- الوصية الأولى
- الوصية الثانية
- الوصية الثالثة
- الوصية الرابعة
- الوصية الخامسة
- الوصية السادسة
- الوصية السابعة
- الوصية الثامنة
- الوصية التاسعة
- الوصية العاشرة
- الوصية الحادية عشرة
- الوصية الثانية عشرة
- الوصية الثالثة عشرة
- الوصية الرابعة عشرة
- الوصية الخامسة عشرة
- الوصية السادسة عشرة
- الوصية السابعة عشرة
- الوصية الثامنة عشرة
- الوصية التاسعة عشرة
- الوصية العشرون
- الوصية الحادية، والعشرون
- الوصية الثانية، والعشرون
- الوصية الثالثة، والعشرون
- الوصية الرابعة، والعشرون
- الوصية الخامسة، والعشرون
- الوصية السادسة، والعشرون
- الوصية السابعة، والعشرون
- الوصية الثامنة، والعشرون
- الوصية التاسعة، والعشرون
- الوصية الثلاثون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه ئأجمعين، وبعد:
نحن في هذه الحياة الدنيا يعتورنا ما يعتورنا من الآلام، والأكدار، والمصائب، والبلايا المتنوعة، فيصيب النفسَ ما يصيبها من العلل، والأدواء، والهموم، والغموم، والأحزان التي لربما تكسرها، وكما ترون ما من أحدٍ في هذه الحياة إلا، ويعاني، فمقلٌّ، ومكثر، فمن الناس من يُبتلى ببدنه، ومنهم من يبتلى بماله، ومنهم من يبتلى بحبيبٍ، وعزيزٍ، وغالٍ عنده.
وهذه امرأةٌ محزونة؛ لأنها لا تنجب، وتلك قلقة مشغولة؛ لأن الصغار قد أزعجوها، ولربما بكت، وولت، وذاك شقيٌ بامرأةٍ لم يوفق معها، وتلك قد ابتليت بزوجٍ أشقاها، وأتعسها.
وهكذا يموت الإنسان فيبكي أهله عليه، ويحزنون، أو يذهبون من بين يديه الواحد تلو الآخر، ويتجرع أحزانهم حيناً بعد حين.
ونحن في هذا المسجد في كل يومٍ نصلي على جنائز، وقد رأيت في بعض المساجد من يصلون لربما في الفرض الواحد على ما يقرب من عشرين جنازة، وهذه هي الحياة.
وهذه الأمور، وكثرة الأشغال، وما حصل في الحياة من ألوان التعقيدات كلُّ ذلك صار يصب في النفس همًّا مما يتخوفه الإنسان في مستقبل أيامه، وهو ما قد يعبرون عنه بالقلق، ولربما احترَّت نفسه، وأصابه الحزن بسبب أمرٍ فات، وانقضى، فهو يعيش في غم، وانكسار نفسٍ، وضيقٍ، وحزن.
وهذه الأحزان إذا تكاثرت، وتتابعت على القلب فإنها تضعفه، وتفسده، ولهذا فإنها لا تكون محمودة بحالٍ من الأحوال إلا إذا كان ذلك من الإشفاق من الدار الآخرة، أما الحزن على أمورٍ قد انقضت، وانتهت فإن ذلك يضره، ولا ينفعه، ويصير قلب هذا الإنسان معطلاً إذا كان محزوناً، وتتابعت عليه الأحزان، لا ينتفع به في شيءٍ من عمل الدنيا، ولا أمر الآخرة، فيتفرق عليه قلبه، وتنثني عزائمه، ويكون هذا الإنسان ليس له شغلٌ إلا أن يذرف الدموع، وينعصر قلبه على ما حل به، ونزل.
ولذلك كان لابد من وصايا لكلِّ مهمومٍ، ومحزون، سواءً كان ذلك الحزن، والهم مما له سببٌ مدرك، كالمصائب التي تقع للإنسان، أو الأعباء، والأشغال التي تتكالب عليه، فلربما ناءت نفسه بحملها، وقد قيل: بقدر الهموم تكون الهِمَم، فالذين لهم نفوس متطلعة تتشوف إلى ألوان النجاحات في هذه الحياة تكثر همومهم، بخلاف من كان فارغ البال، لا يرفع رأساً لشيء.
وأحياناً تكون هذه الهموم، والغموم، والأحزان مما ليس له سببٌ ظاهر مدرك، فلو سألت صاحبه من أي شيء هذا الحزن، ومن أي شيء هذه الوحشة، والضيق، وظلمة النفس، وانقباض القلب؟ لم يدرِ كيف يجيب، مع أن هذا يرجع إلى أسبابٍ معلومة، فالعبد على قدر صدقه مع الله ومحبته، وتفريغ قلبه لربه، ومولاه وعلى قدر مرتبته في العبودية يكون له من الانشراح، والسرور، والفرح، واللذة.
وقد قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: إن في القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله في خلوته، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه فاقة لا يرفعها إلا صدقُ اللجأ إليه، ولو أُعطي الدنيا، وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً[1].
فهذه ثلاثون وصية؛ لعلها تكون بلسماً، ودواءً، وعلاجاً لكل مهمومٍ، ومحزون:
الوصية الأولى: ينبغي أن نتذكر دائماً أن الله قد ارتضى لنا هذه المصيبة، وهذا البلاء الذي حل بنا، وأنه اختاره لنا، واختارنا له.
والعبودية الحقة تقتضي أن نرضى بما رضي الله به لنا، فلا يكون للعبد اعتراضٌ على الله، وعلى أقدار الله، وإنما يكون راضياً بما رضي له به مولاه.
- مدارج السالكين (ج 1 / ص 164).
الوصية الثانية: تذكر أن الذي ابتلاك بذلك هو أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، فهو أرحم بك من نفسك، وأرحم بالولد من الوالدة المشفقة.
الوصية الثالثة: أن نعلم أن هذه المصيبة دواءٌ نافع ساقه الله إلى هذا العبد، وهو العليم بمصلحته، الرحيم به، فينبغي على الإنسان أن يتجرع هذا الدواء، ولا يتقيؤه بتسخطه، وشكواه، فيذهب نفعه باطلاً، فهو دواءٌ ساقه إليك الطبيب العليم بحالك.
الوصية الرابعة: أن نعلم أن المصيبة، والبلية ما جاءت لتهلكنا، وتقتلنا، وإنما لتمتحن صبرنا، فإن ثبت العبد اجتباه ربه، وإن انقلب على وجهه طرد، وصفع قفاه، وتضاعفت عليه المصيبة.
الوصية الخامسة: أن يعلم العبد أن الله يربي عبده على السراء، والضراء، والنعمة، والبلاء، وبهذا تستخرج عبوديته في جميع الأحوال، فالعبودية تارةً تكون في حال السراء، والنعمة، وللضراء أيضاً عبودية، فالله يقلّبنا بين هذا، وهذا، فينبغي على العبد ألا يكون من عبيد العافية، وأن يعلم أن الابتلاء هو كير العبد، ومحك إيمانه
وقد هذبتك الحادثاتُ وإنما |
صفا الذهبُ الإبريزُ قبلك بالسَّبكِ. |
الوصية السادسة: تذكر أن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وقد سئل النبي ﷺ عن هذا: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة [1].
وقد قال ابن مسعود كما في الصحيحين: "دخلت على النبي ﷺ ، وهو يُوعَك، فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله، إنك تُوعَك، وعكاً شديداً، فقال: أجل، إني أُوعَك كما يُوعَك رجلان منكم، قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: أجل، ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة، ورقها [2].
وكما قيل:
على قدرِ فضلِ المرءِ تأتي خطوبُه | ويُعرف عند الصبر فيما يصيبه |
ومَن قلّ فيما يتقيه اصطبارُه | فقد قلّ فيما يرتجيه نصيبُه |
وقد قال بعض السلف: من أصيب بشيء من البلاء فقد سُلك به طريق الأنبياء[3].
وأحسنَ القائلُ إذ قال:
بنى الله للأخيار بيتاً سماؤه | همومٌ وأحزانٌ وحيطانه الضُّرُّ |
وأدخلهم فيه وأغلق بابه | وقال لهم مفتاحُ بابِكم الصبرُ. |
- أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في الصبر على البلاء (2398) (ج 4 / ص 601)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (992).
- أخرجه البخاري في كتاب: المرضى - باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل (5324) (ج 5 / ص 2139)، ومسلم في كتاب: البر، والصلة - باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (2571) (ج 4 / ص 1991).
- البداية، والنهاية لابن كثير (ج 9 / ص 293).
الوصية السابعة: أنت على خير، وفي الحديث يقول النبي ﷺ: عجباً لأمر المؤمن، إنّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له[1] [رواه مسلم].
وقد علق عليه شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - بأن الله جعل لعباده المؤمنين بكل منزلةً خيراً منه، فالعبد دائماً في نعمة من ربه، سواء أصابه ما يحب، أو ما يكره، وجعل الله أقضيته، وأقداره التي يقضيها لهم، ويقدرها عليهم متاجر يربحون بها عليه، وطرقاً يصلون منها إليه، فهذا الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن، وأنها خيرٌ لها إذا صبر على مكروهها، وشكر لمحبوبها.
- أخرجه مسلم في كتاب: الزهد، والرقائق - باب: المؤمن أمره كله خير (2999) (ج 4 / ص 2295).
الوصية الثامنة: لماذا الحزن؟ ولماذا القلق، والهمُّ، وعملك يجري عليك أجره؟
وفي الحديث: ما من أحد من المسلمين يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة الذين يحفظونه، قال: اكتبوا لعبدي في كل يوم، وليلة مثل ما كان يعمل من الخير ما دام محبوساً في، وثاقي[1] يعني ما دام في المرض.
- أخرجه أحمد (6870) (ج 2 / ص 198)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب (3421).
الوصية التاسعة: الله أراد بك خيراً، وقد جاء في الحديث: من يرد الله به خيراً يُصبْ منه [1].
وفي الحديث الآخر: إذا أحب الله قوماً ابتلاهم [2].
يقول الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "إن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير"[3].
وقال أيضاً: "لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعدّ البلاء نعمة، والرخاء مصيبة"[4].
وكان سفيان الثوري - رحمه الله - يقول: "ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة"[5].
وقال النبي ﷺ: إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه يوم القيامة [6].
- أخرجه البخاري في كتاب: المرضى - باب: ما جاء في كفارة المرضى (5321) (ج 5 / ص 2138).
- أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في الصبر على البلاء (2396) (ج 4 / ص 601)، وابن ماجه في كتاب: الفتن - باب: الصبر على البلاء (4031) (ج 2 / ص 1338)، وأحمد (23672) (ج 5 / ص 427)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (285).
- إحياء علوم الدين للغزالي (ج 4 / ص 133).
- حلية الأولياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ج 8 / ص 94).
- المصدر السابق (ج 7 / ص 55).
- أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في الصبر على البلاء (2396) (ج 4 / ص 601)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (308).
الوصية العاشرة: أن العبد قد تكون له منزلة عند الله لا يبلغها إلا بهذه المصيبة التي تُحرق فؤاده، فقد جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بالعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يُبلغه إياها [1].
وقال - عليه الصلاة، والسلام - : إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده، أو ماله، أو في ولده، ثم صبّره على ذلك حتى يُبلغه المنزلة التي سبقت له من الله [2].
فلو يدري هذا المحزون، وهذا المهموم، وهذا القلِق أن هذه المصيبة هي الرافعة التي ترفعه إلى تلك المنازل العالية لفرح بها.
- أخرجه ابن حبان (2908) (ج 7 / ص 169)، وأبو يعلى (6095) (ج 10 / ص482)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1625).
- أخرجه أبو داود في كتاب: الجنائز - باب: الأمراض المكفرة للذنوب (3090) (ج 2 / ص 200)، والطبراني في الكبير (801) (ج 22 / ص 318)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2649).
الوصية الحادية عشرة: تذكر أن البلاء كفارة، ففي الحديث الصحيح: ما يصيب المسلم من نصَب، ولا، وصب، ولا همٍّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه [1].
وفي رواية: ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته [2].
وفي الحديث الآخر: ما يزال البلاء بالمؤمن، والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله حتى يلقى الله تعالى، وما عليه خطيئة [3].
ويقول - عليه الصلاة، والسلام -: إذا اشتكى المؤمن أخلصه الله - أي من الذنوب - كما يخلص الكير خبث الحديد [4].
وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين فقال: انظرا ما يقول لعوَّاده، فإنْ هو إذا جاءوه حمد الله، وأثنى عليه، رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم - فيقول: لعبدي عليَّ إن توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته [5].
وفي الحديث القدسي: إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني، وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا، وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر، وهو صحيح [6].
وقال ﷺ: ما يمرض مؤمن، ولا مؤمنة، ولا مسلم، ولا مسلمة إلا حط الله بذلك خطاياه كما تنحط الورقة عن الشجرة [7].
وقال - عليه الصلاة، والسلام - عن الحُمى: إنها تُذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد [8].
وقال - عليه الصلاة، والسلام -: إنما مثل العبد المؤمن حيث يصيبه الوعك، أو الحمى كحديدة تدخل النار فيذهب خبثها، ويبقى طيبها [9] يقول الحسن - رحمه الله -: "كانوا يرجون في حُمّى ليلةٍ كفارةً لما مضى من الذنوب"[10].
وفي حديث جابر عند الإمام أحمد بإسناد صحيح: أن الحُمى استأذنت على رسول الله ﷺ فقال: من هذه؟ قالت: أمُّ مِلْدَم - وهي كنية الحمى - فأمر بها إلى أهل قباء، فلقوا منها ما يعلم الله، فأتوه فشكوا ذلك إليه فقال: ما شئتم، إن شئتم أن أدعو الله لكم فيكشفها عنكم، وإن شئتم أن تكون لكم طهوراً، قالوا: أوَ تفعله؟ قال: نعم، قالوا: فدعها"[11] وقد صححه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب.
وقال ﷺ عن الحمى: الحمى كير من حر جهنم، وهي نصيب المؤمن من النار [12].
يقول مسلم بن يسار - رحمه الله -: "كان أحدهم إذا برئ قيل له: لِيَهْنِك الطهرُ"[13] يعني الخلاص من الذنوب.
وفي الحديث يقول النبي ﷺ: إن الله ليبتلي عبده بالسقم حتى يكفر ذلك عنه كل ذنب [14].
وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: ما من عبدٍ يُصرع صرعة من مرض إلا بعثه الله منها طاهراً [15].
وهو أيضاً يؤجر مع تكفير السيئات، كما في حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً إلى النبي ﷺ قال: صداع المؤمن، أو شوكة يشاكها، أو شيء يؤذيه يرفعه الله بها يوم القيامة درجة، ويكفر عنه بها ذنوبه [16].
وجاء نحوه من حديث عائشة أنه ﷺ قال: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها[17].
ويقول - عليه الصلاة، والسلام -: يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض [18].
وفي خبر المرأة السوداء التي كانت تُصرع، أتت النبي ﷺ فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف فادع الله لي، فقال لها النبي ﷺ : إن شئت صبرت، ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت: "أصبر"[19] .
وقد قال بعض السلف: "لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس"[20].
ويقول أبو بكر : "إن المسلم ليؤجر في كل شيء، حتى في النكبة، وانقطاع شسعه، والبضاعة تكون في كُمّه فيفقدها فيفزع لها، فيجدها في ضِبْنِه"[21].
يقول ابن الجوزي - رحمه الله - مصوراً لهذا المعنى: "لو أن ملكاً قال لرجلٍ فقير: كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار لأحب كثرة الضرب؛ لا لأنه لا يؤلم، ولكن لِمَا يرجو من عاقبته، وإن أنكاه الضرب".
ونحن نقول: لو قيل لأي أحدٍ من الناس: كل حجر قد ربط به خمسمائة، فنضربك بهذا الحجر، وما ربط به فهو لك لأحب كثرة الضرب.
ويحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها فضحكت، فقال لها بعض من معها: أتضحكين، وقد انقطعت إصبعك؟! فقالت: "أخاطبك على قدر عقلك، حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها"[22].
إذا فقد العبد عينيه، يقول الله : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر؛ عوضته منهما الجنة [23].
وإذا فقد ولده يقول الله : ما لبعدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة [24].
- أخرجه البخاري في كتاب: المرضى - باب: ما جاء في كفارة المرضى (5318) (ج 5 / ص 2137).
- صحيح مسلم - كتاب: البر، والصلة، والآداب - باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (2573) (ج 4 / ص 1992).
- أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في الصبر على البلاء (2399) (ج 4 / ص 602)، وأحمد (1481) (ج 1 / ص 172)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5815).
- أخرجه البخاري في الأدب المفرد (497) (ج 1 / ص 175)، وابن حبان (2936) (ج 7 / 198)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1257).
- أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1682) (ج 2 / ص 940)، والبيهقي في شعب الإيمان (9941) (ج 7 / ص187)، وقال الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب (3431): "حسن لغيره".
- أخرجه أحمد (17159) (ج 4 / ص 123)، والطبراني في الأوسط (4709) (ج 5 / ص 73)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:(4300).
- أخرجه أحمد (14767) (ج 3 / ص 346)، وابن حبان (2927) (ج 7 / ص 189)، وقال الألباني: "صحيح لغيره" انظر: صحيح الترغيب، والترهيب (3425).
- أخرجه مسلم في كتاب: البر، والصلة، والآداب - باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (2575) (ج 4 / ص 1993).
- أخرجه الحاكم في المستدرك (1288) (ج 1 / ص 499)، والبيهقي في شعب الإيمان (9838) (ج 7 / ص 159)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1714).
- شعب الإيمان للبيهقي (9867) (ج 7 / ص 167).
- أخرجه أحمد (14433) (ج 3 / ص 316)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب برقم (3442).
- أخرجه أحمد (22328) (ج 5 / ص 264)، والطبراني في الكبير (7468) (ج 8 / ص 93)، والبيهقي في شعب الإيمان (9846) (ج 7 / ص 161)، واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3190).
- حلية الأولياء (ج 2 / ص 294).
- أخرجه الحاكم في المستدرك (1286) (ج 1 / ص 498)، والطبراني في الكبير (1548) (ج 2 / ص 129)، وفي الأوسط (8745) (ج 8 / ص 317)، والبيهقي في شعبه (9863) (ج 7 / ص 166)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3393).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7485) (ج 8 / ص 97)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (5743).
- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (9875) (ج 7 / ص 168)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب (3434).
- أخرجه البخاري في كتاب: المرضى - باب: ما جاء في كفارة المرضى (5317) (ج 5 / ص 2137)، ومسلم في كتاب: البر، والصلة، والآداب - باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (2572) (ج 4 / ص 1991).
- أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في ذهاب البصر - 58 - (ج 4 / ص 603)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (8177).
- أخرجه البخاري في كتاب: المرضى - باب: فضل من يصرع من الريح (5328) (ج 5 / ص 2140)، ومسلم في كتاب: البر، والصلة، والآداب - باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (2576) (ج 4 / ص 1994).
- عدة الصابرين لابن القيم (ج 1 / ص 73)، وصفة الصفوة لابن الجوزي (ج 4 / ص 38).
- انظر: عدة الصابرين (ج 1 / ص 75).
- مدارج السالكين (ج 2 / ص 167).
- أخرجه البخاري في كتاب: المرضى - باب: فضل من ذهب بصره (5329) (ج 5 / ص 2140).
- أخرجه البخاري كتاب: الرقاق - باب: العمل الذي يبتغى به، وجه الله فيه سعد (6060) (ج 5 / ص 2361).
الوصية الثانية عشرة: ما يدريك لعلها تكون سبباً لدفع ما هو أعظم، ومما يذكر في هذا الباب - ولعله ينفع - ما يذكر من خبر، وزيرٍ لملكٍ من الملوك، وكان ذلك الوزير رجلاً صالحاً، وكان يكثر من قول: "الخيرة فيما اختاره الله"، فبينما هو يأكل على مائدة الملك، وإذا بالملك تجرح يده، فيقول: قد جرحت، فقال ذلك الوزير على سجيته، وعادته: الخيرة فيما اختاره الله، فغضب الملك، وقال: أنت تشمت مني، ثم أمر به إلى السجن، فقال: الخيرة فيما اختاره الله، فأودعوه السجن، وكان ذلك الملك يعجبه الصيد، وكان يصيد عادةً مع ذلك الوزير، فخرج بمفرده - ومن تبع الصيد غفل - فبينما هو يتبع الصيد إذ خرج من حدود مملكته إلى أرضٍ قومٍ يعبدون الأوثان، فلقيه بعضهم، وما عرفوه، فأخذوه، ثم جاءوا به إلى صنمهم الكبير، فلما أضجعوه، ووضعوا السكين، إذا بأحدهم يصيح بهم، ويشير إلى يده التي قد ظهرت عليها آثار الجرح، وهو يقول لهم: إن هذا لا يصلح للقربان.
فأطلقوه، وتركوه، فرجع، وهو يقول: قد عرفتُ أن الخيرة فيما اختاره الله، فصار هذا الجرح سبباً لإنقاذ رقبته، ثم أمر بالوزير أن يخرج من السجن، وقال له: قد عرفت أن هذا الجرح كان خيرة، ولكن أخبرني حينما أمرت بحبسك فقلت: الخيرة فيما اختاره الله؟
فقال: أيها الملك من الذي يخرج معك إلى الصيد عادةً؟ فقال: أنت أيها الوزير، فقال: لو خرجت معك هذه المرة لكنت أنا القربان، فكان سجنه سبباً لنجاته من القتل.
ومما يذكر في هذا أيضاً ما وقع لأحد قادة عبيد الله بن زياد، فقد وقع من السطح، فانكسرت رجلاه، فزاره إمام كبير من أئمة التابعين، وهو أبو قلابة - رحمه الله - وقال له مسلياً، ومعزياً: أرجو أن تكون لك خيرة، فقال: يا أبا قلابة، وأي خيرٍ في كسر رجليَّ جميعاً، فقال: ما ستر الله عليك أكثر، وبعد ثلاثة أيام جاء إلى هذا القائد كتابٌ من ابن زياد يأمره بالخروج لقتال الحسين بن علي - رضي الله تعالى عنه، وأرضاه - فقال هذا القائد للرسول: قد أصابني ما ترى، فعذروه، وبعد سبع ليالٍ جاء خبر مقتل الحسين، فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة لقد صدق، فكان كسر الرجلين سبباً لسلامته، ومعافاته من أن يشارك في قتل الحسين - رضي الله تعالى عنه، وأرضاه -.
الوصية الثالثة عشرة: تأمل ما في ضمن هذه البلية من الفوائد، وفي الأمثال التي يتداولها بعض الأمم كالروس: لو لم تكن المصيبة لما كانت هناك سعادة.
وفي أمثال نابليون: المصيبة هي القابلة القانونية التي تولد العبقرية.
وفي مثَلٍ آخر: الريح التي تهب في الوجه تجعل المرء حكيماً.
وفي بعض أمثال العرب: المصائب محك الرجال، المصائب مهماز الشجاعة، عند الشدائد يعرف الإخوان.
الوصية الرابعة عشرة: تذكر أن ما وقع لك إنما وقع بسبب ذنوبك، والله يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة الشورى:30].
فينبغي علينا بدلاً من الهم، والحزن، والجزع، والقلق أن يكون شغلنا بالاستغفار، والتوبة، الذي هو من أعظم الأسباب في دفع البلايا، والرزايا، والمصائب، وقد جاء عن علي : ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة.
الوصية الخامسة عشرة: ينبغي على العبد المصاب أن يشهد حق الله عليه في هذه البلوى، وحق الله هو الصبر، فهو مأمورٌ بأداء حقه، والله يقول: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:155 - 157].
والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران:200].
الوصية السادسة عشرة: ينبغي على العبد أن يعلم أن هذه البلية، والمصيبة واقعة ولابد، فهي مقدرةٌ ثابتة لابد من أن تحل بداره، فلا وجه للجزع، والجزع لا يرد فائتاً، وإنما يزيده الجزع بلاءً، ويشمت به عدوه، والله يقول: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة الحديد:22].
وفي حديث ابن عباس مرفوعاً إلى النبي ﷺ: أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة[1] فكتب الله ما هو كائن.
وقد سئل سلمان : ما الإيمان بالقدر؟ قال: إذا علم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وفي المثل: لا ينالك من ضرب رأسك بالحائط سوى التورم.
يقول علي : إن صبرت جرى عليك القلم، وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم، وأنت مأزور.
وقد قال أحد الحكماء لبنيه: إياكم، والجزع عند المصائب، فإنه مجلبةٌ للهم، وسوء ظن بالرب، وشماتةٌ للعدو، وقد قيل:
لا تجزعن إذا ما الأمرُ ضقتَ به ذرعاً |
ونم وتوسد فارغ البال |
وما اهتمامك بالمجدي عليك وقد |
جرى القضاءُ بأرزاقٍ وآجال |
وفي شعر الشافعي - رحمه الله - :
سهدت أعينٌ ونامت عيون | لأمورٍ تكون أو لا تكون |
فاطرد الهم ما استطعت عن | النفس فحملانك الهموم جنون |
إن ربًّا كفاك بالأمس ما كان | سيكفيك في غدٍ ما يكون |
وفي حكم أهل الصين: لماذا نلقي بأنفسنا في الماء قبل أن تغرق السفينة؟.
وقد قيل:
إنّ الكريم إذا نابتْه نائبةٌ | لم يبدُ منه على علاته الهلعُ |
وقال بعض الشعراء:
صبرتُ فكان الصبر خير مغبّةٍ | وهل جزعٌ يجدي عليّ فأجزع |
ملكت دموع العين حتى رددتها | إلى ناظري فالعين في القلب تدمع |
ويقول آخر:
سأصبر حتى يقضي الله ما قضى | وإنْ أنا لم أصبر فما أنا صانع |
- أخرجه أبو داود في كتاب: السنة - باب: في القدر (4700) (ج 2 / ص 637)، والترمذي في كتاب: القدر - باب: ما جاء في الرضا بالقضاء (2155) (ج 4 / ص 457)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2018).
الوصية السابعة عشرة: لا تدري أيها المؤمن أين الخير، والله يقول: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:216].
لعلّ عَتْبَك محمودٌ عواقبُه | وربما صحّت الأجسامُ بالعلل |
وقد قيل:
تعزّ وهون عليك الأمور | عساك ترى بعد هذا سرورا |
فإن الذي بيديه الأمور | يجعل في الكره خيراً كثيرا |
وقد قال بعضهم:
كن بلطف الله ذا ثقةٍ | وارضَ بالجارِ من السقم |
واصطبر للأمر تكرهه | فلعل البُرء بالسقم. |
الوصية الثامنة عشرة: ينبغي أن ندرك طبيعة هذه الحياة، فهذه الحياة كما وصفها الله بقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] فالإنسان يكابد في هذه الحياة، يخرج إليها باكياً، ويتجرع فيها الغصص، والأحزان، ويصيبه ما يصيبه من الآلام، والهموم، يشقى بلقمة العيش يجمعها، وإذا طال عمره فإنه يتجرع أحزان أهله، ثم بعد ذلك يخرج من الدنيا مبكياً عليه.
هذه طبيعة الدنيا، فينبغي على العبد أن يدرك ذلك، فمن ظن أنها محلٌ للراحة، والسعادة، والأنس فهو مخطئ، فالراحة إنما تكون في الجنة، وقد سئل الإمام أحمد - رحمه الله -: متى يجد المؤمن طعم الراحة؟، قال: حين يضع أول قدمٍ في الجنة.
أما هذه الدنيا فليست محلاً للراحة، فإذا أدرك العبد ذلك من طبيعتها، وعرف حقيقتها فإنه لا يغتر بها، فعليه أن يروّض نفسه على ما يصيبه، وينكؤه، ويقع له من الآلام، والهموم، والأوصاب، والأنكاد، وكما قال القائل:
ألا إنما الدنيا نضَارة أيكةٍ | إذا اخضرّ منها جانبٌ جف جانبُ |
وما الدهر والآمال إلا فجائع | عليها وما اللذات إلا مصائبُ |
فلا تكتحل عيناك منها بعَبرةٍ | على ذاهبٍ منها فإنك ذاهبُ |
وقد قيل في تصويرها، ووصفها، ووصف الإنسان فيها:
المرءُ نصبُ مصائبٍ لا تنقضي |
حتى يُوارَى جسمُه في رمسه |
فمؤجَّلٌ يلقى الردى في أهله | ومعجَّلٌ يلقى الردى في نفسه |
وقال الشافعي - رحمه الله - :
مِحنُ الزمان كثيرةٌ لا تنقضي | وسروره يأتيك كالأعياد |
السرور قليل، والمحن كثيرة، وفي أمثال الإنجليز: المصائب نادراً ما تأتي فرادى.
فينبغي على العبد أن يعلم أنه لو فتش العالم لم يرَ فيه إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نائم، وظلٌ زائل، وسحابة صيف، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أساءت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً.
على ذا مضى الناسُ اجتماعٌ وفرقةٌ | وميتٌ ومولود وبشرٌ وأحزان |
فطبيعتها:
طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها | صفواً من الأقذار والأكدار. |
الوصية التاسعة عشرة: لابد للعبد في دار الأكدار من أمرٍ يطمئن له، ويتنعم به، ويغتدي به، وهو اليقين، وعلى قدر كمال يقين الإنسان على قدر ما يكون عنده من الثبات، ورسوخ القدم أمام عواصف المصائب، والمحن، والبلايا.
الوصية العشرون: ينبغي على العبد أن يعالج الصبر، وأن يتجرعه، وإن كان مُرًّا، فالنبي ﷺ يقول: من يتصبر يصبره الله [1] والمزاولات تعطي الملَكات، وقد قيل: العوائد تنقل الطبائع إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم [2] فمن يتصبر يصبره الله.
لا تجزعن إذا نابتك نائبةٌ واصبر | ففي الصبر عند الضيق متسع |
وفي بعض الحكم: عندما نفقد كل أمل علينا ألا نيأس.
- أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة - باب: الاستعفاف عن المسألة (1400) (ج 2 / ص 534).
- أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (2663) (ج 3 / ص 118)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2328).
الوصية الحادية، والعشرون: أن يستعين الإنسان على الهموم، والآلام، والمصائب بكثرة الذكر، والاستغفار، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والله قد قال لنبيه ﷺ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًاا [سورة الإنسان:23 - 26].
نزول القرآن على النبي ﷺ وحملُ أعباء الرسالة لاقى بسببه كثيراً من أعداء الرسل، لاقى منهم ما لاقى من التسفيه، والأذى، والرمي بالعظائم، وضُرب ﷺ في وجهه، وكسرت رباعيته، وسال الدم على، وجهه الشريف، فالله يعلمه الطريق إلى الصبر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "لما كان لا سبيل إلى الصبر إلا بتعويض القلب بشيءٍ هو أحب إليه من فوات ما يصبر على فوته أمر الله نبيه بأن يذكر ربه سبحانه بكرةً، وأصيلاً، فإن ذكره أعظم العون على تحمل مشاق الصبر، وأن يصبر لربه بالليل، فيكون قيامه بالليل عوناً على ما هو بصدده بالنهار، ومادةً لقوته"[1].
- دقائق التفسير لابن تيمية (ج 3 / ص 25)، وجامع الرسائل (ص 75).
الوصية الثانية، والعشرون: أن يلجأ العبد إلى الله بالدعاء، والتضرع، وأن ينطرح بين يديه، وأن يتذلل له، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60] وقال سبحانه: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [سورة النمل:62].
وإذا رُميتَ من الزمان بشدةٍ | وأصابك الأمر الأشق الأصعبُ |
فاضرع لربك إنه أدنى لمن | يدعوه من حبل الوريد وأقربُ |
وقد قال بعضهم:
إليك وقد سُدت بوجهي الشرائع | توجهتُ يا مولاي والطرف دامعُ |
يرومون إذلالي فجئتك أحتمي | وما ذَلّ عبدٌ أنت عنه تدافعُ |
فأنت الذي يدري خفيّ خواطري | وهاجس فكري إن جفتني المضاجعُ |
فإن رابني أمرٌ قصدتك عائداً | وكل الذي قدرتَ لابد واقعُ |
وينبغي على العبد أن يلهج كثيراً كما لهج هذا الشاعر:
يا من أجبتَ دعاء نوحٍ فانتصِر | وحملته في فلكك المشحونِ |
يا من أحال النار حول خليله | روحاً وريحاناً بقولك كونِي |
يا من أمرت الحوت يلفظ يونس | وسترته بشجيرة اليقطينِ |
يا رب إنا مثله في كربةٍ | فارحم عباداً كلهم ذو النونِ |
وقد قال الألوسي - رحمه الله - :
إليك وإلا لا تُشد الركائب | ومنك وإلا فالمؤمِّل خائبُ |
وعنك وإلا فالكلام مُضيَّع | وفيك وإلا فالمحدِّث كاذبُ. |
الوصية الثالثة، والعشرون: لا تُعد شريط الذكريات السيئة، من الناس من يجتر المصائب حيناً بعد حين، ويتذكر تلك البقع السوداء التي مرت به في سني حياته، فيجدد له ذلك الحزن حيناً بعد حين، وإنما ينبغي على العبد أن يوجه تفكيره بطريقةٍ صحيحة إيجابية، فانظر إلى المستقبل، فكر في عمارة آخرتك، وفيما ينفعك في دنياك، وما أنت بصدده، فكر فيما يجدي عليك نفعاً.
الوصية الرابعة، والعشرون: عليك بحضور مجالس الذكر، ومجالس العلم، فإن ذلك يشرح الصدر؛ لأن هذه المجالس هي رياض الجنة.
الوصية الخامسة، والعشرون: عليك بالنفع المتعدي، فإنه من أعظم الأمور التي يحصل بها الانشراح، إذا ضاق بك أمرٌ فابحث عن مسكين، ابحث عن فقير، ابحث عن إنسان قد تعطلت به سيارته فأعِنه، ابحث عن إنسانٍ بحاجةٍ إلى أحدٍ يعينه على شيء من نوائب الدنيا - ولو كان ذلك يسيراً - فأعنه، تجد انبلاجاً، وانشراحاً، واتساعاً في الصدر، إذا ضاقت بك الأمور فعليك بنفع إخوانك المسلمين.
إن النفع المتعدي يشرح الصدر بطريقة عجيبة، بل إن الإحسان إلى الناس - ولو كان في أمرٍ لا يخسر الإنسان منه شيئاً - يجد الإنسان بسببه انبلاجاً في صدره، ألم يقل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [سورة المجادلة:11] يفسح لكم في الصدر، ويفسح لكم في الرزق، ويفسح لكم في القبر، فكل المعاني التي ذكرها السلف داخلة تحت هذا الفسح.
ولذلك جرِّب حينما يتزاحم الناس، ويصطفون لصلاة الجمعة، ويأتي هذا، وذاك يبحثون عن مكانٍ يصلون فيه، جرب أن تفسح لأحدٍ من هؤلاء، وأن تبتسم في وجهه، وأن تجلسه بجانبك، ستجد أن صدرك ينبلج، ويتسع. وجرب حينما تنوء بجانبك من أجل أن لا يجلس عندك، تجد أن الصدر ينقبض.
جرب حينما تقف لإنسان يحتاج إلى من يقف إليه من أجل أن يعبر الطريق في وقتٍ قد ازدحم فيه الناس، وتشاحّت فيه نفوسهم، إنك حينما تتوقف لمثل هذا تجد انفساحاً، وانشراحاً يغمر صدرك.
الوصية السادسة، والعشرون: انتظر الفرج، سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً، وقد كثر كلام الشعراء، والحكماء في هذه القضية، وسأورد طرفاً منه؛ من أجل أن يحفظه الإنسان فيردده في نفسه لعل ذلك يكون سبباً لاتساع صدره إذا ألمت به الكروب.
إذا تضايق أمرٌ فانتظر فرجاً | فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج |
وقد قيل:
فلا تجزعن إن أظلم الدهر مرةً |
فإن اعتكار الليل يؤذن بالفجر |
وقال آخر:
وإذا دَجى ليلُ الخطوب وأظلمتْ | سبلُ الخلاص وخاب فيها الآملُ |
وأيستْ من وجه النجاة فما لها | سبب ولا يدنو لها متناولُ |
يأتيك من ألطافه الفرجُ الذي | لم تحتسبه وأنت عنه غافلُ |
وقيل:
عسى فرجٌ يأتي به الله إنه | له كلَّ يومٍ في خليقته أمرُ |
عسى ما ترى ألا يدوم وأن ترى | له فرجاً مما ألحّ به العسرُ |
إذا اشتد عسرٌ فارجُ يسراً فإنه | قضى الله أن العسر يتبعه اليسرُ |
وقيل:
الصبر مفتاح ما يُرجى |
وكل خيرٍ به يكون |
فاصبر وإن طالت الليالي | فربما أمكن المحزون |
وربما نِيل باصطبارٍ | ما قيل هيهاتَ لا يكون |
لا تيأسن وإن طالت مطالبةٌ | إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فرجا |
أخلِقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته | ومدمن القرع للأبواب أن يلِجا |
اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير | وكل أمرٍ له وقتٌ وتدبير |
وللمهيمن في حالاتنا نظِرة | وفوق تدبيرنا لله تقدير |
صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا | من صدَق اللهَ في الأمور نجا |
من خشي الله لم ينله أذى | ومن رجا الله كان حيث رجا |
ومما يروى عن علي :
إني أقول لنفسي وهي ضيقةٌ | وقد أناخ عليها الدهر بالعجبِ |
صبراً على شدة الأيام إن لها | عقبى وما الصبر إلا عند ذي الحسبِ |
سيفتح الله عن قربٍ بنافعة | فيالها لمثلك راحات من التعبِ |
ويقول صالح بن عبد القدوس في قصيدته المشهورة:
لا تيأسنّ من انفراجِ شديدةٍ | قد تنجلي الغمرات وهي شدائدُ |
كم كربةٍ أقسمتُ ألا تنقضي | زالت وفرّجها الجليلُ الواحدُ |
ومن الأبيات المشهورة:
اشْتدِّي أزمةُ تنفرجي | قد آذن ليلكِ بالبَلجِ |
ويقول القلانسي:
يا نفس لا تجزعي من شدةٍ عظمتْ | وأيقني من إله الخلق بالفرجِ |
ويقول الآخر:
إذا الحادثات بلغن المدى | وكانت تذوب لهن المُهجْ |
وحلّ البلاء وقلّ العزاء | فعند التناهي يكون الفرجْ |
ويقول الآخر:
يا صاحب الهم إن الهم منفرجٌ | أبشر بخيرٍ فإن الفارج اللهُ |
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه | لا تيأسنّ فإن الكافي اللهُ |
الله يُحدث بعد العسر ميسرةً | لا تجزعنّ فإن الصانع اللهُ |
إذا ابتليت فثق بالله وارضَ به | إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ |
واللهِ ما لكَ غيرُ الله من أحدٍ | فحسبك الله في كلٍّ لك اللهُ |
ومما جاء عن هدبة بن خشرم:
عسى الكربُ الذي أمسيتَ فيه | يكون وراءه فرجٌ قريبُ |
فيأمن خائفٌ ويُفك عانٍ | ويأتي أهلَه النائي الغريبُ |
وقد قيل:
مفتاح باب الفرج الصبرُ | وكل عسرٍ بعده يسرُ |
والدهر لا يبقى على حالةٍ | وكل أمرٍ بعده أمرُ |
والكرب تفنيه الليالي التي | أتى عليها الخير والشرُّ |
وكيف تبقى حالُ مَن حالُه | يسرع فيها النفع والضرُّ |
ويقول ابن المعتز:
ولا هم إلا سوف يُفتح قفله | ولا حال إلا بعدها للفتى حالُ |
وقيل:
يضيق صدري بغمٍّ عند حادثة | وربما خير لي في الغم أحيانا |
ورب يومٍ يكون الغم أوله | وعند آخره روحاً وريحانا |
ما ضقت ذرعاً بغمٍّ عند نائبةٍ | إلا ولي فرجٌ قد حل أو حانا |
وقال آخر:
وما لقيت من المكروه نازلةً | إلا وثقتُ بأن ألقى لها فرجا |
وقد قيل:
ربّما تكره النفوسُ من الأمر | له فَرجةٌ كحَلِّ العِقالِ |
وقيل:
ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى | ذرعاً وعند الله منها المخرجُ |
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها | فُرجت وكان يظنها لا تفرجُ |
وقيل:
بينما المرء كئيبٌ موجع | جاءه الله بروحٍ فابتهجْ |
رُب أمرٍ قد تضايقتَ له | فأتاك الله منه بالفرجْ |
وقيل:
وما من شدةٍ إلا سيأتي | لها من بعد شدتها رخاءُ |
وقيل:
تصبّر إن عقبى الصبر خيرٌ | ولا تجزع لنائبةٍ تنوبُ |
فإن اليسر بعد العسر يأتي | وعند الضيق تنكشف الكروبُ |
وكم جزعت نفوسٌ من أمورٍ | أتى من دونها فرجٌ قريبُ. |
الوصية السابعة، والعشرون: هناك أمورٌ محسوسة إذا تعاطها الإنسان فإن ذلك يكون سبباً لانشراح الصدر، وسعته، فهناك أمورٌ يسميها العلماء بالمفرحات، كالعسل، والزعفران، والتين، والزيتون، والأترنج، فهذه كلها من المطعومات التي يقال لها المفرحات، فإذا أكلها الإنسان كان ذلك سبباً لانشراح صدره، وكذلك التلبينة، كما جاء في حديث عائشة في صحيح البخاري، فقد كانوا يصنعونها لأهل الميت ليخفف ذلك من الحزن عنهم.
وهكذا أيضاً الأمكنة، فقد يجد الإنسان الانشراح في بلد، أو في حي، أو في دار، وهكذا الروائح كالمسك، والطيب، وهكذا الألوان كالبياض، والخضرة، وهكذا الجلساء الذين يجد قلبه ينشرح عند مجالستهم، وهكذا المشاهد أيضاً التي يشاهدها الإنسان، فمنها ما يسبب له انشراحاً، ومنها ما يسبب لها غمًّا، وهكذا ما يسمعه الإنسان.
ولذلك أحياناً يكون الإنسان هو الذي يجني على نفسه الحزن، فقد يكون حديث الإنسان، وحديث من يجالسه دائماً عن الأمور المحزنة، فتجد المرأة أحياناً يأتيها ولدها بأمرٍ محزن، ويدخل عليها الولد الآخر بخبرٍ مفزع، وتقرأ عليها ابنتها خبراً من الجريدة فيه حادثٌ مؤلم، فيتكسر قلبها، وينعصر ألماً، وتبقى حياتها دائماً في هم، وغم، وحسرة، ونكد، وهذا أمرٌ لا يحسن بالعاقل أن يفعله.
الوصية الثامنة، والعشرون: النفس تكلّ، وتمل، وتتعب، ويصيبها ما يصيبها من الألم، والحزن، والهم، فيحتاج الإنسان إلى شيءٍ من الإجمام، والترويح حيناً بعد حين، وقد كان النبي ﷺ يبدو إلى بعض التِّلاع، وكان يسابق عائشة - رضي الله تعالى عنها - وكان يمازح أصحابه.
الوصية التاسعة، والعشرون: ابتعد عن المنغصات، والمشكلات، من الناس من لا يوفق، إذا جلس مع الناس جرح هذا بلسانه، وآذى هذا بكلامه، وغمز هذا بحركاته، وآذى هذا بتصرفاته، فتقع له مشكلة مع زميله في العمل، ومع ابن عمه، ومع أخته، ومع أخيه، ومع والده، وولده، وزوجته، فهو في غابةٍ من المشكلات، لا يستطيع أن يمسك لسانه، ولا يحسن التصرف، ولا يستطيع أن يعبر بطريقةٍ صحيحة بحيث يحفظ للناس كرامتهم، ومشاعرهم، وهذه المشاكل تورث في القلب حزناً، وألماً.
إذا وقع الإنسان في مشكلة مع زوجته، أو في مشكلة مع زميله، أو في مشكلة مع قريبه، أو في مشكلة مع ولده أو والده، فإنه قد لا يستطيع أن يصلي، ولا يجد قلبه عند الذكر، وقراءة القرآن، ولا يستطيع أن يخشع، ولا يستطيع أن يتدبر في مصالحه، وإنما يجد قلبه مربوطاً مهموماً محزوناً.
فينبغي للإنسان أن يبتعد عن المشاكل، بأن يكون كلامه طيباً، وفعله جميلاً حسناً، لا يجد الناس منه ما يسوءهم، وتكون علاقته بمن حوله علاقة طيبة كريمة.
الوصية الثلاثون: كما يقول العامة: "هونِّها، وتهون"، كيف نهون المصيبة؟ يمكن أن نهون المصيبة بأمورٍ متعددة:
الأول: أن نذكر ما هو أعظم منها، سُئلت امرأة كثيرة المصائب، وهي صابرةٌ محتسبة لا تجزع، ولا تتضعضع، كيف تصبرين هذا الصبر، وتتماسكين؟ فقالت: ما أُصاب بمصيبة فأذكر معها النار إلا صارت في عيني أصغر من الذباب.
وفي الحديث: يا أيها الناس، أيُّما أحدٍ من الناس، أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي [1].
وقد كتب أحدهم معزياً لرجلٍ مات ابنٌ له يقال له محمد:
اصبر لكل مصيبةٍ وتجلد | واعلم بأن المرء غير مخلدِ |
وإذا ذكرتَ محمداً ومصابَه | فاذكر مصابَك بالنبي محمدِ |
والأمر الثاني مما يهونها: أن تحمد الله أنها لم تكن أعظم من ذلك، إذا كُسرت رجلٌ واحدة فقل: الحمد لله أنها لم تكسر الثانية، وإذا كسرت اليد فقل: الحمد لله أنه ليس الظهر.
يقول شريح - رحمه الله -: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات، وذكر من ذلك أن قال: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي.
ورأى رجلٌ قرحةً في يد الإمام العابد محمد بن واسع - رحمه الله - ففزع ذلك الرجل منها، فقال محمد بن واسع: الحمد لله أنها ليست في لساني، ولا في طرف عيني.
ورأى رجلٌ فقيراً مريضاً كفيفاً مقعداً، وهو يردد: الحمد لله الذي فضلني على كثيرٍ من عباده، فقال: يرحمك الله، وبماذا فضلك؟ قال: رزقني لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً.
الأمر الثالث: انظر في حال أمثالك، وقد قالت الخنساء حينما قتل، أو مات أخوها صخر:
ولولا كثرةُ الباكين حولي | على إخوانهم لقتلتُ نفسي |
فالإنسان حينما ينظر إلى حال أمثاله، هؤلاء مات أبوهم، وهؤلاء مات أخوهم، وهؤلاء مات قريبهم فتهون عليه مصيبته، وفي بعض الحكم: الدخان يخرج من كل السطوح.
يقول لبيد:
أتجزعُ مما أحدث الدهر بالفتى | وأي كريمٍ لم تصبه القوارعُ |
فلا جزع إن فرّق الدهر بيننا | فكل امرئٍ يوماً به الدهر فاجعُ |
والذي يُحدث ذلك هو الله ولكن الشعراء يتجوزون
ويُذكر عن رجلٍ حينما حضرته الوفاة أنه أوصى أمه إذا أقامت له العزاء أن تدعو من لم يصب بمصيبة، لا يحضر إلا إنسان لم يصب بمصيبة، فلما نظرت في وصيته عرفت أنه لن يحضر لها أحد؛ فكل الناس أصحاب مصائب، ونحن أبناء الموتى، وسنموت، قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [سورة الزمر:30].
الأمر الرابع مما يهونها: أن ينظر الإنسان في حال من ابتلي ببلوى هي أعظم من بلواه، فإذا خسر الإنسان في تجارته، أو في أسهمه مائة ألف، فليتذكر أن من الناس من خسر الملايين، ومن خسر المليون فليتذكر أن غيره خسر أضعاف ذلك، وإذا فقد الإنسان ولداً واحداً فليتذكر أن أسراً قد خرجت من بيوتها في نزهةٍ، أو سياحةٍ، فلم يرجع منهم أحد.
يقول سلام بن أبي مطيع - رحمه الله -: دخلت على مريض فإذا هو يئن، فقلت له: اذكر المطروحين في الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم، ولا من يخدمهم، يقول: ثم دخلت عليه بعد ذلك فلم أسمعه يئن، وجعل يقول: اذكر المطروحين في الطريق، اذكر من لا مأوى له، ولا من يخدمه.
وقد وقع لعروة بن الزبير - رحمه الله - حينما قدم على الوليد بن عبد الملك بالشام ما وقع من علةٍ في رجله فقطعت رجله بالمنشار، ومات ولده في تلك السفرة في إسطبل الدواب، وجاء في ذلك الأثناء أعرابيٌ إلى الوليد بن عبد الملك، أعمى، فسأله الوليد عن حاله، فحمد الله وكان في غاية الصبر، والتجلد، وقال: إنه كان من خبره أنه كان كثير المال، والولد، فاجتاحهم السيل، فذهب المال، والولد، ولم يبقَ له إلا صبيٌّ، صغير، رضيع، وجملٌ واحد، يقول: فأخذت هذا الصبي فشرد الجمل، فوضعت الصبي، وجعلت أتبعه، يقول: ثم إن هذا الجمل أصابه في وجهه برجله فذهب بصره، فلما رجع إلى صبيه، وجده قد افترسه الذئب، لم يبق له شيء، وذهب بصره، فقال الوليد بن عبد الملك: اذهبوا به إلى عروة، أي من أجل أن يخفف ذلك مصيبته.
فالإنسان إذا نظر إلى حال أهل البلاء الذين وقع لهم أشد مما وقع له فإن ذلك يخفف ما في نفسه.
وأمرٌ خامس مما يهونها: أن نعد نعم الله علينا، وأياديه، فإذا عجزنا عن عدها، وأصابنا اليأس من حصرها هان عندئذٍ ما نحن فيه من البلاء، وحينئذ نرى البلاء قليلاً كقطرة من بحر بالنسبة لنعم الله المستفيضة التي يسوقها إلينا صباح مساء.
لما قطعت رجل عروة بن الزبير - رحمه الله - قال له ابن طلحة: قد أبقى الله أكثرَك عقلَك، ولسانَك، وبصرَك، ويديك، وإحدى رجليك، فقال: ما عزاني أحدٌ بمثل ما عزيتني به.
واجتاز أحدهم بدار تاجرٍ من قرابته فوجده في حُوشٍ في داره، وهو حاسر الرأس، يعدو كالمجنون، فقال له: ما بك؟ قال: أخذوا مني - يعني أخذوا شيئاً من مالي - فقال: إنما يقلق هكذا من يخاف الحاجة، فاصبر حتى أبين لك غناك، ثم بدأ يعدد عليه، أليس دارُك هذه بآلتها، وفُرُشها لك؟ وما زال يحسب حتى بلغ ألف ألف دينار في بغداد وحدها، فسجد الرجل، وبكى، وقال: ما أكلتُ شيئاً منذ ثلاث، فأقم عندي لنأكل، ونتحدث، يقول: فأقمت عنده يومين.
وقال بعضهم لمن شكا إليه ضيق الحال: أيسُرّك ببصرك مائة ألف؟ قال: لا، قال: فبسمعك؟ قال: لا، قال: فبلسانك؟ قال: لا، قال: فبعقلك؟ قال: لا، ثم قال: أرى لك مئين ألوفاً، وأنت تشكو الحاجة!.
وهذه إحدى الفتيات ذهبت إلى الطبيب، وهي تعاني ما تعاني من الحزن، والهم، والألم، والقلق، فأمرها الطبيب أن ترجع إلى بيتها، وأن تأخذ ورقة، وأن تعد الأمور المنغصات، وأن تعد في ورقةٍ أخرى النعم التي حباها الله بها، فلما شرعت في كتابة النعم، وعجزت عن إحصائها أدركت سر هذا الطلب، وعرفت أنها في عافيةٍ، وبحبوحة من الله - تبارك، وتعالى.
والأمرٌ السادس مما يهونها: أن يتذكر الإنسان سوابق النعم، أن يتذكر أن أيام العافية التي مرت به أطول من أيام المرض، كما قال القائل:
فلا تجزع وإن أعسرتَ يوماً | فقد أيسرتَ في الزمن الطويل |
الأمر السابع مما يهونها: تذكر، قل لنفسك: إنما هي ساعة فكأن لم تكن.
كان ابن شبرمة - رحمه الله - إذا نزل به البلاء قال: سحابة صيف، ثم تنقشع.
انظر إلى الناس الذين ابتلوا بالأمراض، وابتلوا بفقد من يحبون قبل عشر سنوات، وقبل عشرين سنة، وقبل خمسين سنة، وقبل مائة سنة، وقبل ألف سنة، هل بقيت الآلام؟ هل بقيت الحسرات؟
كل هؤلاء الناس الذين ترونهم يضحكون بملء أفواههم، أليسوا قد بكوا في يومٍ من الأيام فذهب عنهم ذلك الحزن؟
فالإنسان يحتاج أن يتصبر قليلاً، ويتذكر أنه صبر ساعة، أو كما يقال: سحابة صيف، ثم تنقشع.
أيها الحامل هما | إن هذا الهم لا يدوم |
مثل ما تفنى المسرات | كذا تفنى الهموم |
إنْ قسا الدهر فإن | الله بالناس رحيم |
إنْ ترى الخطب عظيماً | فكذا الأجر عظيم |
وكما قلت: الشعراء يتوسعون في العبارة، يقولون: إن قسا الدهر.. ومثل هذا لا يحسن.
يقول الشيخ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - في مذكراته، وهو يروي جراحه، وآلامه فيما مضى من عمره يقول: وسيأتي على هؤلاء المتألمين لمرضٍ ينغص عليهم عيشتهم، أو فقرٍ ينكد عليهم أيامهم، أو سجن ظالمٍ يقيد أيديهم، ويحرمهم أهلهم، وأولادهم، أو عذابٍ مستمر من جبارٍ آثم يغاديهم به، ويماسيهم، سيأتي على هؤلاء يومٌ يكون فيه هذا كله ذكرى، أي: ذكرى في النفس، وحديثاً في المجالس.
ومهما اشتد الضيق فالفرج موجود، وإن لم يرَ البائس الفرج في الدنيا، فالدنيا أيامٌ معدودة، وإن الحياة الباقية لهي الحياة الآخرة، وهناك يعوض المظلوم تعويضاً يرضيه، ويرى الظالم ما قدم لنفسه.
وقد قال رجلٌ من قريش:
تسلَّ عن الهموم فليس شيءٌ | يقيم ولا همومُك بالمقيمة |
لعل اللهَ ينظر بعد هذا | إليك بنظرةٍ منه رحيمة |
ومما يروى عن عثمان بن عفان :
خليليّ لا والله ما من ملمةٍ | تدوم على حيٍ وإنْ هي جلتِ |
فإن نزلتْ يوماً فلا تخضعنّ لها | ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلتِ |
فكم من كريمٍ قد بُلي بنوائب | فصابَرَها حتى مضت واضمحلتِ |
وكانت على الأيام نفسي عزيزةً | فلما رأت صبري على الذل ذلتِ |
ويقول سعيد الأسدي:
فما نُوَب الحوادث باقياتٌ | ولا البؤسى تدوم ولا النعيمُ |
كما يمضي سرورك وهو جمٌّ | كذلك ما يسوءك لا يدومُ |
فلا تهلك على ما فات وجْداً | ولا تُفرِدك بالأسف الهمومُ |
وقال أحمد بن عبد الرحمن بن عطية:
عواقب مكروه الأمور خيار | وأيام سوءٍ لا تدوم قصارُ |
وليس بباقٍ بؤسها ونعيمها | إذا كر ليلٌ ثم كر نهارُ |
هذه ثلاثون وصية، أسأل الله أن ينفعني، وإياكم بها، وأن يجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين من المسلمين، اللهم ارفع الحزن عن المحزونين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وصلِّ اللهم، وسلِّم، وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين...
- أخرجه ابن ماجه في كتاب: الجنائز - باب: ما جاء في الصبر على المصيبة (1599) (ج 1 / ص 510)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (1300).