الحجاج للكعبة[20].

وكان مسلمة بن بشار في المسجد فانهدمت طائفة من المسجد، فقام الناس، ولم يشعر أن أسطوانة المسجد قد انهدمت"[21].

وهذا يعقوب الحضرمي لم يُر في زمانه مثله، بلغ من زهده أنه سُرق رداؤه عن كتفه، وهو في الصلاة، ورُد إليه، ولم يشعر[22].

مُحيي الليالي صلاةً لا يُقطِّعها إلا بدمعٍ من الإشفاق مُنسجمِ
مسبحاً لك جنح الليل محتملاً ضُرًّا من السهد، أو ضرًّا من الورمِ
رضيةٌ نفسُه لا تشتكي سأما وما على الحب إن أخلصتَ من سأمِ

وهذا محمد بن إسماعيل البخاري ذُكر في قصته، وترجمته أنه خرج مع قوم إلى حائط - مزرعة - فقام يصلي بالناس الظهر، فلما فرغ قام يتطوع، فلما فرغ من تطوعه رفع ثوبه، وقال لبعض من معه: انظروا هل ترون تحت قميصي شيئاً؟ فإذا زنبور قد أبره في ستة عشر - أو سبعة عشر - موضعاً، وتورم ذلك من جسده، فقال له بعض القوم: كيف لم تخرج من الصلاة في أول ذلك؟

قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها[23].

وهذا محمد بن يعقوب الأخرم يقول: "ما رأينا أحسن صلاة من صلاة محمد بن نصر - يعني المروزي - كان الذباب يقع على بدنه - يعني الزنبور - ولا يذبه عن نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته، وخشوعه، وهيبته للصلاة، كان يضع ذقنه على صدره، فينتصب كأنه خشبة مسنودة"[24].

ووصفه آخر يقول: "رأيت محمد بن نصر ما رأيت أحسن صلاة منه، ولقد بلغني أن زنبوراً قعد على جبهته، فسال الدم على وجهه، ولم يتحرك"[25].

وكان كُرز بن وَبرة إذا دخل في الصلاة لا يرفع طرفه يمنة، ولا يسرة، وكان من المخبتين، وربما كُلم خارج الصلاة فلا يجيب إلا بعد مدة من شدة استغراقه في التفكير، يقول الذهبي - رحمه الله - معلقاً على ذلك: "هكذا كان زهاد السلف، وعبادهم، أصحاب خوف، وخشوع، وتعبد"[26].

ووقع حريق في بيت على بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله، النار، النار، فما رفع رأسه حتى أُطفئت، فقيل له في ذلك فقال: "ألهتني عنها النار الأخرى"[27].

وكان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته: "تحدثوا فلست أسمع حديثكم"[28].

هذه نماذج من حال السلف، وحينما أذكر أشياء من ذلك إنما أذكر ما قرب منه، وأما الأمور التي قد تنبو عنها الأسماع، ولا تدركها كثير من العقول فإني أتجاوز ذلك أجمع، ومع ذلك كثير منا يظن أن هذه الأمثلة، والنماذج سواء في الخشوع، أو في الإخلاص، أو في التوكل، أو في التفكر، أو ما سيأتي في الورع، وما سبق في اليقين، وغير ذلك أن هذه من الأمور التي لا يمكن الوصول إليها، وأنها بعيدة المنال!، وليس الأمر كذلك، بل هي أمور تحصل للعبد بالمجاهدة، ولهذا يقول ثابت البناني: "كابدت الصلاة عشرين سنة، وتلذذت بها عشرين سنة"[29] هذا آخر الكلام عن الخشوع.

وأسأل الله أن يغفر لي، ولكم، وأن يتقبل مني، ومنكم، وأن يجعل هذه المجالس معينة على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يلهمنا، وإياكم رشدنا، وأن يبلغنا منازل أهل المراتب العالية من المؤمنين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.

  1.  أخرجه أبو داود واللفظ له، باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب البكاء في الصلاة، برقم (904)، والنسائي، كتاب السهو، باب البكاء في الصلاة، برقم (1214)، وأحمد في المسند، برقم (16312)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم" وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (839).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب البكاء عند قراءة القرآن برقم (5055)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم (800).
  3.  أخرجه مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِالحديد:16، برقم (3027).
  4.  انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (8/ 59).
  5.  تفسير القرطبي (17/ 251).
  6.  الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تفسير الثعلبي) (9/ 242).
  7. في سير أعلام النبلاء (8/ 442):
  8.  تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 18).
  9.  التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص: 39).
  10.  أخرجه وكيع بن الجراح في الزهد (ص: 252)، برقم (27).
  11.  تفسير القرطبي (16/ 166).
  12.  العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (ص: 434).
  13.  صفة الصفوة (1/ 290).
  14. الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا (ص: 112).
  15.  إحياء علوم الدين (1/ 168).
  16.  الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا (ص: 155)، برقم (211).
  17.  ذم الهوى، لابن الجوزي (ص: 421)، وزهر الآداب وثمر الألباب (4/ 1014)، وتاريخ بغداد (14/ 8).
  18.  سير أعلام النبلاء (4/ 401).
  19.  المصدر السابق (4/ 400).
  20.  الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 164)، والتبصرة لابن الجوزي (1/ 385).
  21.  مجموع الفتاوى (22/ 605).
  22.  سير أعلام النبلاء (10/ 173)، وبغية الوعاة (2/ 348).
  23.  انظر: تاريخ بغداد (2/ 331)، وسير أعلام النبلاء (12/ 442).
  24.  صفة الصفوة (2/ 331)، وسير أعلام النبلاء (14/ 36).
  25.  سير أعلام النبلاء (14/ 36).
  26.  المصدر السابق (6/ 86).
  27.  صفة الصفوة (1/ 354)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 377)، وتهذيب الكمال (20/ 390).
  28. انظر: تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 538)، وصفة الصفوة (2/ 141)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (58/ 134)، وسير أعلام النبلاء (4/ 512).
  29.  انظر: صفة الصفوة (2/ 154)، وسير أعلام النبلاء (5/ 224).

مواد ذات صلة