الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
المبالغون
تاريخ النشر: ٠٩ / صفر / ١٤٢٢
التحميل: 26491
مرات الإستماع: 14606

المبالغات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فحديثنا معكم في هذه الليلة - إن شاء الله - عن موضوع نحتاج إليه حينما نقرأ، ونحتاج إليه حينما نسمع، ونحتاج إليه حينما نتكلم، وهذا الموضوع عن مشكلة نفسية، واجتماعية هي مشكلة مزمنة توجد في الكتب، وفي كلام المتكلمين، وتوجد في نفوس الكثيرين من المسلمين، ومن غير المسلمين، وهذه المشكلة هي (المبالغات) فيما نصف به الأشياء، وفيما ننقل من الأخبار، وفي المدح، والذم، وفي الإخبار المجرد.
هذه مشكلة مدمرة، وأثارها سيئة فقد يدخل الإنسان في أبواب الخرافة بسبب تهيئه لقبول مثل هذه المبالغات حينما يفتح سمعه، وقلبه على مصراعيه لتلقي ذلك دون رقيب، ولا حسيب، ودون النظر في صحة ما يسمع، وما يتلقى، فكم من انتصارات، وكم من هزائم وقعت بسبب المبالغات، فحينما تضخم قوة العدو، وتجعل حوله هالة عظيمة، ويصور على أنه قوة لا يمكن أن تقهر؛ عند ذلك تنهزم النفوس، وتنكسر دون طلب هزيمته، وقهره، ودحره، وكم من عدو بقي شامخاً، رافعاً أنفه، يتطاول على الآخرين، ويفعل ما يشاء دون حسيب، ولا رقيب، وذلك أنه جعل حول نفسه هالة إعلامية ضخمة صور من نفسه أنه القوة التي لا يمكن أن تدحر، وأنه القوة التي لا يمكن أن تقهر، وكم من أناس قد انهزموا؛ لأنهم قد بعثوا رسولاً لا يصلح أن يأتي بالأخبار، فبالغ في تصوير العدو، وفي تضخيم صورته، أو رضوا من الغنيمة بالإياب، وكم من عدو صور بصورة ضخمة، وجعل حوله هالة عظيمة كأنه قوة لا يمكن قهرها فرضي الناس بكل حل يمكن أن يدمر هذه القوة، وصارت نفوسهم مهيأة لجميع الأطروحات، وألغوا أفكارهم، وعقولهم، وصار همهم الوحيد هو قهر، ودحر هذا العدو الذي صور لهم بصورة هي أضعاف أضعاف ما يتمتع به في أرض الواقع من القوة الحقيقة.
فأقول: هذا الأمر يورث عللاً مستديمة، وعميقة الآثار في العقائد، والأفكار، ويورث عللاً مستديمة في واقع الناس، وفي حياتهم، في حربهم، وفي سلمهم، في أبواب العلوم، وفي أبواب الاعتقادات، وفي غيرها من الأبواب؛ فلا بد من وضع حد، وضابط لعله يحرك شيئاً في النفوس، فيكون عند الإنسان شيء من البصر الذي يميز به بين الأمور، ويزن به الأشياء، ولا يجعل سمعه، وقلبه متقبلاً، ومفتوحاً لكل ما يطرح من الحق، والباطل، سواء كان ذلك مبالغاً فيه، أو غير ذلك.
فلعلي أخرج معكم في هذه الليلة إلى هذه النتيجة فإن استطعنا أن نوصل هذه الفكرة إلى الأذهان، واستوعبتها القلوب أظن أننا قد حققنا نجاحاً، وأحرزنا هدفاً مهماً يمكن أن يكون سبباً - بإذن الله لتحقيق نجاح في العلوم، والتلقي، والأخذ، والسماع، وما أشبه ذلك بحيث يكون عند الإنسان ضابط، وميزان يزن به الأمور.

لماذا المبالغات؟

لماذا يبالغ كثير من الناس فيما يذكرون؟ وفيما يصفون؟ لماذا تجري على ألسنتهم هذه المبالغات؟ ولربما رقموها، وكتبوها؟
أقول: هذا له أسباب كثيرة أذكر منها:
أن محبة الأشياء، ومحبة الأشخاص تعمي الإنسان، فتجعل هذا الإنسان يبالغ في الوصف، وكذلك الكراهية الشديدة تجعل الإنسان يبالغ أحياناً في الذم، والتحقير، فلا يصور الأمر على حقيقته الطبيعية، وهو يكون بذلك قد فعل جرماً، حيث إنه نقل صورة مشوهة غير حقيقة إلى الآخرين فسبب ذلك إرباكاً في تصوراتهم.

فأقول: محبه الأشخاص، محبة الأشياء، محبة الإنسان لطائفته، ومذهبه، ومتبوعه، وشيخه تجعل هذا الإنسان يبالغ أحياناً، يبالغ في مدحه، وفي الثناء عليه.
خذ مثالاً على ذلك: هذا يونس بن عبد الأعلى - رحمه الله - يقول: في وصف الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: "لو جمعت أمة لوسعهم عقل الشافعي" هذا الكلام، وهذا الخبر يمر علينا كثيراً في ترجمة الإمام الشافعي - رحمه الله - ولربما لم يتوقف عنده أحد منا؛ مع أن هذا الخبر ينبغي ألا يمرر.
معلوم أن الإنسان لو أخذ من عقله شيء يسير لصار في عالم غير العقلاء أليس كذلك؟! لو وزع عقل إنسان واحد على أمة كاملة لوسعها؟ هذا لا شك أنه مبالغة لا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال، عقل الإنسان لا يكفي لو وزع على اثنين، أو ثلاثة، أو على أربعة، فكيف لو وزع على أمة كاملة؟ لكن الذي قال ذلك رجل يحب الشافعي - رحمه الله -.
وهاك مثالاً آخر: رجل يحب مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - وهو حماد بن أبي سليمان، ذهب إلى الحج، ثم بعد ذلك رجع إلى الكوفة، فلما دخل عليه طلاب العلم، وجلسوا عنده، قال: أبشروا يا أهل الكوفة، فقد أتيت الحجاز، ورأيت عطاء، وطاووس، ومجاهد - هؤلاء أئمة التابعين في الحجاز - قال: رأيت هؤلاء، والله أن صبيانكم، وصبيان صبيانكم أفقه منهم" فهذه لا شك أنها مبالغة مفضوحة، مكشوفة، لا يمكن أن تروج الإ على البسطاء من الناس.
وهذا رجل يحب الإمام أحمد - رحمه الله - وكلنا نحب هؤلاء الأئمة لكننا نرفض المبالغة، هذا رجل يحب الإمام أحمد، يبالغ في محبته، فيقول: "نظرة عندنا إلى وجه الإمام أحمد تعدل عبادة سنة" كيف تكون نظرة إلى وجه إنسان من الصالحين تعدل عبادة سنة؟ سجدة لله واحدة أفضل من نظرة إلى وجه رجل من الصالحين، فكيف بعبادة سنة؟ فكيف بصيامها، وقيامها، وصدقتها، وما إلى ذلك من العبادات؟!
هذه أشياء نجدها في كتب الأخبار، ثم تمر علينا دون أن نمحص فيها، ولربما نقلناها إلى الآخرين.

أسباب المبالغة

ما يشاع حول بعض الكبراء، والعظماء، والأحداث الكبار، والمشاريع الضخمة الغابرة، أو المعاصرة؛ فيبالغ الناس في وصف هذه الأمور مع اختلاف مقاصد هؤلاء المخبرين المبالغين، فمنهم من يقصد الكذب، والدجل، لأمر يريد الوصول إليه، فهو يبالغ ليصنع شخصية أسطورية تجاه هذا الشخص الذي بالغ في وصفه، ولربما بالغ لسبب آخر، وهو مرتبط بالسبب الذي قبله، وهو أنه رأى من هذا الشخص شيئاً استعظمه، فبالغ في مدحه، وذكره، والثناء عليه، وكثير من الناس لا يستطيعون أن يزنوا أنفسهم بالميزان الصحيح، فهو إما أن يبالغ في المدح، وإما أن يبالغ في الذم.
واسمع كلام الناس في شيوخهم، ولا أضر على طالب العلم من تلامذته إن لم يتبصر في حاله، وفي ضعفه، وفي عجزه، وفي مسكنته، وفي جهله، فإن من عرف الله   وعرف نفسه، فإنه لا يضره قول القائلين، لا يعبأ بهم، ولا بكلامهم (رحم الله امرئ عرف قدر نفسه).
أما طالب العلم الذي يقبل ما يقال فيه، فهذا يجتمع حوله جماهير من البسطاء، يعظمونه، ويضخمون أمره، وينسجون حوله الأساطير، والأكاذيب، ويبالغون في القول بمدحه، كم سمعنا في المجالس من إعطاء أشخاص أوصافاً ليست حقيقة، حضرت مجلساً فإذا شخص من البسطاء يذكر أحد طلبه العلم في مجلس عامر بالشيوخ، والمتحدث هو أصغرهم، يذكر طالب العلم، ويثني عليه من غير أن يسميه، وذكر عنه أشياء كثيرة جداً، ومما ذكر - فيما أحفظه في هذه الساعة - أنه قال: يحفظ الكتب الستة بالأسانيد مع ترجمة رجال كل إسناد، وكنت قد عرفت من يقصد، ولما قال هذه الجملة اختلطت الأوراق، والتصورات في ذهني فذهبت اضرب يميناً، وشمالاً أضرب أخماس في أسداس من يقصد هذا الإنسان؟ لا يمكن أن يقصد الشخص الذي ظننت أنه يتحدث عنه، ثم بعد ذلك سألته من تعني؟ قال فلان، قلت: فلان الفلاني الذي كان بالمكان الفلاني، ودرس في المكان الفلاني؟ قال: نعم، فازددت عجباً، لا أعرف أنه يحفظ هذه الأشياء.
ثم بعد ذلك حصل مجلس آخر مع هذا الشخص عند بعض طلبة العلم، وكنت قد حكيت له ما سمعت، فأخرج صحيح الإمام مسلم، وقال: أريد أن أنظر هل أنت تراجع المحفوظات أم لا؟ أريد أن تعرض عليَّ بعض الأبواب من حفظك، فقال: أنا لا أحفظ شيء من الكتب الستة، أنا قرأت مختصر صحيح الإمام مسلم للمنذري، قرأ مختصر، ما قرأ صحيح مسلم، ولا درسه، قرأ مختصر صحيح الإمام مسلم للمنذري فقط، فأين حفظ رجال الكتب الستة؟ وأين حفظ ترجمة كل رجل من رجال الإسناد؟ وأين حفظ الكتب الستة بمتونها؟ أين هي؟ فهذا المسكين الذي يبالغ في هذا المدح يظن أنه يحسن إلى هذا الممدوح، ما علم أن هذا المدح الذي في غير محله أنه يسيء إليه بذلك غاية الإساءة، ولذلك ينبغي على الإنسان أن يحذر، ولا يسمح لأحد كائناً من كان أن يطريه، أو أن يذكره بشيء ليس فيه، والعجيب أن بعض الناس يتعمدون هذه الأساليب، وقد رأيت من هؤلاء أعاجيب.
كان أحد هؤلاء قد اجتمع حوله طائفة من السذج يعظمونه، ويذكرون من حفظه التهاويل، فحدثني رجل من خاصته في أيام الطلب، حدثني عن وصية أوصاه بها هذا الشخص منذ أن كان طالباً في السنة الأولى في الكلية؛ فالأستاذ حينما يأتي، ويذكر لهم مثلاً حينما يدرسهم هذا الأستاذ متن الشاطبية في القراءات السبع، ماذا يصنع هذا الطالب؟ هم في أول الشاطبية، يقول: أين البيت الذي يدل على كذا، وكذا في أول الدرس، يقول هذا الطالب أنا أخبرك عنه، ثم يذكر بيتاً من آخر الشاطبية قد حفظه، ثم يقول: لا، ويضرب على رأسه، ثم يأتي بالبيت المطلوب من أولها، فماذا يتوهم الحضور؟ يتوهم الحضور، والشيخ أنه فريد عصره، ووحيد دهره، وأنه الذي لا يحتاج إلى الشيوخ، ولا يحتاج إلى التعليم، قد حفظ، وقد عرف شرحها، فكان يوصي صاحبه أن يفعل هذا الفعل، ويخبر هذا الشخص عن نفسه من باب الوصية لهذا الإنسان ليفعل فعله في الدجل، يقول: نجتمع مع بعض طلبة العلم، ثم اقترح قصيدة نتسابق في حفظها يقول: وكنت قد حفظتها قبل ذلك بقدر خمسين بيتاً، أو نحو ذلك، يقول: ثم اجلس دقيقتين، أو ثلاث دقائق أقرأها قراءة سريعة، ثم أقول: حفظتها، ثم بعد ذلك يحلفون الأيمان المغلظة تحدياً لهذا الشخص أنه لا يمكن أن يكون قد حفظها، يقول: ثم أكررها، وهو قد حفظها قبل ذلك.
فأقول: من الناس من يفعل ذلك، وهذا يجد لا شك جماعة من البسطاء، والسذج فينقلون عنه، ولذلك أقول في مثل هذه الأجواء لا ينبغي لطالب العلم، وإن حفظ بعض الأسانيد أن يذكر لهم خبراً بالإسناد؛ لأن النتيجة ستكون أنه سيوصَف بحفظ الكتب الستة مع رجال كل إسناد؛ لأنه مرة واحدة سئل عن حديث، فذكره بالإسناد، فصار يحفظ، أو استشهد ببيت من ألفية العراقي، أو من الشاطبية، أو من غيرها فصار عند هؤلاء يحفظ جميع هذه.
فأقول: هذا الذي يشاع أحياناً حول هؤلاء الأشخاص، أو المشاريع الكبيرة، أو الأمور الحوادث الضخمة الكبيرة ما يشاع حولها أقول: ينبغي أن نتحرى في سماعه، هذا الأمير الأفضل الأرمني المتوفى سنة خمسة عشر، وخمسمائة، ذكر في ترجمته أنه خلف ستمائة ألف دينار، وخمسين، ومائتين أردباً من الدراهم، وخمسين ألف ثوب ديباج، وعشرين ألف ثوب حرير، وثلاثين ألف راحلة، وعشرة مجالس في المجلس مضروب عشرة مسامير من الذهب على كل مسمار منديل مشدود، فيه لفة من الثياب، وخلف أيضاً خمس مائة صندوق فيها كسوة، ومتاع، يفوق الوصف، ولا شك أن المبالغة ظاهرة، وواضحة فيه.
أتذكرُ أني سافرت إلى بعض البلاد الإسلامية، فسألت عن بعض طلبة العلم، وعن الشيوخ، وعن دروسهم، وعن جهودهم في ذلك؟ فقال بعض المحبين لبعض هؤلاء الشيوخ: قال: ألقى فلان محاضرة بالأمس حضرها خمسة آلاف من الشباب في بلد صغيرة جداً، والدعوة فيها في بدايتها، قال: حضر خمسة آلاف في قاعة كبيرة اسمها: كذا، وكذا، وفي اليوم التالي تماماً سألتهم عن بعض الأماكن، والمرافق التي تصلح للدعوة، وتستغل للدعوة، فذكروا هذه القاعة - هم أنفسهم - فقلت: كم تحتمل هذه القاعة من الأشخاص؟ فقالوا: قريباً خمسمائة، وألفين، فقلت في نفسي: عجباً بالأمس كان يحضر فيها خمسة آلاف حينما يذكرون هذا العالم الذي يحبونه، واليوم صارت هذه القاعة تحتمل النصف فقط.
سألت عن بعض العلماء في ناحية من النواحي في الصحراء فذُكر أن عنده من طلبة العلم قريباً من الألف، فذهبت إليه، فلما حضرت حزرت الموجودين بثلاثين شاباً، لعل هؤلاء بعض من حضر، ثم نظرت في الوقت الذي يجتمعون فيه جميعاً في صلاة الظهر، فحزرتهم مع المبالغة بسبعين، فقلت في نفسي: هؤلاء لم يبلغوا المائة، فأين الألف؟!.
فأقول: هذا كله من المبالغات التي تنسج حول بعض الناس، وذلك في الواقع ليس من قبيل المدح لهم، بل هو من قبيل الضرر، وكم سمعنا عن محاضرة يحضرها عشرة آلاف، أو نحو ذلك، أو الدرس الفلاني يحضره عشرة آلاف، فحضرت مرة درساً من هذه الدروس التي قيل: إن الحضور في أقل التقديرات عشرة آلاف، فحزرتهم، ثم بالغت في تقديرهم، فإذا هم لا يتجاوزن ربع هذا العدد فلا أدري لماذا هؤلاء ينسجون هذه الأمور، ويسيئون إلى من يخبرون عنهم.
هذا ابن خياط رجل له ترجمة في سير أعلام النبلاء، ذكر عنه أنه لقن في بغداد من العميان، لقن سبعين ألف أعمى، العجيب أن البلاد أكبر بلد اليوم قد لا يوجد فيها هذا العدد من العميان، فكيف ببغداد في ذلك الحين من أين جاء بهذا الرقم؟ ولذلك الذهبي يعلق عليه يقول: لعل المخبر أراد أن يقول: سبعين نفساً فغلط، فقال: سبعين ألفاً، والذهبي - رحمه الله - يقول: فإن من لقن سبعين نفساً من العميان فهذا خير كثير، أما هذا العدد المذكور فإنه مبالغة قطعاً.
وهذا ابن الجوزي - رحمه الله - ذُكر أن درسه في الوعظ يحضره مائة ألف إنسان؛ والذهبي - رحمه الله - يقول: أين المكان الذي يسع هؤلاء؟ ثم كيف يستطيع أن يبلغهم الصوت؟ النبي ﷺ في حجة الوداع حضر هذه الحجة قريباً من عشرين، ومائة ألف، لكن الله أبلغ الناس كلام لنبيه ﷺ فهؤلاء الذين يحضرون لابن الجوزي في ذلك الوقت الذي كان فيه أقل بكثير مما هو اليوم يحضر مائة ألف، أين المكان الذي يسعهم؟ ثم أين الصوت الذي يسع لهؤلاء الناس؟.
وذُكر عن ابن الجوزي أيضاً أنه كتب ألفين مجلد، وتاب على يديه مائة ألف إنسان، وأسلم على يديه عشرون ألفاً، وكان يختم في الإسبوع ختمة، ولا يخرج من بيته إلا إلى الجمعة، أو المجلس، الذهبي يعلق تعليقاً طريفاً يقول: فأين ذهبت صلاة الجماعة؟ لا يخرج إلا إلى الجمعة، أو مجلس التعليم، فأين ذهبت صلاة الجماعة؟ فهذه الأمور لا تروج إلا على البسطاء.
في كتاب الخِطط للمقريزي، وكنت قد قرأت لكم طرفاً من أخبار الأهرام التي ذكرها، وقلت لكم: في هذه الأخبار كثير من المبالغات، فمن ذلك ما ذكر أن القبط قد دونوا في كتبهم أن على الأهرام نقش تفسيره بالعربية: (أنا سويد الملك بنيت هذه الإهرام في وقت كذا، وكذا، وأتممت بناءها في ست سنين، فمن أتى بعدي، وزعم أنه ملك مثلي فلهدمها في ستمائة سنة) فهذا الكلام غير مقبول، غير معقول، يقول: وقد علم أن الهدم أيسر من البيان، يقول: (وإني كسوتها عند فراغها من الديباج فليكسها من استطاع بالحصر) فنظروا أنه لا يقوم بهدمها شيء من الأزمان، يعني لو قعدوا آلاف السنين يهدمونها لا يستطيعون، وهذا لا شك أنه مبالغة، والخبر الأخير ما ذكر أيضاً في خبر الأهرام أنه لما فتح المأمون فيها فجوة في واحد منها يقولون: دخلها عشرون حدثاً من الأحداث - شباب صغار أولاد صغار - دخلوا أحد الأهرام، وأعدوا معهم ما يحتاجون إليه من الطعام، والشراب، والحبال، والشمع، - ما شاء الله - المسألة رحلة، يدخلون الهرم الآن فيحتاجون إلى طعام، وشراب يمكن ملابس أيضاً، فنـزلوا فرأوا فيها من الخفافيش على قدر العقبان، الخفاش على قدر العقاب الطائر الضخم الكبير، أين توجد هذه الخفافيش؟ الناس دخلوا الأهرام اليوم، ولا نظروا فيها هذه الخفافيش، فصارت تضرب وجوههم، ثم إنهم أدلوا أحدهم بالحبال، يبدو أن فيه غار في الأرض فأدلوا أحدهم بالحبال فانطبق عليه المكان، فحاولوا جذبه حتى أعياهم ذلك فسمعوا صوتاً أرعبهم فغشي عليهم، ثم قاموا، وخرجوا من الهرم فبينما هم جلوس يتعجبون مما وقع لهم إذ أخرجت الأرض صاحبهم حياً من بين ايديهم - خارج الهرم الآن - فصار يتكلم بكلام لم يفهموه بلغة أخرى، ثم سقط ميتاً فحملوه، ومضوا به، فأخذهم الشرط، وأتوا بهم إلى الوالي فحدثوه بالخبر، ثم سألوا عن الكلام الذي قال صاحبهم يبدو أنهم حفظوا ما قال، فقيل لهم: معناه: هذا جزاء من طلب ما ليس له، وكان الذي فسر لهم معناه بعض أهل الصعيد، طبعاً هذه القصة متى حصلت؟ حصلت بعد عهد المأمون، وفي عهد المأمون أهل الصعيد كانوا بأي لغة يتكلمون؟ كانوا يتكلمون باللغة العربية، فكيف فهموا هذا الكلام، وترجموه بهذه الترجمة؟! فلا شك أن هذا من الأساطير. 

البساطة من أسباب المبالغة

البساطة أحياناً، وإن شئت أن تقول: السذاجة، فإن الإنسان إذا كان بسيطاً في تفكيره، وادراكه، إذا كان ساذجاً في تصوره فإنه تتضخم الأمور الصغيرة، أو الأمور العادية في نظره؛ وبالتالي فإنه يبالغ في وصفها، وإطرائها، وذكرها، وتبجيلها، كما قال القائل:

وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائمُ

فهذا الإنسان البسيط، هذا الإنسان الصغير إذا رأى إنساناً يحفظ حديثاً عن رسول الله ﷺ لربما أوقع ذلك في نفسه، وهماً أن هذا الإنسان قد أتى بما لم يأتِ به الأوائل، وهكذا إذا رأى شيئاً أعجبه فإن هذا الإنسان نظراً لقصور فهمه، وقلة تجربته، وضعف إدراكه يكبر هذه الأمور الصغيره، فتنتفش في ذهنه، ثم يعبر عنها بالتهاويل، ولربما خلط مع كلامه لوناً من ألوان التعبيرات المصاحبة للكلام أي أنه يبدي ذلك بنظرة تنبيء أيضاً عن التعظيم، والتضخيم.........
فأقول: هذه مشكلة، وإذا واجهت هذه المشكلة قوماً من البسطاء، أو أنها وقعت في بيئة ساذجة، فإن هذه تجد أرضاً خصبة تترعرع فيه، وتنمو، ولا تسأل عن حال هذه النبتة في تلك الأرض التي زرعت فيها، أو بذرت فيها، ولكن هذا المتكلم لو تكلم أمام عقلاء، ورجال يزنون الكلام بميزانه الصحيح، ويدققون في ألفاظ المتكلمين فإنه لا يستطيع بحال من الأحوال أن يروج ذلك عليهم، بل إنه سيُعترض في كلامه لأول،وهلة، ثم بعد ذلك لا يستطيع أن يواصل بنفس الطريقة فما عليه إلا أن يبحث عن طريقة أخرى يتحفظ فيها في الكلام، ويتحفظ فيها في الوصف فلا يذكر شيء من هذه المبالغات.
وغالباً - بل، ودائماً - ما يكون هؤلاء الذين يقعون في مثل هذه المشكلات إما تلقياً، وإما إلقاءً دائماً يكون هؤلاء يعانون من مشلكة مصاحبة، وهي قلة التثبت، فلو كان هذا الإنسان يتثبت مما يسمع، ومما يقرأ يثبت فيما يخبر به، وينقله لكان له شأن آخر. 

ضوابط تضبط الذهن

بعد ذلك أذكر لكم بعض الأمور التي علها أن تكون بمثابة الضوابط التي تضبط الذهن، فحينما يسمع الإنسان الكلام، يعرض ما يسمع عبر هذه المصفاة، فالبتالي لا يروج عليه - بإذن الله  - كثير من ذلك فيما يقرأه، ويسمعه، أو يتلقاه بوجه من وجوه التلقي، فمن ذلك:
أننا لا بد أن نقيس الأمور الغائبة على الأمور الشاهدة، والواقعة، والحاضرة التي نعايشها، ونراها، وهذا فيما عدا المعجزات، وما يدخل ضمنها من كرامات الأولياء، وفيما عدا ذلك من الأمور فينبغي أن نقيس الغائب على الشاهد، فلا بد أن ثمة أمراً مشتركاً، وجامعاً يجمع بين الأمور الغائبة، والأمور الشاهدة، فنعرف بذلك أن بعض الكلام هو من قبيل المبالغات.
خذ مثالاً على ذلك: المسعودي ذكر أن الذين أحصاهم موسى ﷺ في التيه حينما تاهوا في سيناء من الرجال الذين يقدرون على حمل السلاح كانوا ستمائة ألف رجل، ومعلوم حسب ما يذكر في كتب التواريخ أن الذين دخلوا مع يعقوب ﷺ إلى مصر في زمان يوسف ﷺ كانوا قريباً من السبعين حسبما يذكره المؤرخون، وهذا العدد الذي دخل في مصر كان من نسلهم بنو إسرائيل، فالمدة التي كانت بين دخول الإسرائيليين إلى أرض مصر، هذه المدة ما بين دخلوهم، وما بين خروج موسى ﷺ كانت قريباً من عشرين، ومائتين سنة، فهذه المدة عادة لا يحصل فيها التكاثر إلى هذا الحد، بحيث يكون عدد الذين يقدرون على حمل السلاح فقط ستمائة ألف رجل، لمدة مائتين، وعشرين سنة، فهذا في مجال العادات لا يقع، ولا يكون هذا رقم مبالغ فيه - والله تعالى أعلم -.
ومن ذلك أيضاً ما يذكر في خبر موسى ﷺ حينما جاء إلى أرض مدين - وهذا يذكر في كتب التفسير، وفي كتب التاريخ - أنه لما جاء إلى أرض مدين، ووجد أولئك الأمة يسقون من ذلك البئر، ووجد المرأتين يقولون: كان على البئر حجر ضخم جداً بعضهم يقول: كان يحمله أربعون رجلاً، وبعضهم يقول غير ذلك، فجاء موسى - عليه الصلاة السلام - بمفرده فحمل هذه الصخرة الذي يغطى به البئر، ويقولون: إن الدلو الذي كان يستخرج من هذا البئر كان لا يستطيع نزعه من هذا البئر إلا قرابة اثنا عشر رجلاً، فجاء موسى - عليه الصلاة، والسلام - بمفرده فانتزعه، وسقى، هذا قبل نبوة موسى بما يقرب من عشر سنين؛ لأن موسى ﷺ إنما نبيء بعدما خرج من مدين نبئ في الطريق حينما بلغ الطور.
فالحاصل ما بين مجيء موسى ﷺ إلى أرض مدين، وما بين خروجه كان قرابة عشر سنوات، يعنى كان هذا الحادث قبل نبوة موسى ﷺ بعشر سنوات تقريباً، فهل يعقل أن رجلاً مهما كانت قوته يستطيع أن يحمل صخراً يحمله في العادة أربعون رجلاً، هذا لا يقع في مجال العادات يمكن للإنسان أن يحمل حملاً يحمله ثلاثة من الرجال، أو يحمله رجلان، أو نحو ذلك، لكن أن يحمل حملاً لا يحمله إلا أربعون رجلاً هذا أمر غير ممكن، وانتبهوا لهذه النقطة كان ذلك قبل نبوة موسى ﷺ بعشر سنين تقريباً، يعني ليس من المعجزات.
وكذلك ما يذكر عن علي بن أبي طالب في فتح خيبر، يقولون: إنه جاء، وفتح الباب الذي كان لا يستطيع أن يفتحه إلا أربعين رجلاً، فجاء علي وبيده سيف، وباليد الأخرى الباب، فانتزعه، هذا أمر لا يكون، ولا يمكن، ونجزم أنه لم يقع، وأنه من أكاذيب الرافضة، فهم أرادوا أن يثنوا على علي فجاؤوا بمثل هذه الأخبار التي لا يصدقها إلا السذج.
خذ مثالاً آخر على ذلك، في قول الله عن ملكة بلقيس: قال: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ  [النمل: 23] فوصف الله عرشها بالعظيم، ماذا يذكر من الإسرائيليات في كتب التفسير؟ يقولون: هو سرير من ذهب، وصفحتاه مرمول بالياقوت، والزبرجد، وطوله ثمانون ذراعاً، وعرضه أربعون ذراعاً، وارتفاعه ثلاثون ذراعاً، ويقولون: كان في بيت، وعليه بيت، وعليه بيت، وعليه بيت إلى سبعة بيوت لحماية هذا العرش، تصور هذا العرش يضخم بهذه الضخامة؟ كيف يكون شأن ملكة سبأ في وسطه؟ أصغر من البعوضة، فهذا شيء ينقصها في الواقع، ولا يكون كمالاً، وعظمة في حقها، ومعلوم أن الملوك إنما يعملون العروش، ويجلسون على السرر من أجل أن يعظموا بذلك، فإذا صنعت عرشاً بهذه الضخامة صارت كالبعوضة الصغيرة في وسطه، تكون حقيرة صغيرة في وسط هذا العرش، فهذا شيء مبالغ فيه.
خذ مثالاً آخر على ذلك في قول الله عن جندها لما قالوا لها: نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ [النمل: 33] ما الذي يذكر في كتب التفسير من الإسرائيليات، والمبالغات في ذلك؟ يقولون: كان تحت يدها اثني عشر ألف لواء، تحت يد كل واحد من هذه الألوية مائة ألف مقاتل، كم يكون المجموع؟ المجموع يكون اثنا عشر مليون رجل، وهل يعقل هذا العدد اثنى عشر مليون جيش في منطقة محدودة صغيرة، وهي اليمن في ذلك الزمان.
الآن الدول التي يبلغ عدد سكانها مئات الملايين قد لا يصل الجيش إلى هذا العدد، في أراض شاسعة، فكيف باليمن في ذلك الزمان حينما كان الناس قلة، ولم يكونوا بهذه الكثرة التي نشاهدها اليوم؟!
خذ مثالا آخر من هذه المبالغات العجيبة في قول الله عن سليمان ﷺ:  حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ [النمل: 18] يذكر بعض المفسرين أن النملة بقدر البختية - نوع من الإبل - طيب هذه النملة التي بقدر الناقة لو كان هذا الكلام صحيح كان ما خشيت النملة على أخواتها من أن يطأ سليمان - عليه الصلاة، والسلام - النمل، وهم لا يشعرون، فسليمان يرى النملة التي بقدر الناقة، ثم هو لو داهم هذا الوادي فإنه لايستطيع أن يدهم هذا النمل الكبير الضخم، ولا يستطيع أن يلحق به ضرراً؛ لأن الجمال إذا مر بجوارها شيء من الجمال، والخيول فإنها لا تتضرر بذلك فهي بحجمها، فهذه النملة التي بقدر البعير لماذا خافت أن يطأ سليمان أرضها، ويطأ على أخواتها، ويحصل ذلك منه من غير شعور، ولا إحساس، هي ضخمة كبيرة، فكيف تخوفت هذا التخوف؟.
خذ مثالاً آخر، بعضهم يقول عن هذا النمل: كانت التي تكلمت نملة عرجاء، وكانت النملة بقدر الذئب، نملة بقدر الذئب؟ طيب افرض أنها بقدر الذئب هل يخفى أمرها على سليمان فيطأها دون أن يشعر؟ وهل النمل الذي بقدر الذئاب - إن وجد - هل هو شيء يخفى على الماشي بحيث إنه يمكن أن يقع عليك، فإن مشي بجواه هل يخشى على هذا النمل أن يتضرر، ويوطأ، وما شابه ذلك؟.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكر في قول الله عن بني إسرائيل حينما أبوا أن يدخلوا الأرض المقدسة قالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة: 22] يقول ابن عبد الحكم في فتوح مصر: "استظل سبعون رجلاً من قوم موسى في خف رجل من العماليق" هذا خف الآن - الحذاء أعزكم الله - سبعون رجلاً استظلوا تحته، هذه مبالغة واضحة جداً.
وكذلك يقولون: شهدت ضبعة مع أولادها قد جلست في جفن عين واحد من هؤلاء العماليق هذا عملاق الآن حي موجود، وهذه الضبعة مع أولادها ربضت في جفن عينه، أو بعض فجاج عينه، هذا كذب لا يمكن أن نقبله، ولا يمكن أن يصدق، ويقولون: إن موسى ﷺ أرسل في البداية بعض العيون ليستطلعوا له الحال، والأمر عند هؤلاء العماليق، فماذا شاهدوا؟ وجدوا رجلاً من هؤلاء في مزرعة في حائط، ووجدوه يقطف بعض الثمار، فلما شاهدهم نظر إليهم، وأخذهم، فجعلهم في كمه مع الثمار، وذهب إلى الملك، ونثرهم بين يديه - مثل الذر - فقال الملك: قد رأيتم شأننا، وأمرنا، فاذهبوا، وأخبروا صاحبكم.
وفي بعض الروايات: أنه لقيهم رجل من العمالقة فجعلهم في كسائه، وحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في الناس فاجتمعوا عليهم، فقالوا: من أنتم؟ فاخبروهم، فأعطوهم حبة من العنب، وقالوا: احملوها إلى صاحبكم - يعني إلى موسى ﷺ وبذلك يعرفون قدرنا، ويعرفون عظمتنا، ويعرفون قوتنا، هذا كله من المبالغات، الله قال: قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة: 22] قوم جبابرة عندهم قوى، وإمكانيات، وقدرة، لكن بهذا المقدار سبعون رجلاً يستظلون بخف واحد من العمالقة! إذن ما يصنع هؤلاء بقتالهم؟! ذر تقاتل أفيال! هذا لا يمكن في مجال العادات، وليس هنا شيء يتعلق بالمعجزات.
وأمر آخر يمكن أن نجعله من المقاييس، والموازيين التي نعرف بها أن هذا الكلام من قبيل المبالغات، أو لا: أن بعض العجائب التي تذكر، والغرائب تذكر في بلاد مأهولة يطرقها، ويزرونها، ويرونها، ثم لا ينقلون هذا الخبر، ولا ينقل إلا في رواية شاذة، أو رواية لا اسناد لها هذا أمر لا يمكن.
خذ مثالاً على ذلك ما ذكر في أخبار عاد إرم ذات العماد التي ذكر الله إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ۝ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [الفجر: 7 - 8] فماذا يقول بعض المؤرخين عنها؟ يقولون: إن عاد هذا كان عمره تسعمائة سنة، وسمع بوصف الجنة، وأن الجنة مبنية من الذهب، فأراد أن يبني مدينة من ذهب على غرار الجنة فجلس يبني هذه المدينة من لبن من ذهب، فبنى مدينة كاملة من الذهب، وبقي في بنائها ثلاثمائة سنة، فهذه المدينة قصورها من الذهب، وأساطينها من الزبرجد، والياقوت، وما شابه ذلك، أين هي في أخبار المخبرين الذين زاروها، ورأوها، وشاهدوها؟ مدينة كهذه أمرها لا يخفي، ينبغي أن يتواتر هذا النقل، أما أن يذكر في بعض الروايات لا إسناد لها، ولا يشتهر ذلك في الرواية، ولا يتواتر، هذا أمر لا يذكر، ولا يعبأ به، ولا يلتفت إليه.
خذ مثالاً على ذلك أتذكر قبل قرابة عشرين سنة زار بعض الطلاب من الجامعة المدينةَ النبوية، فماذا رأوا؟ كان في تلك الأيام يمهد لهدم الأحياء القريبة من المسجد النبوي، فكان هناك جهة يقال لها: الباب المصري فكانوا يهدمون هذه الناحية، وبدأوا في هدمها، جاء هؤلاء الطلاب، وهم يزعمون أن ثمة حية خرجت ضخمة أرجلها كأرجل الجمل، ووجهها وجه إنسان له لحية طويلة بيضاء فكانوا إذا أرادوا أن يهدموا تبدت لهم في وجهها فتوقفت المحركات، والسيارات، والدركتلات عن الهدم، ولم يستطيع شيء منها أن يتحرك، هذا كذب، ودجل واضح، ومعلوم، ولا نحتاج أن نتحقق منه، فقلت لهؤلاء الناس: هل ذهبتم أنتم، ورأيتموها؟ قالوا: الناس قالوا ذلك، ونحن ذهبنا إلى المكان فوجدنا الجرافات متوفقة؛ نعم متوفقة لأن العمال في حال استراحة؛ لأن العمال في شغل آخر، أما أن يكون رؤية الجرافات متوقفة دليل على أن هذا الامر حق، وواقع، ثم بعد ما يقارب من عشر سنين من هذا الخبر، كنت مع بعض طلبة العلم في المدينة فذكر لي خبراً عن مبالغات الناس قال: كنا حينما كان هدم الأحياء التي حول المدينة - حول المسجد النبوي - فكان في صلاة المغرب بين الأذان من الإقامة خمس دقائق تقريباً، والناس يذهبون أفواجاً من الدكاكين، والمحلات، فيقول: عند الباب المصري كان فيه حية صغيرة يقول: شاهدتها بهذا الحجم سوداء خرجت من بعض الهدم فقتلت فصار الناس أكوام الأفواج يأتون للصلاة فيجتمعون فتجمهر أناس، وصار آخرون لا يتسطيعون مشاهدتها فيسألون الآخرين: ماذا ماذا؟ فيقولون: حية كبيرة جداً فتناقل هذا الناس، وبالغوا في وصفها حتى جاءنا الخبر، وسمعتهم يقولون: حية ضخمة لها أرجل كأرجل الجمل، ووجه كوجه الإنسان، ولها لحية بيضاء، وإذا خرجت إلى الناس توقفت السيارات، والمحركات، هذا ما يروج إلا على البسطاء، وكان هؤلاء للأسف من طلاب كلية شرعية، فهذا لا يمكن أن يقبل.
خذ مثالاً على ذلك: أتذكر في ذلك التاريخ أيضاً كان بعض الشباب يدورون على المساجد، ويحلفون الأيمان المغلظة - وقد سمعتهم في صلاة المغرب - أمام الناس أنهم شاهدوا قبراً يسعر على صاحبه، هذا أمر في بلد، الناس يشاهدون، ثم لا يتواتر هذا الخبر، فكانت المقبرة القديمة، والطريق يمر مرتفعاً فمن سار على الطريق يرى المقبرة، ويرى القبور، فيقولون: شاهدنا ذلك بأم أعيننا، وكانوا ثلاثة، أو أربعة يحلفون أمام الناس في المسجد، فقال لهم بعض العقلاء: نصحبكم إلى هذا القبر، أرونا هذا القبر، فذهبوا معهم فلما دخلوا إلى المقبرة، وجدوا مصاحف، وكتب قد أحرقت في ناحية منها، فلم يكن ثمة قبر يسعر، وإنما كانت مصاحف تحرق فهم شاهدوها من بعيد، وقد اجتازوا المقبرة بسيارتهم، فظنوا أنه قبر يسعر على صاحبه.

ومن الضوابط التي ينبغي أن تلاحظ في جانب المبالغة 

أن كل حادث له طبيعة تخصه، وله مزاج - إن صح التعبير - يناسبه، فحينما ينقل عن الإسكندر - مثلاً - الذي يقال: إنه بنى الإسكندرية، يزعمون في كتب التواريخ أنه حينما أراد أن يبني الإسكندرية أن حيوانات البحر بدأت تخرج، وتنقض عليه، وتمنعه من بنائها - هكذا في كتب التاريخ - ويقولون: إنه لما رأى ذلك بنى له تابوتاً من زجاج، ووضع هذا التابوت من الزجاج في خشب - وضعه في صندوق مكشوف من الجوانب من الخشب - ثم دخل فيه، ونزل في قعر البحر، فجلس يرسم - كما يقولون - المخلوقات الشيطانية في البحر، ثم خرج، فصور على هيئتها من المعادن مجسمات، ووضعها قبالة البحر، فلما خرجت حيوانات البحر لأذيته رأت هذه المخلوقات الشيطانية في وجهها - يعني التماثيل - فخافت، ودخلت في البحر، واستطاع أن يبني الإسكندرية.
هذا خير في كتب التاريخ لربما نقرأه، ولا نتوقف عنده كثيراً، ولكن انظر إلى طبيعة هذا الخبر، وإلى ما يحيط، ويحتف بهذا الخبر من بعض الأمور التي لها طبيعة خاصة، فهل يتصور أن ملكاً يقال: إنه ملك رقعة شاسعة من الأرض أنه ينزل في تابوت، ثم ينزل في وسط البحر من أجل أن يرسم هذه المخلوقات الشيطانية؟! يعني هل جرت عادة الملوك أنهم يفرطون هذا التفريط، ويغامرون مثل هذه المغامرات؟ الجواب: لا، الملوك لا يفعلون ذلك، هذه واحدة.
الشيء الآخر: أنه إن نزل في هذا الصندوق الصغير من الزجاج فهو يحتاج إلى أكسجين، فكيف استطاع أن ينزل، ثم هو لا يختنق هذه ثانية.
والأمر الثالث: أن المخلوقات الشيطانية هذه في البحر لا تعرف، فإن قُصد بها الشياطين، والجن فهم يوجدون في البحر، وخارج البحر، ثم هؤلاء لا يستطيع هو أن يراهم حتى يرسم صورهم، ثم بعد ذلك يجعلها على هئية مجسمات، فهذه ثلاثة أمور كل واحد منها كفيل بأن يرد هذا الخبر، ولا يعبأ به، ولا يصدق، ولا يلتفت إليه بحال من الأحوال.

لا يلتفت إطلاقاً إلى الأخبار المستحيلة

أمر آخر من الضوابط، وهو: أنه لا يلتفت إطلاقاً إلى الأخبار المستحيلة، ولا يوقف عندها، ولا تصدق، فمن ذلك مثلاً ما يذكر عن حاتم الطائي، وهو طبعاً معروف بالكرم، والجود، يقولون: إنه لما مات جاء بعض الضيوف بعد موته فنحر لهم - حاتم - جزوراً على قبره - ذبح لهم عير على القبر - هذا الخبر مستحيل لا يمكن، الميت لا يستطيع أن يفعل شيئاً من ذلك، فلا داعي لهذه المبالغات، هذا خبر بمجرد السماع يمج، ويكذب، ولا يمر إلا على السذج البسطاء.
خذ مثالاً آخر ما يذكر عن بعض الأولياء في البيئات المنحرفة، والساذجة التي تصدق مثل هذه التهاويل يقولون: إن هؤلاء الأولياء مثلاً إنه ذهب، فوجد الكعبة مثلاً في طريقه، فطافت به - هي طافت - وليس هو الذي طاف بها - سبعة أشواط دارت عليه، ثم رجعت فهذا مستحيل، ولا يعرف أن الكعبة انتقلت عن مكانها في يوم من الأيام لتطوف بولي من أوليائهم، ولا يعرف أن الناس جاءوا إلى مكة، فلم يجدوا الكعبة بحجة أنها تطوف على ولي من الأولياء.
والعجيب أنك تجد في بعض كلام هؤلاء المتفقهة من الصوفية ما يثير العجب، يقولون: فلو جاء فلم يجد الكعبة، فقد ذهبت إلى ولي لتطوف به، فهل يجزئه أن يطوف بالمحل، أو لا يجزئه؟ لا بد من البناء، يعني هؤلاءء فقهائهم يصدقون مثل هذه التراهات، والأكاذيب التي لا تنطلي إلا على السذج، ومع ذلك يذكرونها في بعض كتبهم التي يدونونها في الفقه. 

فانظروا كيف يمسخ عقل الإنسان إلى هذا الحد؟! وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حينما يناقش أمثال هؤلاء الذين يقولون عن بعض أوليائهم بأنه صاحب خطوة انتقل، وذهب، وطاف بالكعبة سبعة أشواط، ووقف مرة في عرفة من الهواء، ثم رجع إلى آخره... فشيخ الإسلام يقول: هذا عليه دم؛ لأنه تعدى الميقات من غير إحرام - شيخ الإسلام يضحك من عقولهم - يقول لهم: كيف تقولون عن صاحبكم هذا عليه دم مع أن هذا أمر لا يكون؟!.
وخذ مثالاً آخر، خبر شبيب بن يزيد الخارجي، رجل من شجعان الخوارج، ومن أبطالهم، كان يضرب به المثل في القوة، والبأس، والشدة، وكان يقاتل الحجاج، وهو زوج غزالة المعروفة التي حصرت الحجاج، وكاد الحجاج يهلك في ذلك الحصار المشهور؛ فالحاصل أن شبيباً هذا كان يسير في فرسه بجوار نهر في الأهواز، فاضطرب به الفرس فسقط، وعليه درع من حديد في هذا النهر فغرق، فيقولون: إن جند الحجاج استخرجوه من هذا النهر، ثم أمر الحجاج فشقوا صدره، هذا يضرب به المثل بالشجاعة، يقول: فلما شقوا صدره، واستخرجوا قلبه، وجدوا قلباً آخر معه، يعني له كم قلب؟ له قلبان، وهذا أمر مستحيل، والله يقول: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4].
وفي بعض أقوال السلف في تفسير هذه الآية أن رجلاً من قريش كان يقال له: ذو القلبين، ولما كانت غزوة بدر، وانهزم المشركون لقيه أبو سفيان - وأبو سفيان كان في العير - أبو سفيان، ومعه نعلاً في يده، والنعل الآخر في رجله، فقال له أبو سفيان: ما هذا؟ فتبين لهم أن الرجل قد غفل، وذهل من شدة الخوف الذي أصابه، فلم يشعر طول هذه المدة التي كان يجري فيها أن نعلاً في رجله، ونعلاً في يده، فعرفوا أن له قلباً واحداً، فكانوا يعتقدون أن له قلبين، وهذا أمر مستحيل، فالحاصل يقولون: أن الحجاج لما شق صدر شبيب الخارجي وجد في صدره قلبين هذا كذب، ويقولون: وجدوه يميل إلى السواد، بل وجدوه أسوداً، وكانوا يضربون به الأرض، فيرتفع على قامة رجل، يعني متر، وستين سانتي تقريباً يرتفع، هذا، ولا كرة، ويقولون: قلبه كان قوي جداً، وكان إذا ضربوا به الأرض ارتفع على قامة رجل، ويقولون: أن أمه حينما مات أرضعته من أتان، يعني من حماره، فصارت له هذه الشجاعة، ونحن لا نعرف إلا أن الحمار يوصف بالبلادة، ومن رضع من حمار فلا يبعد أن يكتسب شيء من صفاته، لا أنه يكتسب هذه القوة، وهذه الشجاعة كما هو معلوم.
فالحاصل أقول: هذا من الإخبار المستحيلة أن يوجد لإنسان قلبان في جوفه، وقد كذب الله ذلك.
فأقول: مثل هذه الأشياء التي توجد في كتب التواريخ، ولربما توجد في كتب التفسير من الإسرائيليات، أو بعض الإسرائيليات، وغير ذلك من الأمور المبالغ فيها التي نسمعها فيما ينقله الناقلون ينبغي أن نضبطها، وأن يُتحرى فيها، وأن نزنها على هذه الموازين، ونستطيع أن نتخلص - بإذن الله  - بعد ذلك من كثير من هذه الأباطيل، والمبالغات التي تروج على البسطاء من الناس.
وأنتم لا تتصورون كم يقع من الأثار، والنتائج المؤسفة من جراء تصديق هذه الأمور، أو من جراء فعلها، وقد ذكرنا في أول الكلام طرفاً من ذلك، ولا بأس أن أختم الكلام في هذا الموضوع بأن أذكر بأن الهزيمة التي وقعت للفرس حينما انتصروا ذلك الانتصار الشهير على الروم، والذي قصه الله علينا في القرآن: الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: 1 - 2] كانت الفرس أكثر مملكةً، وأكثر عدداً، وأوسع داراً، ولا تُقارن قوة الفرس بقوة الروم، ومعلوم في الفتوحات الإسلامية أن الناس كانوا يفضلون الذهاب إلى الشام لدعاء النبي ﷺ لها، ولأخباره عن بركتها، وأيضاً كان الفرس أهل شدة، وبأس، ومراس بالحروب، وصلابة لا تطاق مواجهتهم.
فالحاصل أن الفرس استطاعوا أن يخرجوا الروم من الشام، وهرب هرقل بمن بقي معه ممن لم يقتل من الجنود إلى القسطنطينية، وعاث الفرس في أرض الروم فساداً، وحاصروا هرقل في القسطنطينية حصاراً شهيراً، فماذا صنع هرقل؟ كان هرقل من أهل الدهاء، والخبرة، والتجربة في الحروب، وكان له رأي، وحصافة فأرسل إلى ملك الفرس الذي كان مقيماً على حصاره، وقال له: نريد أن نقطع معك مصلحاً، فاطلب ما شئت، فماذا صنع ملك الفرص؟ طلب منه أمور كثيرة جداً لو اجتمع الفرس، والروم على أن يأتوا بها لم يستطيعوا، يعني بالغ في الشروط، والمطالبات، فعرف هرقل ما لهذا الملك من العقل الضعيف، والسذاجة، فاستطاع بعد ذلك أن يخدعه خدعة سطرت في كتب التواريخ، وهي من أعجب الأحداث، وذلك أنه قال له: وافقتك على كل ما طلبت، وهي مبالغات لا يمكن أن يأتي بها أحد، هذه الشروط لا يمكن أن يوفرها ملك الروم، ولا ملك الفرس لو اجتمعوا، فكيف خطر في عقل ملك الفرس أن هذا الملك يمكن فعلاً أن يحقق هذه الأشياء؟ يعني لم يطالبه بأمور معقولة، فقال له: وافقتك على ذلك جميعاً، ولكن أجعل لي فرصة، ومجال أذهب إلى أطراف مملكتي فاستخرج الخزائن، والدفائن من الكنوز من أجل أن أعطيك ما طلبت، فقال: لك ذلك، فخرج بجيش متوسط، وتوجه مباشرة إلى مملكة فارس، وملك الفرس، وجنوده يرابطون على أسوار القسطنطينية، فذهب إلى مملكة فارس، وعاث نهباً، وسلباً، وقتلاً، ودخل إيوان كسرى، واستاق من نسائه، وأخذ ولد كسرى، وحلق رأسه، واستاقه معه، وأخذ من الجواهر، والكنوز، والذهب، والحرير، والأموال شيء لا يوصف، وذهب به إلى القسطنطينية، واستطاع أن يدخلها بحيلة، وبخدعة، تدل على قصور عقل ملك الفرس، استطاع أن يدخل، ثم بعث له بهذه الأموال، وبعث له بولده قد قص ناصيته، أو حلق رأسه، وقال: هذا ما طلبت، فجن جنونه، ولا يدري يذهب إلى مملكته ليرقع ذلك الخرق الذي فتق، أم أنه يبقى مرابطاً على أسوار القسطنطينية، وكان ذلك سبباً لانتصار الروم مرة ثانية على الفرس فيما يذكره المؤرخون.
فأقول: انظر كيف كان هذه المبالغات سبب لهزيمة هؤلاء الذين يحاصرون القسطنطينية، بعد ما حققوا تلك الانتصارات.

نسأل الله أن ينفعنا، وإياكم بما نسمع، وأن يجعلنا هداة مهتدين.

وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.

مواد ذات صلة