الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(09) مواصلة الأسباب التي جعلت الأمة تختلف هذا الاختلاف المذموم
تاريخ النشر: ٠٩ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 3880
مرات الإستماع: 3584

المقطع المرئي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

مرحبًا بكم جميعًا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

نواصل الحديث في هذه الليلة على الأسباب التي أودت إلى التفرق والاختلاف، وقد ذكرنا من جملة هذه الأسباب: البغي والتعصب.

وأشرتُ هناك إلى أن الحسد ربما يكون من أسباب البغي أو التعصب.

من أسباب الاختلاف: الحسد:

ولذلك فإن العاشر من أسباب الاختلاف هو: الحسد، فقد يُظهر المخالفةَ والمباينة من يكون دافعه وباعثه إلى هذه المخالفة هو الحسد.

إذا كانت دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قد ردها أقوام بسبب الحسد، وهكذا نجد في التاريخ الممتد أقوامًا قد خالفوا بباعثِ ودافع الحسد.

ولهذا أشار بعض أهل العلم إلى أن الواحد من هؤلاء لربما يزعم أن غرضه إصلاح الخلق، يقول: وفي المقابل لو أنه ظهر من أقرانه من أقبل عليه الخلق وحصل الصلاح على يديه لمات غمًّا وحسدًا.

يقول: ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله إليه[1].

ولذلك ذكروا في المعيار بما يتصل بالتجرّد: أن المخلص المتجرد لا يبالي إذا كان الصلاح والإصلاح يجري على يديه أو على يد غيره، وأنه إذا جاء غيره من المصلحين، فأقبل الناس بوجوههم إليه، فإنه يفرح بذلك، ويسعد؛ لأن الخير ينتشر، بخلاف غير المخلص فإنه يتخذ ذلك خصمًا وعدوًّا، ومن ثَمّ فهو يبحث عن أخطائه وزلاته، ويفرح بمن جاء يبشره بشيء من هذه الأخطاء أو الزلات.

ولربما يكون ذلك ظاهرًا وكثيرًا حينما تكون المخالفة مع أقوامٍ نتفق معهم، ليس بيننا وبينهم اختلاف، وإذا نظرت فيما يذكره هذا المتحدث الذي يظهر المخالفة فإنك لا تجد شيئًا، اللهم إلا إن كان المخالف لا يحمل عقلًا يسعفه، فهو يعد الأوهام، والزلات اليسيرة مما يوجب المباينة والمفاصلة والمخالفة.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن هذا الحسد يقع كثيرًا بين المتشاركين في رئاسة، أو مال، إذا أخذ بعضهم قسطًا من ذلك، وفات الآخر.

وهكذا أيضًا بين المنتسبين للعلم أو الدعوة.

يقول: ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يُفضَّل الآخر عليه كحسد إخوة يوسف، وكحسد ابني آدم أحدهما لأخيه، فإنه حسده لكون أن الله تقبل قربانه، ولم يُتقبل قربان الآخر، فحسده على هذا التفضيل، وكحسد اليهود للمسلمين[2].

وهكذا في أمثلة كثيرة، ولهذا قيل: إن أول ذنب عُصي الله -تبارك وتعالى- به ثلاثة: الحرص: وهذا ذنب آدم ، والكبر: وهذا ذنب إبليس، والحسد: وهذا ذنب ابن آدم الذي قتل أخاه.

ولربما امتنع الرجل -كما أشرنا، وكما ذكر الحافظ ابن القيم رحمه الله- من الدخول في دين الإسلام حسدًا[3]، إما حسدًا للداعي، وهو النبي ﷺ أو حسدًا للأتباع كون هؤلاء تقدّموا عليه وسبقوه، وهم من الأعبُد في نظره، فيرى هذا الشريف العظيم في قومه أنه جاء متأخرًا، وأن هؤلاء سيكون لهم السبق والتفضيل وقد نالوا من العلم والعمل ما لم ينله، فيترك دين الله -تبارك وتعالى- حسدًا؛ لئلا يكون مسبوقًا يُفضَّل عليه من كان دونه في جاهليته.

والله -تبارك وتعالى- جعل بعض الخلق فتنة لبعض وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [لفرقان:20] الكبراء ومن دونهم، هؤلاء يفتنون بهؤلاء، وهؤلاء يفتنون بهؤلاء، الأغنياء والفقراء، العلماء والعامة، هؤلاء يُمتحنون بهؤلاء ويفتنون بهم، وهؤلاء يفتنون بهؤلاء أَتَصْبِرُونَ يعني: أتصبرون على البلاء؟، جعل الله ذلك امتحانًا، فهو يختبر صبر العباد، وهذا الفَتْنُ هو كِير القلوب، هذا الامتحان هو الذي يحصل به التمييز وينقسم الناس بين صادقٍ وكاذب.  

في التاريخ أمثلة مؤلمة وجِراح وقعت لأقوامٍ نحسبهم من الأخيار الأبرار إنما حلّ بهم ما حلّ من البلاء بسبب الحسد من  قومٍ موافقين.

الإمام البخاري ما تقولون به؟، لازال كتابه عند المسلمين وسيبقى أصح كتاب بعد كتاب الله -تبارك وتعالى، ومَن مِن المسلمين لا يعرف البخاري؟.

ولكن أحد العلماء المعاصرين للبخاري، ممن كان يعظم البخاري ويحبه ويبشر تلامذته بقدوم الإمام البخاري إلى بلده، -ولا حاجة لذكر الأسماء لأن هذا من أهل السنة، فلمّا قَدِم البخاري انجفل الطلاب والتلاميذ على الإمام البخاري، وذاك الذي كان يطريه ويزكيه ويُثني عليه ويَعِد بقدومه لما رأى ذلك وقع في قلبه ما وقع، وحصل بسبب ذلك فتنة في مسألة طُرحت فأدى ذلك إلى شناعة وبلاء حل بالبخاري -رحمه الله- حتى جاءه أحد أصحابه وقال: يا أبا عبد الله، هذا رجل مقبول بخرسان خصوصًا في هذه المدينة قد لَجّ في هذا الحديث

-يعني: تصدى لهذه الفتنة- حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه، فما ترى؟ فقبض على لحيته -يعني الإمام البخاري- ثم قال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام  بنيسابور أشرًا ولا بطرًا -هذه نيسابور التي كان فيها وحصل فيها ما حصل- ولا طلبًا للرئاسة وإنما أبت عليّ نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين.

البخاري ما يستطيع أن يذهب إلى موطنه الأصلي، وقد نصحه الإمام أحمد -رحمه الله- ألا يسافر، فأبت عليه نفسه أن يذهب إلى وطنه لغلبة المخالفين، يعني هناك أعداء للبخاري، هناك من يخالفه في الاعتقاد من الجهمية ونحوهم، فذهب إلى نيسابور عند عالم من علماء أهل السنة ولكنه ابتلي.

يقول: وقد قصدني هذا الرجل حسدًا لما آتاني الله لا غير، هو يشكو إلى الله الآن، يقول: اللهم إنك تعلم، يقول: حسدني هذا الرجل لما آتاني الله لا غير، ثم قال لهذا الرجل -واسمه أحمد: يا أحمد، إني خارج غدًا لتتخلصوا من حديثه لأجلي، حتى تستريحوا، سأخرج[4]

الإمام البخاري خرج -رحمه الله- ومات في غربة وفي سفر، ما توفي في مدينة، ولا توفي في مستشفى.

وكان حينما يأتون إليه ويقولون: يقولون كذا، ويقولون كذا يعني من الكيد، كان لا يرد إلا بآيات من القرآن وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].

هذا الإمام البخاري بذلك الزمان، القرن الثالث الهجري، فلا تستغرب أن تجد من الاختلاف والتفرّق والشر في زماننا هذا قرب قيام الساعة. 

والنبي ﷺ يقول: دب إليكم داء الأمم، الحسد، والبغضاء وهي الحالقة[5]رأيتم كيف تحلق الدين، إذا اختلف هؤلاء ماذا يصنع بهم هذا الاختلاف!.

فالنبي ﷺ سماه داء، هذا الاختلاف قد يكون بسبب طلب الرئاسة والتقديم على الناس والشهرة، وهذا قرينٌ للحسد، فإنما يقع الحسد عند من لم تزكُ نفسه وتتطهر، كل إنسان لا يخلو، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "ما خلا جسدٌ من حسد ولكن الكريم يخفيه -يعني لا تظهر آثاره، يمسك لسانه وجوارحه، واللئيم يبديه"[6]

لكن هذا الظهور أو هذا الإبداء قد يكون بلبوسٍ آخر، بلبوس الغيرة على الدين، بلبوس الرد والمصارمة للمخالف، والواقع أنه يتفق معه على لزوم الكتاب والسنة واتباع السلف الصالح لكن اختلفنا في اجتهادات، فيحملنا أحيانًا الحسد أو طلب الرئاسة والشهرة والأتباع على المصارمة فنعارك، ونُظهر المخالفة على ما لا يوجب المخالفة، وهنا لربما يتحرك الإنسان من منطلق الحمية لنفسه، والدفاع عن جاهه ورياسته.

فهؤلاء كما قال شيخ الإسلام: "لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلًا سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله ﷺ"[7].

وإن كان هذا بلبوس الدين، ولذلك كما ذكر أهل العلم حتى في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن الرجل قد لا يقوم قيامه لله فيخذل ويُسلَّط عليه من يؤذيه، ويذكر شيخ الإسلام أن بعض هؤلاء لربما أُعطي من الدنيا، فيتحول إلى نصير ومعين لذاك الذي كان ينكر عليه ويذكره بمثالبه ومعايبه، ولربما كان له شيء من الطمع عند هذا أو ذاك ممن يذكره ويعيبه في المجالس، وفي وسائل التواصل وما إلى ذلك، فإذا كانت له الحاجة فإنه لربما يواجهه أو يكاتبه ويخاطبه بأنواع الإطراء والثناء والمدح، وذكر المناقب، وما إلى ذلك، وأين الكلام الذي كنت تقوله؟، أليس هذا من النفاق؟. 

إنما يكون قيام الإنسان لله، وفي الله، وينظر ما الذي يوجب الاختلاف، وما الذي لا يوجبه، وما الذي يوجب الرد وما الذي لا يوجبه، ومتى يحسُن الكلام ومتى لا يحسن، متى يحسن السكوت، متى يحسن غض الطرف، متى يحسُن تأليف القلوب؟.

ينظر الإنسان في نيته، ينظر في واقعه، ينظر في حال أمته، انظر إلى أحوال البلاد الإسلامية، انظر إلى كثرة التفرق والاختلاف بين الدعاة إلى الله وغيرهم من أهل العلم وغير أهل العلم.

تفرق وتمزق والعدو يحيط بهم، ومع ذلك لا نعقل، ونمعن بهذا الطريق، تفوهًا وكتابة وتصرفات ومزاولات من شأنها أن تزيد التمزق والفرقة والاختلاف في وقت نحن أحوج ما نكون إلى جمع القلوب بين أهل السنة والجماعة، أن يتناسى الناس الاختلافات التي بينهم وهم جميعًا ممن يتبعون الكتاب والسنة، ويلتزمون الأصول المعتبرة عند السلف الصالح ولكن قد يكون الحامل على ذلك -كما سبق- الأتباع، الرئاسة، سواء كان ذلك في ميدان دعوة أو في ميدان قتال أو غير ذلك.

هذا عنده مجموعة وقائد وأمير، وهذا عنده مجموعة وقائد وأمير، وهذا عنده مجموعة ومئات المجموعات، أهكذا يكون أهل الإسلام والله يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا؟!، [آل عمران:103].

إننا بهذا الواقع لا يمكن أن ننتصر أوننتظر الانتصار، ولو استطعنا أن نغلب عدونا مع حالنا هذه المتعثرة فإننا لن نستطيع أن نجتمع ونحن نفكر بهذه الطريقة والنفوس حاضرة، فسيشتغل بعضنا ببعض.

نحتاج إلى عقلاء، إلى حكماء، إلى من يخافون الله يفكرون بمصالح الأمة، ويكون الشعار الكبير لهم كما كان شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "ما مني شيء، ولا لي شيء، أنا المُكدَّي وابن المُكدَّي[8]، ما يقول: أنا، وعندي رصيد من الأتباع، وعندي رصيد من المكتسبات والأعمال.   

لا رصيد، ولا مكتسبات، ولا أعمال، هذا تلقاه عند الله ، لكن الذي نعرفه في الدنيا من حال المخلص أنه إن كان في الساقة كان فيها، وإن كان في الميمنة كان فيها، وإن كان في أي موقع فإنه لا يتردد طالما أن المصلحة تتحقق بذلك، مصلحة الأمة وليست مصلحة النفس، ونحن لا نعيب غيرنا، ولا نتكلم عن غيرنا، نحن نتكلم عن أنفسنا، نحن جزء من هذه الأمة، حتى الكتابات التي نكتبها، التغريدات التي نغردها، هل نريد بها إعزاز الدين، أو إعزاز النفوس، ورفع هذه النفس، وتحقيق الذات كما يقال، وكثرة المعجبين، والمتابعين، والذين يهتفون بالثناء علينا، وترديد عباراتنا وكلامنا، هذا الكلام الحكيم الذي كأنه قد خرج من مشكاة النبوة بزعمنا.

الثاني عشر من أسباب هذا التفرق والاختلاف وهو: تفاوت العقول والمدارك.

وقد جاء عن مطرف بن الشخير -رحمه الله- أنه كان يقول: "عقول الناس على قدر زمانهم"[9].

وهناك أشياء في المخالفة أو الطوائف التي تظهر، أو الأتباع الذين يتبعون أولئك قد لا يمكن أن تفسر إلا بأن الله قسم العقول كما قسم الأرزاق، الله قسم العقول كما قسم الأرزاق، فهناك من لا عقول لهم، ليس لهم عقول تسعفهم.

ولهذا نُقل عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه لما ناظره بعضهم في فتنة خلق القرآن، قال له: "إن كان هذا عقلك فقد استرحت[10]، إن كان هذا عقلك فقد استرحت، وهي عبارة بليغة ذات دلالة ومغزى واضح.

انظروا إلى العجائب والغرائب في التاريخ مما لا يمكن أن يفسر إلا بهذا المعنى؛ من أجل أن نحمد الله على نعمة العقل.

الشاطبي -رحمه الله- ذكر في كتابه الاعتصام، يقول: "كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة واستظهر عليها بأمور موهمة للكرامات -هذا في الأندلس- والإخبار بالمغيبات ومخيِّلة لخوارق العادات، تبعه على ذلك من العوام جملة، ولقد سمعت أن بعض طلبة ذلك البلد -طلبة العلم- الذي احتله هذا البائس -سيطر على البلد وهي بلد مالقة في الأندلس- أخذ ينظر في قوله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، هل يمكن تأويله؟ وجعل يُطرِّق الاحتمالات ليسوِّغ إمكان بعث نبي بعد محمد ﷺ[11].

طبعًا هذا المتنبئ الكذاب كان مقتله على يد الغرناطي -رحمه الله- أعني أبا جعفر بن الزبير صاحب الكتب المعروفة "ملاك التأويل" وغير ذلك، شيخ شيوخ الشاطبي.

هذا الذي ادعى النبوة، وبعض طلبة العلم صار يبحث عن احتمالات لهذه الآية، أنه يمكن بعث نبي، هذا ماذا يمكن أن يقال عنه وعن عقله وعن علمه؟ ولا تذهب بعيدًا في عصرنا يوجد من يتبع القادياني، بعدما عَرف هذا التوحيد الخالص يقفز هذه القفزة، ثم يسقط على رأسه ويتبع القادياني، القادياني مرة وحدة، هل عند القادياني أدنى شيء يمكن أن يجذب الأنظار، أو يمكن أن يُقبل حتى يُتبع من أجله؟!، ولكن ذهاب العقول، وعمى البصائر، نسأل الله العافية.

في بعض البلاد المشرقية في هذه الأيام رأيت مجلات ورأيت صورًا، وأخبرني بعض الدعاة، وأروني ما كتبوا وما ردوا وما نشر في المجلات هناك وبالصور، يوجد هناك من يدعي الربوبية، ويتبعه ملايين، يدعي الربوبية، الإلهية والربوبية يتبعه ملايين، ممن ينتسب إلى الإسلام ثم يَمرُق منه، فيؤمن بهذا البائس الذي يدعي أنه إله! وآخر يدّعي النبوة ويتبعه الملايين، سألت بعض الدعاة، قلت: كم يقدَّر العدد؟ قالوا: ما نعرف ما في إحصائيات، لكن نحن نتوقع من طلاب الجامعات نحو ستة ملايين، ما هذا! شيء هائل! فأين العقول؟! إن لم يوجد علم أين العقول؟ كيف يمكن أن يقبل من مثل هذا؟!.

الذهبي -رحمه الله- ذكر مقالة جميلة للحسن بن أبي الحسن يقول: "كلما نعق بهم ناعق اتبعوه"[12].

وذكر الشاطبي -رحمه الله- أنه وُجد رجل في أعلى صعيد مصر، رجل من القبط ممن يظهر دين النصرانية، ورأْيَ اليعقوبية، يقول: كان يشار إليه بالعلم والفهم، انظر إلى العقول، فبلغ خبره أحمد بن طولون، فأحضره، وأحضر عنده بعض أهل العلم ليوجّهوا إليه السؤالات، فسئل، وجّهوا إليه سؤالًا يطلبون فيه الدليل على صحة دين النصرانية.

هذا رجل الآن يوصف بالفهم والعلم، ماذا قال؟ حتى تحمد الله على نعمة العقل، فقال: دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية تدفعها العقول، وتنفر منها النفوس، لتباينها وتضادها، لا نظر يقويها، ولا جدل يصححها، ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل فيها، والفحص عنها، هو الآن يصفها بوصف بليغ ودقيق، هذا الدليل على صحتها الآن، من أي وجه؟.

يقول: ورأيت مع ذلك أممًا كثيرة وملوكًا عظيمة ذوي معرفة، وحسن سياسة وعقول راجحة قد انقادوا إليها وتدينوا بها مع ما ذكرت من تناقضها في العقل، فعلمتُ أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها إلا لدلائل شاهدوها وآيات علموها ومعجزات عرفوها، أوجب انقيادهم إليها والتدين بها[13].

هذا يصلح في سلب نعمة العقل، هذا رجل لا عقل له، ألغى عقله تمامًا، ويستدل على صحتها مع معرفته بفسادها وتناقضها وبطلانها، يقول: رأيت خلقًا من العقلاء ومن الملوك، ومن الكبراء ومن الوجهاء يتبعونها مع تناقضها، ويصلح هذا أن يكون شاهدًا فيما يتصل باتباع الآباء وتقليد الآخرين من غير برهان.

خذ مثالًا  آخر على هذا -تهافت العقول: طائفة ربما لم تسمعوا بها يقال لها: البُرْغُواطية، هذه الطائفة وُجدت في القرن الثاني الهجري في بلاد المغرب، فصار لها شوكة ودولة، هؤلاء كانوا من الأخلاط من البربر وغيرهم اجتمعوا على شخص يهودي الأصل ادعى النبوة اسمه صالح بن طريف بن شمعون البرباطي، نسبة إلى وادي البرباط في جنوب الأندلس، فصارت كلمة برباطي تطلق على كل من اعتنق ديانته، ثم حرفت إلى بُرغواطي، هذا أقام دولة تمتد من الرباط في المغرب، إلى ناحية البحر وأقام أسطولًا وجيشًا ودولة وله أتباع، هذا اليهودي[14].

وهذا ينقلنا إلى السبب الثالث عشر وهو: إزاغة القلوب، عائشة -ا- كانت تروي عن النبي ﷺ أنه كان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.

فقلت: يا رسول الله، إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء، فقال: إنه ليس من عبدٍ إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه[15].

 وفي قوله -تبارك وتعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] يقول ابن عباس: "أخذُلهم وأدعُهم في ضلالهم يتمادون"[16]-نسأل الله العافية- إذا كان المؤمن يدرك هذا فإنه يخاف.

ولهذا كان النبي ﷺ وهو أهدى الأمة وأثبت الأمة وأعظم الأمة يقينًا يكثر من هذا الدعاء "ثبت قلبي على دينك".

فهنا أيضًا في سورة الأنعام: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ يعني: وبصائرهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110].

جزاءً وفاقًا، لمّا ردوا الحق أول مرة عاقبهم بتقليب القلوب والأبصار فلا ترى الحق ولا تعرفه -نسأل الله العافية- جزاء وفاقًا.

إذا جاءك الحق فأقبِل عليه وتمسك به ولا تتردد ولا تؤجل فإن الله يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24].

يحول بين المرء وقلبه، يريد أن يتوب ما يستطيع، يريد أن يؤمن ما يستطيع، يريد أن يهتدي ما يستطيع، فيبادر ويبحث دائمًا عن الهدى، ويفرح بنصح الناصحين ويخشى على قلبه أن يزيغ.

هذا عالم ذكره الشاطبي -رحمه الله- في الاعتصام ولن أسميّه؛ لأنه يقال: إنه تاب، لكن خبره عجيب في غاية العجب، يقول: كان من ثقاة أهل الحديث ومن كبار العلماء العارفين بالسنة، إلا أن الناس رموه بالبدعة، بسبب قولٍ حُكي عنه من أنه كان يقول: إن كل مجتهد من أهل الأديان مصيب، كل مجتهد من أهل الأديان مصيب، أديان! يهودي، نصراني، بوذي، مصيب.

يقول: حتى كفّره القاضي أبو بكر وغيره، وذكر أن ابن قتيبة حكى عنه أنه كان يقول: "إن القرآن يدل على الاختلاف، فالقول بالقدر صحيح وله أصل من الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل من الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بذاك فهو مصيب".

يقولون: سئل يومًا عن أهل القدر وعن أهل الإجبار، فقال: كلٌّ مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله، وهؤلاء قوم نزهوا الله.

وكذلك قال في الأسماء، يقول: كل من سمّى الزاني مؤمنًا فقد أصاب، ومن سماه كافرًا فقد أصاب، ومن قال: فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال: هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب، لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني.

يقول: وكذلك السنن المختلفة، يعني القول بالقُرعة وخلافه، القول بالسِّعاية وخلافه، قتل المؤمن بالكافر، يقول: كل هذا من قال بهذا أو هذا فهو مصيب.

يقول: ولو قال قائل: إن القاتل في النار كان مصيبًا، ولو قال: في الجنة كان مصيبًا، ولو وقف فيه وأرجأ أمره كان مصيبًا إذا كان إنما يريد بقوله: إن الله تعبده بذلك، وليس عليه علم الغيب[17].

انظر يُصحّح اجتهادات هؤلاء من أهل الأديان في اختيار الدين، والمعبود وهكذا في أقوال أهل الضلال والبدع يصحح القولين المتناقضين، يعقل هذا؟!

هذا لو صدر عن عامي لكان مستشنعًا، فكيف يصدر ذلك عن رجل ينتسب إلى العلم؟!، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

خذ مثالاً آخر: هذا من أقران القاضي عياض، الإمام المالكي المعروف، كلنا نعرف القاضي عياض -رحمه الله- هذا من أقرانه رجل مشهور كان من الأشاعرة، يقال له: ابن تومرت، هذا طلب العلم كما طلبه القاضي عياض، وزامله في الطلب وهما في بلد واحد.

لكن هذا الرجل فُتن وفَتن الناس، كان يحتال على الناس، تولى زعامة، وأقام دولة، بنى ذلك على الحيل والأكاذيب، والبطش والإسراف في سفك الدماء.

وللأسف إذا كنت تستغرب من هذا فاعجب أكثر من ذاك الذي أغواه، طلب من عبد الله الونشريسي، له كتاب مطبوع في القواعد الفقهية، مختصر يدرسه طلاب العلم، فقيه مالكي طلب منه أن يُخفي علمه وفصاحته ويتظاهر بالجهل واللكَن مدة، وأنه لا يحسن ركوب الخيل، ولا يحسن الكلام، وألكَن وأنه عامي قُح، فما الذي حصل؟.

يقول الذهبي: فلما كان عام تسعة وخمسمائة، خرج يومًا فقال: تعلمون أن البشير -يقصد الونشريسي- رجل أمي ولا يثبت على دابة فقد جعله الله مبشرًا لكم مطلعًا على أسراركم، يعني: يعلم ما في قلوبكم وخفاياكم وما تضمرون في غيبتكم، يقول: وهو آية لكم قد حفظ القرآن وتعلم الركوب وقال: اقرأ، فقرأ عليهم ختمة كاملة في أربعة أيام، وركب فرسًا وساقه، فبهتوا، فعدوا ذلك آية. 

يقول الذهبي: لغباوتهم، فقام خطيبًا وقرأ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، وقرأ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110].

يقول: "فهذا البشير مطلع على الأنفس، ملهم، ونبيكم ﷺ يقول: إن في هذه الأمة محدَّثين وإن عمر منهم[18]وقد صحبَنا أقوامٌ أطلعه الله على سرّهم ولابد من النظر في أمرهم وتيمُّم العدل فيهم، ثم نودي في جبال المُصامدة -هذه الجبال التي فيها البربر- من كان مطيعًا للإمام فليأتِ الإمام -يعني ابن تومرت- فأقبلوا يُهرعون فكانوا يعرضون على البشير فيُخرج قومًا على يمينه ويعدهم من أهل الجنة -الذي هو الونشريسي- وقومًا على يساره فيقول: هؤلاء شاكون في الأمر، وكان يؤتى بالرجل منهم فيقول: هذا تائب ردوه على اليمين، وتاب البارحة فيعترف بما قال.

يقول الذهبي: "واتفقت له فيهم عجائب حتى كان يطلق أهل اليسار وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل فلا يفر منهم أحد، وإذا تجمع منهم عدّة قتلهم قراباتُهم حتى يقتل الأخُ أخاه".

طاعة عمياء أمام إنسان يعلم الغيب، يعلم ما تُكن الأنفس وما تخفي الصدور، هكذا زعموا.

يقول: وكان في وصيته إلى قومه إذا ظَفر بمرابط أو تلمساني أن يحرقوه، فالذي صح عندي أنه قُتل منهم سبعون ألفًا على هذه الصفة -إحراق، ويسمونه التمييز.

يقول: "وقد بلغني أن ابن تومرت أخفى رجالًا في قبورٍ  دوارس -يعني قديمة- وجاء في جماعة ليريهم آية، فصاح، أيها الموتى، أجيبوا، فأجابوا أنت المهدي المعصوم، وأنت وأنت، ثم إنه خاف من انتشار الحيلة فخسف فوقهم القبور فماتوا"[19].

يعني: خشي أن يتحدث منهم أحد فيما بعد فيُكتشف ذلك، فخسف عليهم القبور، تصور هذا رجل الآن كان يطلب العلم، ويُنسب إلى العلم، وهذا الذي يعضده كان يُنسب إلى العلم!.

وإذا وقفنا أمام مثل هذه الأمثلة فما يسعنا إلا أن نقول: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8].

هؤلاء الذين يقعون أحيانًا في التفرق والاختلاف أحيانًا لا تجد ما يفسر صنيعهم إلا إزاغة القلب، يركب ضلالة واضحة، لا خفاء فيها، ولا تجد إلا أن تقول: يا مقلب القلوب، يا مقلب القلوب.

يطلعني بعض الإخوان أحيانًا  على حساب رجل لا يُعرف عنه إلا الصلاح والخير والاستقامة، فلما تقرأ فيما يكتب تقول: لا يمكن! لعل هذا يُكتب على لسانه.

لكن هذه المدة الطويلة لا يُبين، ولا يذكر هذا، ولا يقول: هذا الحساب مختطف، كلام لا يمكن أن يصدر عن عاقل فضلًا عن إنسان فيه خير ودين وصلاح، أو إنسان ينتسب إلى العلم.

مصادرة تامة للعقل، تقول: هذا سُحر، هذا جُن، لا تدري، لكننا نقول: يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على طاعتك، فالإنسان يخاف على نفسه.

هذا ما يرجع إلى الناظر في الأدلة، ونحو ذلك وما يظهره من المخالفة.

ثالثًا: من أسباب الاختلاف ما يرجع إلى بعض المزاولات والتصرفات التي نفعلها أحيانًا، فمن ذلك:

أولًا: تنزيل النصوص على غير المراد بها:

وهذا يحصل كثيرًا حينما تقع الفتن والحروب فيشتط كثيرٌ من الناس لتحميل النصوص ما لا تحتمل، وأنه يقصد به كذا.  

وربما حُملت مجموعة النصوص الواردة في لزوم الجماعة أو الطائفة المنصورة على طائفة بعينها دون أهل السنة والجماعة بعمومهم ومجموعهم.

ينسب ذلك إلى طائفته، وهذا غير صحيح، وهو مما يسبب الاختلاف والشر بين الناس، يعني: معنى ذلك أن من لم يدخل معهم فإنه يكون قد خرج عن الجماعة، وأن أحسن أحواله أنه من البغاة، هذا أحسن الأحوال، إذا ما رمي بما هو أعظم من ذلك. 

من مزاولاتنا التي تُوقعنا في هذا التمزق والاختلاف للأسف: أن يقوم وجود البعض على أساس تقويض جهود الآخرين.

الأمة بحاجة إلى جهود الجميع من المصلحين الأخيار المتبعين للسنة، تحتاج إلى إصلاح هذا الواقع، تلك المجتمعات، دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، لكن البعض يضيق عطَنه، فيشعر أنه لا يمكن أن يتقدم، ولا يمكن أن يعمل إلا إذا قوض جهود الآخرين، فيستشعر أن هؤلاء هم العقبة في الطريق، وأنه يجب التخلص منهم والقضاء عليهم، بينما نحن في فضاء واسع.

هذا تجده يقع بين الطوائف، فيقع في الصراعات، ويقع ذلك بين الأفراد -الأشخاص، ليس له ديدن، وليس له شأن إلا زيد وعمرو، لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، لن يأكل أحد شيئًا من رزقك أبدًا، ولن يأخذ شيئًا من أجَلك، فاطمئن.

وإذا نظرت إلى التاريخ الطويل، ونظرت في سير العلماء، وفي تراجمهم في العصر الواحد، وجدت خلقًا لا يحصيهم إلا الله، وإنما الرصيد الحقيقي لكل واحد من هؤلاء بما حصله من العلم والعمل والصدق والإخلاص والبذل.

فلا ينبغي أن يضيق عطَن الإنسان، يشعر أنه لا يمكن أن يدرك ولا يحصل، ولا يكون له القبول عند الله، أو في الأرض إلا إذا هشّم كل ناصية وقمة وأسقطها من أجل أن يصعد هو.

إنما يصعد الإنسان بإخلاصه وصدقه وعمله وعلمه، قدر كل إنسان بما يحسنه وليس بالشتم والسب والوقيعة واللمز والطعن وما إلى ذلك، الفضاء واسع، اقرأ تراجم العلماء في العصر الواحد، وأنا دائمًا تتطلع نفسي إلى جمع الوفيات المتقاربة، يعني: كم مات في السنة الواحدة من العلماء، في التراجم، العلماء الأعلام، أو في خلال خمس سنوات، أو كم تَعاصر في الطبقة الواحدة من العلماء، مختلف الفنون، أئمة رءوس.

والتاريخ لا ينظر إلى أنه وُجد هذا في عصر فلان، أو في عصر فلان، إنما ينظر: ماذا قدم؟ ماذا بذل؟ ماذا حصّل؟

أما إذا كانت بضاعته الشتائم والسباب والوقيعة فهذه بئست البضاعة، وبئس الزاد إلى المعاد الوقيعة في أعراض العباد، هذا لا يصلح أن يكون زادًا نتزود به.

ومن ذلك: الاجتماع على معانٍ خاصة أو فروع اجتهادية وتضخيم ذلك ليتحول إلى أصول كلية مَن قبلها فهو معنا، ومن ردّها نابذناه.

إجتهادات، ليس عندنا غير أصول الإيمان، أركان الإيمان وأصول الإسلام، ليس عندنا أصول خاصة، ليس هناك شيء يخصنا، هذه شريعة الله  ومحفوظة في الكتاب والسنة، وكلام السلف الصالح يشرح ذلك، وشروح أهل العلم وكلام أهل العلم ننهل منه ونتعلمها وكفى، لا يوجد شيء آخر نختص به، فإن اختصت طائفة بشيء دون باقي الأمة فهنا يقع الاختلاف.

وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله: "أن نسيان أهل الكتاب حظًّا مما ذكروا به هو ترك العمل ببعض ما أمروا به".

هذا يأخذ بعض الدين وبعض القضايا ويركز عليها، وهذا يأخذ بعض القضايا ويركز عليها، وقد يُنسب إلى ذلك الذي ركز عليه، يُنسب إلى هذا العمل، فهذا غلط.

يقول شيخ الإسلام: فكان ذلك سببًا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهذا هو الواقع في هذه الأمة فنجده بين طوائفها المتنازعة كالعلماء والعباد ممن يَغلب عليهم الموسوية والعيسوية.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113].

يقول: "فالمتفقه -يعنى بالأعمال الظاهرة، وعكسه المتصوف وكل منهما ينفي طريقة الآخر، فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله، وهو عبادة الله تعالى ظاهرًا وباطنًا".

نُعنَى بأعمال القلوب، التوحيد، العقيدة، ونُعنَى أيضًا بالعبادات، ونُعنَى بالعلم، ونُعنَى بالدعوة إلى الله، وإغاثة الملهوف، ونُعنَى أيضًا بجانب الأخلاق والسلوك، فالدين شامل، ولا يصح التركيز على جانب وإغفال الجوانب الأخرى، ثم بعد ذلك نقع فيما نهانا الله -تبارك وتعالى- عنه.

يقول: "وسبب الفرقة ترك حظٍّ مما أمر به العبد والبغي بينهم"[20].

ويذكر في موضوع آخر هذا التفرق الذي حصل بين الأمة، بين علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها، يقول: "هذا هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله.

كما قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:14].

لاحظ نسيان هذا القدر مما ذكروا به، ترك العمل ببعض ما جاء في الشرع فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:14].

الفاء هذه تدل على التعليل، وهي تدل على التعقيب المباشر إذا تركت الأمة بعض ما أمرت به، فإن هذا يكون سببًا فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ هذا الذي يسميه الأصوليون: دلالة الإيماء والتنبيه، يقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك مَعيبًا عند العقلاء.

يقول: "وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب"[21].

ويقول في موضع آخر: "علينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند الله، ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة، فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض فهذا منشأ الفرقة والاختلاف"[22].

وتبقى كل طائفة فرحة بما عندها، معجبة بما عندها، ترى أنها على الحق كما يقول الذهبي: "كل فرقة تتعجب من الأخرى، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلّب الحق أن يغفر الله له من هذه الأمة المرحومة[23].

ويلحق بهذا النوع أن يكون الإنسان معه بعض الحق، لكن ينفي الحق الذي مع غيره، وهذا كثيرًا ما يقع في الاختلاف، وشيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر هذا النوع، وأن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء يقول: "تجده من هذا الضرب، وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبًا فيما يثبته أو في بعضه مخطئًا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين..."[24]إلى آخره.

يعني في أنواع القراءات الصحيحة، وما إلى ذلك، فهنا يقع الشر بسبب كونه ينفي الحق الذي عند الآخر، وهذا غلط، ينبغي أن يأخذ الدين بكامله بشموله، ولا يأخذ بعضًا، ويترك بعضًا، فيدفع النصوص التي لربما يحتج بها غيره -وقد ذكرت لكم أمثلة في مناسبات سابقة على هذا، فيكون ممن يؤمن ببعض، ويكفر ببعض.

"فهذه حال أهل الأهواء فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، قد تركوا كلهم بعض النصوص، وهو ما يجمع تلك الأقوال، فصاروا كما قال الله عن أهل الكتاب: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:14] الآية[25].

هذا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- ويذكر كلامًا من هذا القبيل يشبه ما مضى من "أن الناس إذا تركوا بعض ما أنزل الله وقعت بينهم العداوة والبغضاء.

يقول: لأنه لا يبقى هناك بعد ذلك جامع يشتركون فيه، بل فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53].

يقول: وهؤلاء كلهم ليس معهم من الحق إلا ما وافقوا فيه الرسول ﷺ وهو ما تمسكوا به من شرعٍ مما أخبر به وما أمر به، وأما ما ابتدعوه فكله ضلالة، كما جاء عن النبي ﷺ: كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة[26][27].

ويقول في موضع آخر: "أمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني -فضلًا عن الرافضي- قولًا فيه حق أن نتركه وأن نرده"[28].

هذا يُمثّل عليه بعض العلماء ويصوره -يعني الأخذ بالبعض أو تصور الدين بتصور ناقص بأخذ بعض جوانبه وترك الباقي- بمثال: أن مجموعة من العميان سمعوا بالفيل، يقول: فجاءوا إليه، جاء مجموعة منهم ودخلوا هذه البلدة التي حُمل إليها هذا الفيل، وهم ما شاهدوه، ولا عرفوه، ولا يستطيعون مشاهدته إلا باللمس، بمعنى: يتحسسونه فيتصورون حاله، فلما وصلوا إليه لمسوه، فوقعت يد بعض العميان على رجليه، ووقعت يد الآخر على الناب، ووقعت يد الثالث على الأذن، فرجعوا إلى أصحابهم، فسألوهم عن الفيل، فقالوا: قد عرفناه، ثم بعد ذلك بدءوا في وصفه، فقال الذي لمس الرِّجل: الفيل كالأسطوانة -يعني العامود، لكنه خشن الظاهر، إلا أنه ألين من الأسطوانة، وقال الذي لمس الناب: ليس كما يقول بل هو صلب لا لين فيه، وأملس لا خشونة فيه، وليس فيه غلظ الأسطوانة أصلًا، وقال الذي لمس الأذن: لعمري هو ليّن وفيه خشونة.   

فكل واحد ذكر صفة، لكن هذه الصفة هي لجزء، فترك الباقي، فهؤلاء لا يكون أحدهم قد وصفه بصورة صحيحة.  

فهكذا من أخذ بجزء من الدين، جهلًا منه أو غير ذلك، فهذا يتحدث عن الدين باعتبار أنه كذا وكذا وكذا، والآخر يتحدث عن الدين باعتبار أنه كذا وكذا وكذا، وكل واحد يصور الدين بحسب الجانب الذي اعتنى به، هذا غلط، والصحيح أن يجمع ذلك جميعًا.

أقول: وهكذا في المسائل التي نختلف فيها؛ فقد يقول الإنسان فيها قولًا يكون معه بعض الحق، ولكنه فاته بعضه، ثم بعد ذلك لا يحتمل المخالفة، ولربما رمى من خالفه بالضلال أو الكفر.

خذ من المسائل التي قد نختلف عليها أحيانًا مسألة: الإكراه على الكفر، هل يختص بالأقوال؟ أو أن ذلك أيضًا يكون بالأفعال؟

فقد يقول بعضنا: إنه لا يعذر بالفعل، وإنما يعذر بالقول فقط، القرطبي -رحمه الله- نقل إجماع أهل العلم على أن من أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

ثم تكلم على مسألة الفعل، وذكر كلامًا لأهل العلم، ثم قال: والصحيح -يعني مثلًا فيمن أُكره على السجود لصنم- أنه يسجد".

يعني بعض أهل العلم كمحمد بن الحسن من الحنفية قال: يسجد إذا كان الصنم إلى القبلة، وينوي السجود لله، فالقرطبي يقول: "الصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة؛ لأنه ثبت أن النبي ﷺ كان يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان".

يعني: مسألة الاستقبال إذا كانت في حال اختيار في السفر تسقط في النافلة على الراحلة، فكيف في حال قتل وإكراه؟، يريد أن يقول بأن الإكراه في الفعل كالإكراه في القول إلى آخر ما قال.

ثم قال "وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك، وطائفة من أهل العراق، روى ابن القاسم عن مالك أن من أُكره على شرب الخمر وترك الصلاة، أو الإفطار في رمضان أن الإثم عنه مرفوع"[29].

هذا الذي لربما لا يحتمل المخالفة في القضية ويقول: من عذر هذا الذي قد وقع منه الكفر بالفعل فهو كافر. طيب عمر بن الخطاب، وهؤلاء الأئمة، الإمام مالك، ومكحول الدمشقي، ما تقول فيهم؟ هذا رأيك، وخالفك فيه الآخرون.

وقد يكون هذا القائل من طلاب العلم المبتدئين فيه، ويتمسك برأي في هذه القضية، ويشيعه ويجادل عنه، ويوالي عليه ويعادي.

هذا لا يجوز، هذا غلط، هو عرف بعض الحق في المسألة وفاته بعضه، وليس المقصود هنا أن أتحدث عن هذه المسألة ما هو الراجح فيها، لكن أقول: حينما نشتط، ونرمي المخالف بالعظائم نقول: انظر إلى الكلام، هؤلاء من أهل العلم، هذا هو المقصود. 

هنا أيضًا من المسائل التي تتعلق بالعذر بالجهل تجد كثيرًا من الكتابات في هذا الموضوع، يأخذ بعض الأدلة، والآخر يأخذ بعض الأدلة، هذا ينقل بعض العبارات لبعض الأئمة لبعض العلماء عبارات واضحة، وذاك ينقل بعض العبارات الواضحة لبعض العلماء، فالذي ليس عنده معرفة وبصر بكلام أهل العلم يقرأ الكلام لذاك يقول: ما بعد هذا، والذي يقرأ كلام الآخر يقول: ما بعد هذا، كلام واضح، ونصوص واضحة على هذا القول.

وفي كثير من الأحيان تجد نفس هذا العالم الذي نُقل عنه له كلام آخر، لو جمع هذا وهذا لاعتدل النظر في القضية، هذا جانب.  

الجانب الآخر: أنه يوجد كلام لهؤلاء أحيانًا في مقام التنظير، وأحيانًا يقولون ذلك في مقام الفتيا في واقعة خاصة، يعني: فتوى لها ملابسات معينة، فمن الخطأ أن يعمم الحكم فيها، فتجد للعالم هذا، وهذا.

وكثير من النصوص المنقولة عن أهل العلم التي قد يتشبث بها هذا أو ذاك قد تكون عبارة عن فتاوى قيلت في وقائع معينة، وهو لا يعرف الملابسات التي قيلت فيها.

انظر إلى كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "كنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، ففعلوا به ذلك، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له[30].

يقول: "فهذا رجل شك في قدرة الله -هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة- وفي إعادته إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك[31].

الحديث مخرج في الصحيحين، ما تقول بهذا؟ معلوم من الدين بالضرورة، إذًا في هذه القضايا نستريح، ونترك هذا للعلماء الراسخين يتكلمون فيها، ويعرفون كلام أهل العلم ويجمعونه، وينزلونه بتنزيل صحيح، ويعرفون الأدلة ويجمعون بينها، لكن نحن قد نقف على دليل واحد، أو دليلين أو ثلاثة في جانب، فنبدأ ندور حول هذه الأدلة ونُشيعها ونسينا الأدلة الأخرى.

وفي موضع آخر يعقب شيخ الإسلام على هذه الواقعة -على هذا الحديث، يقول: "وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافرًا"[32].

معلوم من الدين بالضرورة ولا يكون كافرًا، تجد الجدل الكثير من الذي يُعذر؟ ومن الذي لا يعذر؟ والكتابات كثير منها هذا في هذه الناحية، وهذا في هذه الناحية.

حديث الجارية، أين كانت الجارية؟، في بيت النبي ﷺ، لم تكن في رأس جبل، أو في غابة، أو بادية بعيدة، بل كانت ببيت الرسول ﷺ.

كانت تردد وهي تضرب بالدف: وفينا نبي يعلم ما في غدِ[33]، ولم يكفرها النبي ﷺ، وأمرها أن ترجع إلى قولها الأول:

 أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم[34] 

جاهلة، فعُذرت بهذا، ولا يعلم ما في الغد إلا الله، وهذا باتفاق المسلمين، ومن المعلوم من الدين بالضرورة.

الاستعجال بالرمي بالكفر، وأن هذا يعذر فيه، أو لا يعذر فيه هذه لا يتكلم بها أرباع المتعلمين، ولا أنصاف المتعلمين، ولا أسداس المتعلمين، ولا أثمان المتعلمين من أمثالي، نتركها للعلماء، للأئمة الراسخين، وإلا فقد يقع بسبب ذلك فساد كبير وعظيم، لكن من الذي يقر أنه لم يرسخ في العلم، وأنه من أنصاف المتعلمين، من؟ هذه هي المشكلة، هو يعتقد أنه منظِّر، ويضلل العلماء ويرميهم بالأوصاف القبيحة.

كذلك في غزوة الطائف، مالك بن عوف النصري، لما راسله النبي ﷺ وخرج من حصن الطائف بعد أن انهزموا، فمدح النبي ﷺ بقصيدة بعدما دخل في الإسلام، وذكر فيها أبياتًا مثل هذا من إضافة علم الغيب للنبي ﷺ، وما كفره[35].

وهنا كذلك أيضًا في هذا الموضع الرجل الذي قال للنبي ﷺ: ما شاء الله وشئت، علمه أن يقول: ما شاء الله ثم شئت[36].

يقول شيخ الإسلام: "ولهذا كان الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرًا، ومن أمثلة ذلك عدم تكفير الرسول ﷺ لعائشة بجهلها أن الله يعلم كل ما يكتم الناس[37].

كانت تجهل هذا، فعلّمها، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى في المجلد السابع صفحة خمسمائة وثمان وثلاثين.

في مناظرة شيخ الإسلام للجهمية في زمانه، ينفون علو الله واستواءه، وما إلى ذلك، كان يقول: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال[38].

وكان يخاطب بهذا مَن؟ يخاطب علماء الجهمية وقضاتهم حينما كانوا يناظرونه، كلمهم في مقام المناظرة، علماء وقضاة، يقول: لو قلت بقولكم كفرت، لكنكم لا تكفرون؛ لأنكم جهال.

يقول: إن أصل جهل هؤلاء شبهات عقلية ظنوا أنها حق، وأنها دين، وأنها علم صحيح.

وكذلك ما ذكره النبي ﷺ في آخر الزمان عن جهل الناس وما يصيرون إليه، كما جاء عن حذيفة أن النبي ﷺ قال: يَدرُس الإسلامُ كما يَدرُس وشيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة ولا نسكٌ ولا صدقة، وليُسرى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير، والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمات، لا إله إلا الله فنحن نقولها، يقول صلة ابن زفر لحذيفة: "ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟" ما يعرفونها! يعني ليست القضية أنهم يقرون بها مثلًا ولا يؤدونها، وإنما ما يعرفونها.

قال حذيفة: "يا صلة، تنجيهم من النار، يا صلة، تنجيهم من النار، يا صلة، تنجيهم من النار"[39].

وفي حديث عائشة -ا- قالت: قال رسول الله ﷺ: يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم[40].

يعني معناه أن بعضهم قد ينجو، ذهبوا إلى أين؟ يغزون الكعبة.

فالمشكلة أننا نأخذ بعض كلام أهل العلم، نأخذ بعض الأدلة ونتشبث به، وتُكوَّن طائفة، وتبني مبادئها على هذا، فمن دخل معهم فهو منهم، ومن خالفهم فهو منحرف وضال إلى آخره، هذا لا يجوز.

وهكذا من عجز عن القيام ببعض شرائع الإسلام، شيخ الإسلام -رحمه الله- ضرب أمثلة لذلك: النجاشي، يقول: "وكذلك النجاشي، وهو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول إلى الإسلام بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك أحدٌ يصلي عليه، فصلى عليه النبي ﷺ بالمدينة وقال: إن أخًا لكم صالحًا من أهل الحبشة مات[41].

يقول: "وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج"[42]إلى آخر ما قال.

يقول: "ونحن نعلم قطعًا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن". يعني: ما حكم بينهم بالشرع في الحبشة وهو ملك، هل كفر بهذا؟.

يقول: "فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، كذلك كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفارًا، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا بل وإمامًا وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاا [البقرة:286]"[43]قاضٍ بين المسلمين والتتار.

ما قال شيخ الإسلام: هذا يمرق من الدين ويكفر، إطلاقًا.

فنحتاج أن نتبصر، نجمع كلام أهل العلم، نترك هذا للراسخين في العلم.

ليس مقصودي الآن أن أتكلم في مسألة العذر بالجهل، وأقرر الكلام فيها، وما هو الحكم إلى آخره، لا أتحدث عن هذا، وما تحدثت عنه قط، ولست معنيًّا بتتبع هذا والقراءة فيه، نترك هذا للراسخين في العلم، لكن أتيت به كمثال على أخذ بعض النصوص، وترك البعض الآخر، أخذ بعض كلام أهل العلم، وترك البعض الآخر، يوجد كلام لشيخ الإسلام قد يوافق هذا، وكلام آخر قد يوافق ذاك، فرق بين ما قيل في مقام الفتوى، وما قيل في مقام التقرير والتنظير، والله المستعان.

  1. إحياء علوم الدين (3/ 396).
  2. مجموع الفتاوى (10/ 126).
  3. هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (2/ 371).
  4. سير أعلام النبلاء (12/ 459).
  5. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 664)، رقم: (2510)، وأحمد (3/ 29)، رقم: (1412).
  6. أمراض القلوب وشفاؤها (ص:21)، ومجموع الفتاوى (10/ 125).
  7. منهاج السنة النبوية (5/ 255).
  8. المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 143).
  9. الطبقات الكبرى (7/ 104).
  10. طبقات الحنابلة (1/ 43).
  11. الاعتصام للشاطبي (2/ 593).
  12. سير أعلام النبلاء (7/ 207).
  13. الاعتصام للشاطبي (1/ 208).
  14. انظر: فقه التمكين عند دولة المرابطين، للصلابي (ص:51).
  15. أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (4/ 448)، رقم: (2140)، والنسائي في السنن الكبرى (7/ 156)، رقم: (7690)، وأحمد، رقم: (24604). 
  16. ذكره ابن القيم في بدائع التفسير (2/ 173)، والواحدي في الوسيط (1/ 100)، والبغوي (3/ 179) من قول عطاء، وأخرج الطبري (7/ 315)، وابن أبي حاتم (4/ 1370) عن ابن عباس، قال: يَعْمَهُونَ يتمادون. وانظر: تفسير ابن كثير (2/ 185).
  17. انظر: الاعتصام للشاطبي (1/ 195-197).
  18. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي (5/ 12)، رقم: (3689)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر (4/1864)، رقم: (2398). عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يكُ في أمتي أحد فإنه عمر.
  19. سير أعلام النبلاء (19/ 545-546).
  20. مجموع الفتاوى (1/ 17).
  21. المصدر السابق (3/ 421).
  22. المصدر السابق (4/ 450).
  23. سير أعلام النبلاء (22/ 172).
  24. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 145).
  25. مجموع الفتاوى (13/ 227).
  26. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4/ 200)، رقم: (4607)، والنسائي (3/ 188)، رقم: (1578). 
  27. منهاج السنة النبوية (2/ 342).
  28. منهاج السنة النبوية (2/ 342).
  29. تفسير القرطبي (10/ 182-183).
  30. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (4/ 176)، رقم: (3478)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (4/ 2110)، رقم: (2756).
  31. مجموع الفتاوى (3/ 231).
  32. المصدر السابق (11/ 411).
  33. أخرجه البخاري، كتاب المغازي (5/ 82)، رقم: (4001)
  34. السنن الكبرى للبيهقي (7/ 471)، رقم: (14689).
  35.  سيرة ابن هشام (2/ 491).
  36. أخرجه النسائي، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالكعبة (7/ 6)، رقم: (3773)، وابن ماجه، كتاب الكفارات، باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت (1/ 684)، رقم: (2117).
  37.  مجموع الفتاوى (7/ 538).
  38. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 10).
  39. أخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم (2/ 1344)، رقم: (4049)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/ 520)، رقم: (8460).
  40. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق (3/ 65)، رقم: (2118).
  41. حديث نعْي النبي ﷺ النجاشي إلى المسلمين وصلاته عليه بعد أن صف المسلمين صفوفاً في البخاري ومسلم، انظر:صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد (2/ 88)، رقم: (1327)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة (2/ 656)، رقم (951).
  42. انظر:منهاج السنة النبوية (5/ 112- 113).
  43. منهاج السنة النبوية (5/ 113).

مواد ذات صلة