هذا هو الحديث الأخير في باب الإخلاص من كتاب رياض الصالحين، وهو حديث عظيم فيه معانٍ وعبر، ينبغي للمؤمن أن يقف عندها، وأن يعتبر بها.
وقد رواه عن النبي ﷺ أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وهو من صغار الصحابة ، إذ أنه ولد قبل مبعث النبي ﷺ بسنة واحدة، وأسلم بمكة مع أبيه، وهاجر معه.
وبعض أهل العلم يقول: إنه أسلم قبله، وبعضهم يقول: إنه هاجر قبله، والمشهور أنه هاجر معه، ومما يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب ، لما كان يعطي الناس، ويعطي المهاجرين بحسب سابقتهم في الإسلام، نقص من عطاء عبد الله بن عمر، فقالوا: هو من المهاجرين، فقال: لكنه هاجر به أبواه، فلم يجعله كغيره من المهاجرين، وذلك من كمال احترازه على أموال المسلمين.
ولما كانت وقعة بدر كان عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- لم يجاوز الثالثة عشرة، ولذلك لم يشهدها، ثم جاءت أحد، وحاول أن يقبله النبي ﷺ وكان قد بلغ الرابعة عشرة، فلم يقبله رسول الله ﷺ، ثم لما كانت وقعة الخندق كان قد بلغ الخامسة عشرة، فقبله رسول الله ﷺ، وهذا مما يُستدل به على أن الخامسة عشرة فصل ما بين الصبي والغلام وما بين الرجل، فهي حد محدود يميز بها بين مرحلتين، مرحلة الصبا، ومرحلة الرجولة، فمن بلغ الخامسة عشرة حكم له بأحكام الرجال في المَحْرميّة، وفي دفع ماله له إن وجد معه حسن التصرف في المال، إن كان له مال كاليتيم، ويرتفع عنه حكم اليتم.
وإذا لم يظهر عليه شيء من علامات البلوغ، فإنه إذا بلغ الخامسة عشرة فإنه يحكم له بالبلوغ، ويكون محرماً للمرأة، ويكون ولياً في النكاح.
وقد كان عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- من علماء الصحابة، وكان من عُبادهم منذ صغره، وكان ينام في المسجد، وكان النبي ﷺ إذا صلى الفجر سأل أصحابه، هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ فيحدثونه، فتمنى عبد الله بن عمر أن يرى رؤيا ليحدث بها النبي ﷺ، فرأى النار كأنها في بئر وعليها أشطان في منظر مفزع، ثم جاءه رجلان، فقالا له: لمْ تُرَعْ لم تُرَعْ، يعني: لا خوف عليك، فحدث بها النبيَّ ﷺ، أو حدث بها حفصة -هكذا في روايات الحديث- وحدثت بها حفصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال النبي ﷺ: نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل[1]. فلما سمع عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- هذه الكلمة غيرت مجرى حياته.
ونحن نسمع المواعظ والمحاضرات والخطب، ولا نتغير كثيراً، وابن عمر سمع هذه الكلمة فقط فتغير، فصار لا ينام من الليل إلا قليلاً إلى أن مات، وكان يصلي من الليل، ويقول لمولاه نافع: أسحرنا؟ يعني: هل دخلنا في السحر؟ فيقول: لا، ثم يصلي، فيقول: أسحرنا؟ حتى يقول: نعم، فيوتر، هكذا يصلي سائر الليل، وكان يغفي إغفاءة الطائر، ينام نومة يسيرة، وكان من عباد الصحابة.
وحج ستين حجة على الجمال، وبأوضاع تعرفونها من المتاعب، ونحن اليوم على ما يسر الله لنا من الأسباب، الإنسان يلبس ثياب الإحرام من بيته، وبعد أقل من ساعتين يكون في مكة، ويخرج يوم عرفة بعد صلاة الظهر في الطائرة، ويدرك الناس في عرفة قبل العصر، فهذه نعمة عظيمة، حتى إن إحرامه لا يتغير ولا يصيبه أدنى دنس، ومع ذلك نفرط، وإذا جاء الواحد منا يريد أن يحج، قالوا له: أنت حاج، وسِّعْ على الناس، وما جاءت السعة إلا في هذا؟! والتجارات والأموال التي نتهافت عليها لم نوسع فيها على الناس، ولم نتح الفرص للآخرين!، نقول: كل يلقى رزقه، لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها.
أليس كلٌّ يلقى عمله؟ فقد قال الله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، وقال: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء: 13]، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26]، فأين التنافس في العمل الصالح؟
ابن عمر –رضي الله عنهما- حج ستين حجة، واعتمر ما يقرب من ألف عمرة، فكان مولعاً بالبيت، وحَمل على ألف فرس في سبيل الله، يعني: يحمل الناس في سبيل الله للجهاد، وكان كثير الإنفاق والصدقة.
وهو من المكثرين من رواية الحديث عن النبي ﷺ، روى ألفاً وستمائة وثلاثين حديثاً عن رسول الله ﷺ، تفرد البخاري منها بنحو من ثمانين حديثاً، ومسلم بنحو واحد وثلاثين حديثاً.
مات بمكة في قصة مشهورة معروفة، فقد وقع له مع الحجاج شيء من المخاصمة، وكان الحجاج فيه صلف وعنت وظلم، فتكلم عليه الحجاج، فقال له ابن عمر: أنت سفيه، وتكلم عليه بنحو هذا، فأمر أحد جنوده فوضع له سماً في زج الرمح، فكان يطوف بجانبه ويزاحمه، ويفتعل الزحام معه حتى جرحه في رجله، فتسمم فمرض، وعاده الحجاج في بيته، فلم ينظر إليه، ولم يكلمه، ولم يرد عليه، ومات بعد أيام وقد عمّر كثيراً، وكان عمره ستا وثمانين سنة.
وهذا الحديث الذي بين أيدينا هو حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، ولا أحب أن أطيل عليكم، ويبدو أن الترجمة أخذت بعض الوقت.
وأترك الحديث عن هذا في يوم آخر، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، أبواب التهجد، باب فضل قيام الليل (1/ 378)، رقم: (1070)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (4/ 1927)، رقم: (2479).