السبت 26 / جمادى الآخرة / 1446 - 28 / ديسمبر 2024
المنهجية في طلب العلم (2)
تاريخ النشر: ٢٢ / جمادى الآخرة / ١٤٢٩
التحميل: 33405
مرات الإستماع: 11520

العلم يؤخذ شيئاً فشيئاً

العلم يؤخذ شيئاً فشيئاً، وحينما تأتي هذه المعلومة للطالب من غير أن يكون قد اطلع على الشروح فإن ذلك يكون أدعى لعلوقها بقلبه.

ثم إن الدراسة على الشيوخ تفتح المغاليق، وتُفتح عليه أمور بين يدي الشيخ، ويختصر عليه الزمان، فالشيخ هو الذي يحضِّر، أما أنت فقد اختصر لك ذلك، يقدم لك من العلم ما تحتاج إليه، وما يقدم لك من العلم تفرح به، وتأنس به، وتُسَر، فوائد جديدة.

ولكن الصحيح في نظري: أن يأخذ الإنسان الكتاب المختصر، وينظر فيه قبل الدرس، ويتأمل، ويدقق النظر، ويستخرج الإشكالات، ويحاول أن يجيب عنها، ثم بعد ذلك يقيد، ويؤشر على الأشياء التي لم يستطع الجواب عنها، ثم يحضر الدرس، لا يحضره، وهو خالي الذهن، كما يفعله أكثر الطلاب، وهو لا يدري أصلاً ما الموضوع الذي يشرح.

هو متصور للمتن، أن الشيخ سيشرح هذه المسائل، ثم يسمع الشرح، ويعلق ما يحتاج إليه، وينظر في الإشكالات التي أوردها على نفسه، وأجاب عنها، هل أجاب عنها الشيخ، وهل هو موافق لجوابه، أو لا؟

يختبر بذلك ذهنه، والمسائل التي ما أجاب الشيخ عنها بعدما ينتهي الشيخ يسأله، يقول: عندي سؤال، فإن شفاه ذلك - اقتنع بالجواب - وإلا سأل غيره، فإن وجد، وإلا رجع للكتب، وبحث، فتعْلَق بذهنه لا تخرج منه إلا ما شاء الله.

يكون راجعها، وضبطها، فإذا رجع من الدرس راجع المتن مع التعليقات، ثم قرأ المقطع الجديد الذي سيُشرح في الدرس القادم بنفس الطريقة، وهكذا في المرة الأخرى يراجع ما سبق، وإذا أنهى فصلاً راجع الفصل بكامله، وإذا أنهى باباً راجع الباب بكامله، وإذا أنهى الكتاب راجع الكتاب بكامله.

أما الواقع فهو على خلاف ذلك تماماً يأتي الطالب خالي الذهن تماماً، لا يدري ما الذي سيشرح أصلاً، ثم يحضر، ولربما ذهب ذهنه هنا، وهناك، ثم بعد ذلك يرجع، ولا عهد له بالكتاب، وإذا كان يُختبر بهذا الكتاب في أيام الاختبار راجع في أسبوع، أو أسبوعين، وكأنها أثقل عليه من الجبل.

اسألوا طلاب كلية الشريعة، عامتهم بهذه الطريقة، ولذلك يتخرج عامتهم بشهادة يمكن أن يقال: إنه قد تخرج موظفاً، أو كاتباً، أو نحو ذلك، عوام، كثير منهم إذا جلست معه، سمعت أسألته، أو نحو هذا، أسئلة عوام، وهو متخرج من كلية الشريعة، والسبب هو هذا: يراجع في أسبوع، وبعضهم يظن أن هذا هو العلم الشرعي، وأنه يحصَّل بهذه الطريقة.

ولذلك بعضهم كان يستكثر أن يقضي أربع سنوات في كلية شرعية، على هذا يقول: أنا أستطيع أن أحفظ هذه المذكرات، وأنا جالس بالبيت، وأدرس في كلية ثانية، ولهذا بعضهم خرج من الجامعة، والتحق بكلية أخرى، وقال: أنا أستطع أن أتواصل مع أحد الطلاب، ويصور لي مذكرات، ويرسلها، وأقرؤها، وأحصِّل درجات أفضل من الطلاب، هو فعلاً يستطيع أن يحصِّل درجات أفضل من الطلاب، لكنه لن يكون طالب علم، وهذه أمور حصلت، وأعرفها، وأعرف من حصلت له، وهم عوام.

هذا الكلام منذ سنة 1408هـ، كان يظن أن العلم الشرعي مذكرات يحفظها أيام الاختبارات، لماذا أجلس أربع سنوات؟

وهذا خطأ، العلم الشرعي تعطيه كلَّك يعطيك بعضه، تعتكف عليه طول الوقت، الليل مع النهار، وإلا لن تحصِّل منه شيئاً.

العلم الشرعي تعطيه كلَّك يعطيك بعضه، تعتكف عليه طول الوقت، الليل مع النهار، وإلا لن تحصِّل منه شيئاً.

الشيخ محمد بن قاسم - رحمه الله - لو قرأتم في بعض ما كتب، أو ما كتب عنه، كان يكتب كل ما يذكره، الشيح محمد بن إبراهيم - رحمه الله - يقول: كنت أقيد كل شيء، حتى كان يكتب أن الشيخ توقف هنا هُنيهة.

يقول: وكان الشيخ يسمع صريف قلمي، فيتمهل، أو يتوقف حتى أنتهي، ولم أكتب شيئاً إلا، وقد فهمته.

أما نحن فلأننا نأخذ العلم بالجملة فتأتي أشياء كثيرة في العلم، لربما ليست جملا، وإنما هي من قبيل الفصول أحياناً بكاملها، والأبواب، وما فهمناها.

هذا أستاذ يدرِّس أصول الفقه، يسأله أحد الطلاب عن مسألة، فيقول له: خذها قاعدة: سل عما ندرِّس، يدرسون بعض الأبواب، ويتتابعون على دراستها، وباقي الأبواب لا تسأله عنها، والمفروض أن هذا الإنسان متخصص بأصول الفقه، قد فهم هذا العلم، وحفظه، وضبطه.

التدرج في دراسة الكتب:

كتب كاتبون كثيرون فيما يدرس من الكتب، وكيف يتدرج الإنسان فيها، والذي أظنه أقرب - والله أعلم - أنه لا يصلح أن نجعل للناس برنامجاً موحداً للجميع؛ لأنهم يتفاوتون، يتفاوتون في فهمهم، وفي خلفيتهم العلمية، ونحو ذلك.

فحينما نأتي لأناس في العقيدة، لماذا نغفل أنهم في الواقع في الابتدائي، والمتوسط، والثانوي درسوا كتاب الأصول الثلاثة، القواعد الأربع، وكتاب التوحيد، أليس كذلك؟

حينما ننظر إلى الفقه نجد أنهم درسوا في العبادات، والمعاملات إلى المرحلة الثانوية، أليس كذلك؟

ولربما درسوا في المرحلة الثانوية، أو في تحفيظ القرآن، لربما درسوا شئياً من مصطلح الحديث، أو أصول الفقه، وهكذا في الحديث درسوا أشياء، فلا يحسن أن نجعل برنامجًا للجميع بطريقة موحدة.

لكن يمكن أن نقول مثلاً على سبيل المثال: مثلاً في التفسير لو أراد الإنسان أن يدرس دراسة تخصصية، يقول: أنا أريد أن أدرس دراسة تخصصية.

نقول: على سبيل المثال ابدأ في البداية بغريب القرآن، خذ كتاباً مثل: "المعجم الجامع في مفردات غريب القرآن" جمع، وإعداد: عبد العزيز عز الدين الشيروان، جمع أربع كتب مهمة، واقرأ القرآن ختمة في شهر، وكل كلمة تلتبس عليك ارجع إليها، واضبط الغريب.

ثم اقرأ التفسير الميسر، ثم بعد ذلك يمكن أن تقرأ تفسير السعدي، ثم بعد ذلك تقرأ مختصر تفسير ابن كثير الذي هو المصباح المنير، الذي أشرف عليه المباركفوري، أو تقرأ مختصر الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير.

وهكذا في سائر العلوم، علوم القرآن مثلاً يبدأ الطالب في كتاب أصول التفسير للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - هو كتاب في علوم القرآن - ثم مباحث في علوم القرآن للقطان، ثم الإتقان.

أو نقول: يبدأ في رسالة السيوطي في أصول التفسير، ثم في التحبير، ثم في الإتقان، هذه ثلاثة كتب، ومن درسها فقد لا يحتاج إلى غيرها.

وحينما يدرس أصول التفسير يمكن أن يبدأ - بعدما درس هذه الكتب في علوم القرآن - يدرس في مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ويدرس كتاباً في أصول التفسير.

في الفقه حسب حال الإنسان: ناس في الأقليات الإسلامية، أو صغير نريد أن نعلمه مبادئ الفقه، ما درس في بلاده الفقه، نقول: يمكن أن يبدأ بكتاب نور البصائر، والألباب في معرفة الفقه بأقرب الطرق، وأيسر الأسباب للسعدي - رحمه الله -.

أو نبدأ به في كتاب منهج السالكين، لكن إنسان درس في المراحل التعليمية عندنا نقول: نبدأ به مباشرة في كتاب العمدة في الفقه، أو في كتاب دليل الطالب، أو في كتاب زاد المستقنع.

ثم في المرحلة الثانية يمكن أن يدرس كتاب المقنع، أو كتاب الروض المربع، ثم الكافي، ثم المغني بالطريقة التي ذكرتُ في التعليم.

في أصول الفقه يمكن أن يبدأ بالورقات، أو الأصول من علم الأصول للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - ثم بكتاب قواعد الأصول، ومعاقد الفصول، ثم روضة الناظر، ثم بعد ذلك يستطيع أن يدرس المستصفى، والآمدي، وغير ذلك من الكتب.

وهكذا أيضاً في القواعد الفقهية لو بدأ بمنظومة السعدي، يمكن أن يقرأ أيضاً مثل كتاب القواعد الفقهية للندوي، فهو يعرفه بالقواعد، وما يتصل بها، وبعض الفروقات، ويذكر له القواعد الخمس الكبرى، لكنه لا يخلو من نفَس حنفي، والكتاب مفيد.

وهكذا كتاب القواعد الأصول الجامعة، ثم بعد ذلك القواعد للبورنو، ثم بعد ذلك يستطيع أن يدرس مثل كتاب الأشباه، والنظائر للسيوطي، أو لغيره.

في الحديث يبدأ بالأربعين مثلاً، ثم في عمدة الأحكام، ثم في البلوغ، أو المحرر، ثم في المنتقى.

وفي كتب الحديث يبدأ بالصحيحين، ثم بالسنن، إلى آخره.

في علوم الحديث يمكن أن يبدأ بالتذكرة لابن الملقن، أو بالبيقونية، كلٌّ بحسب حاله، إذا كان عنده شيء من الخلفية لا يحتاج أن يبدأ بهما، يبدأ مباشرة بالنخبة، ثم بالنزهة، أو الموقِظة، ثم الألفية للسيوطي، أو للعراقي.

في النحو يمكن أن يبدأ بالآجرومية، أو النحو الواضح، وإذا كان استفاد من دراسته في المراحل التعليمية الثلاث فإنه لا يحتاج أن يبدأ بالآجرومية، إنما يمكن أن يبدأ بالمُلحة، أو قطر الندى، ثم بعد ذلك شذور الذهب، وهو قريب من القطر، ثم بعد ذلك بالألفية، ، وإذا أراد أن يتوسع فعنده مجال للتوسع.

في العقيدة يمكن أن يبدأ بالأصول الثلاثة، كتاب التوحيد، لكن إذا كان يقول: هذه الأشياء أنا درستها، وفهمتها في مراحل التعليم، وحصّلتها، نقول له: عندك الواسطية، والحموية، ثم الطحاوية، ثم التدمرية، ثم بعد ذلك تستطيع أن تتوسع في الكتب الأخرى، وبعض هذه الكتب يغني عن بعضها، لو أراد إنسان أن يقول: أنا أدرس معارج القبول، معارج القبول يغنيه عن دراسة مثلاً الطحاوية مع التوحيد مع الواسطية.

كثرة التأليف هي من المعوقات عن التحصيل، فلو أراد أن يستغرق العمر في دراسة فن واحد ما استطاع من كثرة هذه الكتب.

فالمقصود أن هذا يختلف باختلاف الناس، أنا رأيت بعض من كتب، وقد نصحت بعض المشايخ، وبعض طلبة العلم أن لا يكتب؛ لأن هذا يختلف باختلاف الناس، فهم يتفاوتون، وليس الإنسان مقيداً بدراسة كتاب، وإنما يختلف هذا أيضاً بحسب البلدان، إن كان الإنسان يدرس في بلد على مذهب المالكية، أو الشافعية، أو نحو ذلك، ما نأتي - كما يفعل بعض الإخوان - ونضع له كتاباً في الفقه الحنبلي، ونضع له كتاباً في قواعد الفقه لمؤلف من الحنابلة.

وحتى في أصول الفقه، مع أن الطريقة فيها معروفة، طريقة الأحناف، وطريقة الشافعية، والطريقة التي جمعت بين الطريقتين.

لغير المتخصصين نقول: ليس بلازم أن نقول: ادرس الأصول الثلاثة، وادرس كتاب التوحيد، يمكن للإنسان أن يقرأ سلسلة الدكتور عمر الأشقر في العقيدة، أو السلسلة التي كتبها الشيخ محمد الحَمَد سهلة، وميسرة.

في الفقه يمكن أن يدرس كتاب الملخص الفقهي للفوزان، أو يقرأ من كتاب فقه السنة للسيد سابق.

في الحديث يمكن أن يقرأ من كتاب شرح جوامع الأخبار للسعدي، يمكن أن يقرأ من شرح رياض الصالحين للشيخ العثيمين - رحمه الله - ويقرأ من شرح الشيخ العثيمين - رحمه الله - للأربعين النووية.

في النحو يمكن أن يقرأ في كتاب وضع للموظفين، وللمشغولين اسمه: التذكرة في قواعد اللغة العربية للباشا، هذا الكتاب جميل، وسهل، وإن كان قد رتبه على طريقة غير معهودة، لكنه كتاب جيد، فيه تمرينات، وفيه جمل يُطلَب ترديدها بصوت مرتفع عدة مرات؛ من أجل تحصيل شيء من الملكة في اللسان، وفيه أيضاً تجد قل، ولا تقل، فهو كتاب جيد، كتبه للمشغولين، ويمكن أن نقول لهؤلاء أيضًا: اقرءوا كتاب النحو الواضح للجارم، أمّا أن نقول: تعالوا لابد أن تدرسوا الآجرومية، ثم قطر الندى، أو المُلحة، فهذا كلام غير صحيح.

في أصول الفقه يمكن أن يقرءوا في الواضح في أصول الفقه، من أجل أن يطلع، ويعرف ما هي أصول الفقه، وليس ذلك بلازم، يمكن أن يُستغنى عنه. 

في علوم الحديث مثلاً يمكن أن يقرءوا البيقونية مثلاً، يدرسونها، أو كتاب ابن الملقن.

في علوم القرآن يمكن أن يقرءوا كتاب المباحث في علوم القرآن للقطان، في التفسير يمكن أن يقرءوا التفسير الميسر، أو تفسير السعدي.

على كل حال، هي وجهات نظر، والناس يتفاوتون، وقد جربنا، وحاولنا في كل فن أن نكتب للمتخصصين فيه، فاخترنا سبعة في كل فن ممن عرفوا بالتمهر في الفن، قلنا لهم: اكتبوا لنا الدرجات الثلاث في هذا الفن، أريد برنامجًا يخرِّج العلماء، فلما قرأنا الكتابات التي وضعت في جدول وجدنا أن بعضهم يضع هذا الكتاب في المرحلة الأولى، والآخر يضعه في المرحلة الثالثة، فما استفدنا من تلك الكتابات شيئاً، كنا نريد أن نضع برنامجًا ينزل في الإنترنت، ويوزع، ويقام منه برنامج عملي في التعليم، ويقال: هذا كتبه نخبة في كل فن من أهل الاختصاص، ولكن ما خرجنا بنتيجة، كل واحد له رأي، وبهذا تعرف أن هذه المسألة تقديرية، تختلف فيها وجهات النظر.

ومن هنا أقول: إن الكتابة في هذا تبقى وجهة نظر عند صاحبها، قد يغير رأيه بعد حين.

والذي يكتب هل درس هذه جميعاً في البلاغة، والنحو، وعرف كتب الفن في النحو، وفي الأصول، وفي البلاغة، وفي التجويد، وفي مصطلح الحديث، درس هذه الكتب حتى يقول: هذا هو الأفضل في مادته، وأسلوبه؟ كيف يستطيع أن يقول هذا؟

يصعب أن يأتي إنسان، ويقول: أنا درست هذه الأشياء، ودرست غيرها، واخترتها من بين كتب الفن، هو يتكلم عن تخصصه، لكن التكلم عن جميع التخصصات!.

ولهذا رأيت بعض من يكتب، يضع الكتاب - كما قلت - في المستوى الأول، وبعضهم يضعه في المستوى الثاني، كتاب قواعد التفسير بعضهم وضعه في المستوى الأول، وبعضهم وضعه في المستوى الثالث.

كتاب مناهل العرفان للزرقاني - وليس لي تحقيق في مناهل العرفان للزرقاني، دراسة تقويمية لمناهل العرفان - بعضهم كتب مناهل العرفان للزرقاني في المستوى الثالث، تحقيق: السبت، لا حققته، ولا شيء.

هذا يدل على أنه ما قرأه، ولذلك لا يحسن بالإنسان أن يتطفل على الفنون، ويأتي، ويقول: في كل فن أنا أوجه، وأرشد اقرءوا هذا في الفن الفلاني، واقرءوا هذا، واقرءوا هذا، إنما يُترَك هذا لأهل الاختصاص، وأهل الاختصاص - كما قلت لكم - يختلفون.

 
بين التخصص، والموسوعية

يقول الشعبي - رحمه الله -: "العلم أكثر من أن يحصى، فخذ من كل شيء أحسنه"[1].

ويقول الخليل بن أحمد الفراهيدي - رحمه الله -: "إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفن من العلم، وأن أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه"[2].

يعني: يُقمِّش من العلوم، ولا يكون محققاً في علم منها.

ويقول أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله -: "ما ناظرني رجل قط كان معنيًّا في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد إلا غلبني في علمه ذلك"[3].

ويقول أبو حيان: لا يمكن أن يبلغ الإمامة في العلم من ينظر في الفنون المختلفة[4].

يعني: قد فرق جهده على العلوم المختلفة، يريد أن يكون محصلاً في الفقه، وفي الأصول، وفي التفسير، وفي الحديث، وغير ذلك، كما يقولون: "ازدحام العلوم مظلة للفهوم" مع أنه وُجد من توسع في العلوم، ونبغ في الكثير منها.

يقول الأعمش: كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب لينظر إليها، ذهب إلى حضرموت ليرى بئر برهوت، وذهب إلى بابل إلى،والٍ هناك ليسأله عن هاروت، وماروت[5].

وكان الدارقطني - رحمه الله - إذا ذُكر شيء من العلم وُجد عنده نصيب وافر، ذُكر الأَكَلة في يوم من الأيام، يعني: الذين يأكلون كثيراً، دعي الدارقطني على عشاء، فجلسوا يتحدثون عن الذين يكثرون من الأكل، فاندفع الدارقطني يورد نوادر الأكَلة، حتى قطع أكثر ليلته بذلك[6].

ويقول الشعبي - رحمه الله -: أقل ما أحفظه الشعر، ولو شئتم لحدثتكم شهراً - يعني: يروي الشعر - لا أعيد بيتاً[7].

ويقول الإمام محمد بن عبد الباقي الأنصاري المتوفى سنة: 535هـ عن نفسه: "حفظت القرآن ولي سبع سنين، وما من علم في عالم الله إلا وقد نظرت فيه، حصّلت به بعضه، أو كله، ولمّا أُسر في يوم الروم تعلم منهم اللغة الرومية، والخط الرومي"[8].

ويقول ابن الخشاب النحوي الحنبلي المتوفي سنة: 567 هـ: "إني متقن في ثمانية علوم ما يسألني أحد عن علم منها، ولا أجد لها أهلاً"[9].

ويقول أبو البقاء السبكي المتوفى سنة: 777هـ: "أعرف عشرين علماً، لم يسألني عنها بالقاهرة أحد"[10].

لا تستعجل، وتقول: هذه مبالغة، انظر إلى مثل كتاب "مفتاح السعادة، ومصباح السيادة" لطاش كبري زادة، في ثلاثة مجلدات، ذكر فيه العلوم، وفيه علوم كثيرة جدًّا لم نسمع بها.

وقال محمد بن أبي بكر بن جماعة المتوفى سنة: 819هـ: أعرف خمسة عشر علماً لا يعرف علماء عصري أسماءها[11].

وقال محمد بن أحمد المالكي المتوفى سنة: 842 هـ: أعرف عشرين علماً ما سئلت عن مسألة منها[12].

وكان أحمد بو نافع من المغاربة المتوفى سنة: 1260هـ، يقول: عندي أربعة، وعشرون علماً لم يسألني عنها أحد[13].

والجبرتي والد المؤرخ المعروف صاحب كتاب "عجائب الآثار" يقول عنه ولده المؤرخ، وهو يتكلم عن تفننه في علوم الشرع: اعتكف عشر سنوات، من سنة: 1144هـ إلى 1154هـ، لدراسة العلوم التجريبية من الهندسة، والكيمياء، والفلك، والصنائع الحضارية كلها، حتى النجارة، والخراطة، والحدادة، والسمكرة، والتجليد، والنقش، والموازين، حتى صار بيته زاخراً بكل أداة في صناعة، وكل آلة[14].

وتكلم السيوطي عن نفسه، وقال: ورُزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع[15] ولذلك قام عليه علماء عصره، وشنوا عليه هجمة شعواء، وتكلموا في حقه كثيراً كما هو معروف.

وعلى كل حال، من الناحية العملية الواقعية نقول: يصعب جدًّا على الإنسان أن يكون محققاً في علوم شتى - يعني: كالمتخصص - أمّا أن يكون عند الإنسان إلمام في هذا، وفي هذا، لكن إذا جلس عند المتخصصين فإنهم يفوقونه فهذا ممكن، لكن أن يكون محرراً محققاً في علوم مختلفة هذا أمر يصعب جدًّا من الناحية الواقعية، لاسيما في زماننا هذا على تقاصر الهمم، وقلة العلماء الذين يؤخذ عنهم.

فينبغي للإنسان أن يكون واقعيًّا، فيلم من كل علم بطرف، ويتخصص في فن واحد، وهذا كما يقول بعض الظرفاء من المصريين: "خذ من كل شيء شيئاً، ومن شيء كلَّ شيء" يعني: خذ من كل علم بطرف، بحيث يرفع عنك الأمية في هذا العلم.

كما قال يحيى بن مجاهد الزاهد: "كنت آخذ من كل علم طرفاً، فإن سماع الإنسان قوماً يتحدثون، وهو لا يدري ما يقولون غمة عظيمة"[16].

ويقول ابن الجوزي - رحمه الله - عن بعض أحوال المشتغلين بالعلم مما لا دراية لهم بغير فنهم: "أدركنا من قرأ الحديث ستين سنة، فدخل عليه رجل، فسأله عن مسألة في الصلاة، فلم يدرِ ما يقول، وأدركنا من برع في علوم الفقه، فكان إذا سئل عن حديث لا يدري ما يقول، وأدركنا من برع في التفسير، فقال رجل يوماً: إني أدركت ركعة من صلاة الجمعة، فأضفت إليها أخرى، فما تقول؟ فسبه، ولامه على تخلفه، وأدركنا من برع في علوم القراءات، فكان إذا سئل عن مسائله يقول: عليك بفلان"[17].

فهذا أمر لا يحسن، ولا يجمل بالعالم، وهذا موجود، فتجد المتخصص في أصول الفقه يذكر الأحاديث الضعيفة، وإذا سئل عن مسألة فقهية تجده لا بصر له إطلاقاً، هو من العامة في الفقه، هذا أمر لا يحسن.

وهكذا تجد المتخصص في التفسير لا يعرف أن يخرج حديثاً، ولا يميز بين الصحيح، والضعيف، وهذا أمر لا يليق، وإنما يكون عنده شيء من البصر في العلوم المختلفة، ولكنه يتخصص في علم، أو علمين كلٌّ بحسب ما أعطاه الله من القدرات، نحن نشاهد في عصرنا الحاضر من العلماء من برع في أكثر من علم.

لو نظرت للشيح محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في العلوم العربية، في التفسير، في أصول الفقه، وله مشاركة قوية، وجيدة في الفقه، وفي الحديث، وفي علوم أخرى كالمنطق، وغيره، هذا موجود.

وقد تكلم ابن عاشور - رحمه الله - على سبب الإقبال على الدراسة الموسوعية - يريد أن يكون عالماً في كل فن - وله في ذلك وجهة نظر، هو يرى أنه لما دخلت الفلسفة على المسلمين - والعلوم الفلسفية مترابطة - وأقبل عليها من أقبل كالغزالي، وغيره، تأثروا بذلك، فأرادوا محاكاة ما عرفوه بالفلسفة، فصار الواحد منهم يريد أن يكون محققاً في علوم شتى، فتجد العالم يريد أن يكون فقيهاً، أصوليًّا، نحويًّا، أديباً، شاعراً، وبهذه الطريقة اضمحلت صفة الاختصاص العلمي، والإمامة في علم معين، وهذا أضر العلم بانصراف طلبته عن تحقيق العلوم، حتى إن من يكون في طبعه الميل إلى التحقيق إذا جمع بين التحقيق، والمشاركة توزعت مواهبه؛ لأنه يطلب المشاركة، والبحث في جميعها، وبالضرورة يقتنع من كل علم[18].

يعني: بشيء قليل لا يكون به محرراً، ولا محققاً.

وإذا أراد الإنسان أن يتخصص، هذا التخصص ما يأتي في البداية، هو كما قلنا: يدرس متناً مختصراً في كل فن، لكن هل يحتاج أن يدرس في النحو ثلاثة كتب، والمصطلح ثلاثة كتب، وفي الأصول ثلاثة كتب على مستويات مختلفة ؟ الجواب: لا .

مرحلة التخصص عندنا لو نظرتم إلى الكليات الشرعية مثلاً تجد عندنا كلية أصول الدين تُعنَى بأصول الدين: القرآن، وعلومه، الحديث، وعلومه، والعقيدة.

تجد كلية الشريعة تُعنَى بالفقه، وما يحتف به، ويتصل من الأصول، والقواعد، وما إلى ذلك.

فهذا نوع تخصص في الواقع، وهناك تخصص أدق من هذا، قد يتخصص الإنسان في القواعد الفقهية فقط، أو في أصول الفقه.

وهناك من ينادي أيضاً بالتخصص بجزئية من هذه، يقول مثلاً: يتخصص في باب القياس فقط، بل يمكن أن يتخصص فيما يتعلق بطرق استخراج العلة في القياس، نقول: هذا فيه مبالغة، يمكن أن يكتب فيه بحوثًا، أو رسالة، أو نحو هذا، لكن أن يكون هذا فقط هو الذي يدرسه، ويدندن حوله، لا، هذا يمكن أن يكون في الطب، يتخصص في العظام، وفي عظم واحد، يمكن أن يتخصص في عصب واحد، لا إشكال، ويُحتاج إلى هذا، لكن العلوم الشرعية مترابطة، إنسان يقضي العمر - كما يفعل بعضهم - على حرف من حروف المعاني، متى سيدرس باقي حروف المعاني؟ متى سيدرس اللغة؟ متى سيدرس النحو؟  

إذا أراد أن يتخصص بماذا يبدأ؟

بعض العلماء - رحمهم الله - كانوا يوصون ببعض الفنون، الشافعي - رحمه الله - يوصي يونس بن عبد الأعلى، ويقول له: عليك بالفقه، فإنه كالتفاح الشامي يَحمِلُ مِن عامِه[19].

بمعنى أن الفقه إذا درست مسائله، مجرد ما تدرس المسائل مباشرة صار عندك بصر فيها، تعرف حكم هذا كذا، وحكم هذا كذا، لكن حينما تدرس أصول الفقه، أو تدرس التفسير تحتاج إلى مدة طويلة حتى يظهر أثرها بعد حين، أمّا الفقه فكل مسألة يدرسها الآن صار في باب الطهارة ما شاء الله، وصار في باب الصلاة له بصر فيه.

والخطيب البغدادي - رحمه الله - يقول: "إن العلوم هي أبازير الفقه - أبازير مثلما نقول: بهارات - وليس دون الفقه علم، وإلا صاحبه يحتاج إلى دون - أقل - ما يحتاج إليه الفقيه؛ لأن الفقيه يحتاج إلى أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا، والآخرة، وإلى معرفة الجد، والهزل، والعادات المعروفة منهم"[20].

ويوصي ابن الجوزي بالفقه، فيقول: إن الفقه عليه مدار العلوم، فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه[21].

ولكن لو قيل غير هذا، لو قيل: كل إنسان بحسب ميوله، لأن الإنسان يمكن أن يبدع إذا عنده رغبة في فن من الفنون، وهذا لا نقوله في العلوم الشرعية فقط، لو جاء إنسان، وقال: أنا في العلوم الشرعية لا أصلح، أنا لا أفهم، وإذا حضرت مجالس العلم أحضر بالبركة، لكن هات الرياضيات أبدع فيها، نقول: تخصص بالرياضيات، ولا تنقطع من مجالس العلم.

يقول: أنا رغبتي كلها بالطب، وفي العلوم الشرعية رغبتي ضعيفة، وفهمي ضعيف، نقول له: ادرس الطب، ولا تنقطع من العلم الشرعي، لكن لا تحلم أحلام اليقظة أنك ستكون عالماً بالعلوم الشرعية، لا يمكن هذا.

وهكذا أيضاً الذين يدرسون في العلوم الشرعية، يقول: لماذا أتخصص؟ نقول: من الخطأ - لاسيما في الدراسة النظامية الآن في مرحلة الماجستير، والدكتوراه - دخول الإنسان في مجال لا رغبة له فيه، حتى الجامعة، لكن لأنه قُبل في هذا المجال، هذا لا يبدع، أو أن والده هو الذي أرغمه على ذلك، هذا لا يبدع.

إنما يدخل في المجال الذي يرى أنه يستطيع أن يبدع فيه، ويجد رغبته فيه، إنْ وجدت هذه الرغبة فإنها تدفعه دفعاً تلقائيًّا، تكون عنده رغبة جامحة قوية، فيحصِّل من العلم، وتكون نفسه مستشرفة لمزيد من التحصيل. 

  1.  تهذيب الكمال في أسماء الرجال (14/38).
  2.  جامع بيان العلم، وفضله (1/522). 
  3.  المصدر السابق (1/523).
  4.  الآداب الشرعية، والمنح المرعية (2/125).
  5.  حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (3/288).
  6.  تذكرة الحفاظ (3/133).
  7.  سير أعلام النبلاء (4/302).
  8.  شذرات الذهب في أخبار من ذهب (6/178).
  9.  ذيل طبقات الحنابلة (2/247).
  10.  شذرات الذهب في أخبار من ذهب (8/438).
  11.  البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (1/88).
  12.  المصدر السابق (2/113). 
  13.  فهرس الفهارس (1/124).
  14.  تاريخ الجبرتي (1/397).
  15.  حسن المحاضرة في تاريخ مصر، والقاهرة (1/338).
  16.  رسائل ابن حزم (4/72).
  17.  الآداب الشرعية، والمنح المرعية (2/ 124).
  18.  أليس الصبح بقريب، ص: (105).
  19.  الآداب الشرعية، والمنح المرعية (2/125).
  20.  الفقيه، والمتفقه للخطيب البغدادي (2/333).
  21.  الآداب الشرعية، والمنح المرعية (2/123).
بين التعليم المباشر، والتعليم بالوسائط

لا شك أن لقاء الشيوخ، والجلوس بين أيديهم أنه كمال من الكمالات، وذلك كما يقول ابن خلدون، والخطيب البغدادي، والشاطبي: إن الإنسان حينما يذهب، ويرحل إلى أهل العلم، ويجلس بين أيديهم، فإن ذلك يؤثر في سلوكه، وأخلاقه، وهديه، وسمته، ودَلّه، وطريقة التعليم، وينفتح له بين يدي الشيوخ من مغاليق العلم ما لا يخطر له على بال.

هذه المسألة قد يقرؤها الإنسان، ولا تتبين له، فإذا جلس متواضعاً بين يدي الشيخ فإنه يُفتح عليه - كما يقول الشاطبي - ذلك المنغلق ببركة تلك المجالس، لا شك أن الجلوس بين يدي الشيوخ هي تربية، وتعليم في آن واحد؛ لأنه يستفيد منهم الهدي، والسمت، وطريقة التعليم، ويستفيد منهم العلم، ويأخذ العلم من أفواههم شيئاً فشيئاً، حتى تحصل له الملكة، والدربة، والطبع لص كما قيل، الطبع سراق، الإنسان يتأثر بمن يراهم، ويشاهدهم، فكيف بمن يتلقى عنهم العلم؟ ولهذا يقال: ينبغي للإنسان أن يتخير الشيوخ الذين يتلقى عنهم العلم.

وأما إذا كان الإنسان يتلقى من الكتب - كما هو مشاهد - فإنه يحفظ بتصحيف، وتحريف، ولربما لا يفهم الكثير من المسائل على وجهها الصحيح.

وكذلك أيضاً يحصل لهذا الإنسان من الآفات، والأدواء ما لا يخطر على بال: الغرور، الكبر، يحصل له من العجب بنفسه، كما يقول بعضهم عن نفسه: أنا في مدة وجيزة حصّلت علم سنين، في أشهر، من الكتب، لم يجلس على يد الشيوخ، ثم ماذا؟ هؤلاء تلاشوا، انتهوا، أنا أحدثكم عن سنين يمر بها جموع من طلبة العلم، وترى أشياء، وغرائب، وعجائب، وآفات، ولكن هؤلاء تجد الواحد منهم لربما معجباً بما حصله، وبما حفظه، وما درسه، وما قرأه، ثم ما يلبث أن يتلاشى ذلك جميعاً.

ولهذا كان الإمام الشاطبي - رحمه الله - يقول: إن كتاب الموافقات لا أبيح لأحد أن يقرأه، إلا ممن تربى على يد الشيوخ.

والعلماء الربانيون إنما يتخرجون من مجالس العلم، ومن حِلق العلم، أما الإنسان الذي لا يعرف هذا فلربما يكون عنده من الأنفة، والكبر، والأدواء، والأمراض ما لا يُقادَر قدره.

فإذا جاء طالب يردّ عليه أثناء الدرس، في مدرسة، أو في كلية، أو نحو ذلك، ويصحح له، وهماً، أو نحو ذلك فلا تسأل عن ضجره، وغضبه، وحاله، وتغيره.

يقول الإمام أحمد - رحمه الله - : إنما الناس بشيوخهم، فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش؟[1].

وابن جماعة - رحمه الله - يحذر من أن ينظر الإنسان إلى نفسه بعين الجمال، والاستغناء عن المشايخ، فإن ذلك عين الجهل، وقلة المعرفة، وما يفوته أكثر مما حصله[2].

العلماء عباراتهم كثيرة جدًّا في هذا المعنى، وهم من خبروا العلم، وخبروا الناس، وأنت تشاهد إذا كان الإنسان موفقًا لحضور مجالس العلم، تشاهد الفرق بين حاله حينما كان منقطعًا عنها، وبين حاله لمّا كان يحضر.

لكن نقول: إذا ما تيسر، أو الدروس الموجودة هذه التي عبناها في أول الكلام، التي تكون في يوم واحد في الأسبوع، نقول: لا تنقطع، احضر.

لكن كيف توفي ما بقي؟ نقول: الأمور متيسرة الآن، إنسان يقول: أنا أعيش في مكان بعيد، ما عندنا شيوخ، أعيش في قرية، أو في بلد بعيد، أو في أقليات إسلامية، أو نحو هذا، نقول: افتح الإنترنت الآن، وتستطيع أن تسمع، وتستطيع أن تسأل، وتستفيد.

فنقول للإنسان الذي لا يتوفر له الجلوس على يد الشيوخ، أو توجد دروس قليلة يوم في الأسبوع: احضر هذا اليوم، واسمع الأشرطة، توجد الآن أشرطة السيديهات، وهي رخيصة، في السيدي نحو ما يقرب من سبعين، أو ثمانين ساعة صوتية، بخمسة ريالات، وبعضها بريال، هذه سُجلت، وتُعب في تسجيلها، ويمكن للإنسان أن يجعل لنفسه برنامجاً، هذا الشيخ من أين يشرح؟ يشرح من الطهارة، متى سيصل إن شاء الله - على طريقة يوم في الأسبوع - للمعاملات، إن شاء الله سيصل بعد ثلاثين سنة على طريقته هذه، من الآن أبدأ في المعاملات، كل يوم على هذه الأشرطة، ودفتر للفقه، أكتب فيه المسألة التي ما فهمتها، أكتب السطر، العبارة، ما أتركها، أقول: صفحة كذا، لا، أكتبها، وأسجلها، وأترك فراغاً للجواب، وهكذا أجمِّع.

المصطلح مثلا ما وجدتَ من يدرسك فيه، ابدأ في هذه الأشرطة شرح البيقونية، شرح النخبة، وسجل هذه الأسئلة، ثم بعد ذلك تستطيع أن تسافر في وقت أجازة، أو غير ذلك، تجد أحد الشيوخ من المتخصصين ما تحتاج إلى عملية عصف ذهني، حتى تستخلص سؤالاً تسأل عنه هذا الشيخ، الدفتر موجود، تخرج هذا الدفتر، وتسأل، وتكتب الجواب، ويمكن أن تخصص وقتاً لك مع هذا الشيخ، المشايخ يأتون للدورات العلمية، تقول: أريد منك بعض الوقت بعد الفجر، بعد العصر، الوقت الذي تختار، ثم تذهب إليه، وتطرح عليه هذه الأسئلة، وتحضر معك الكتاب، وهكذا.

فيستطيع الإنسان أن يحصِّل بهذه الطريقة بإذن الله  ويسأل عما أشكل عليه، ولهذا نحن نقول للشباب الذين يذهبون إلى الكليات الشرعية، وما درسوا في المعاهد العلمية، يذهب مباشرة لكلية شرعية، يدرس كتاب أوضح المسالك في النحو، وطلاب المعهد درسوا شرح ابن عقيل، وهو كتاب تعليمي مبسط على ألفية ابن مالك.

ودرسوا في العقيدة الواسطية، والحموية، وكتاب التوحيد، يذهب إلى الجامعة يدرس الطحاوية، والتدمرية مباشرة.

في أصول الفقه ما درس شيئاً، مباشرة روضة الناظر، ثم يبقى في غصة، هذا شيء مشاهد، هؤلاء الطلاب نبدأ نوجههم إلى الترقيع، نقول: بسرعة حالة طوارئ، يقول: أنا ما أفهم شيئًا في النحو، نقول له: الآجرومية سريعة الآن، اجلس عليها أسبوعًا.

ولذلك هذه الدورات التي نقيمها هنا من لزمها، وحضرها، وفهمها فإنه يستطيع أن يذهب إلى الجامعة، وهو مستريح، أو من درس في المعاهد العلمية في المتوسط، والثانوي، فهي مرقاة للجامعة، يستطيع أن يدرس دروس الجامعة، وقد فُصلت تفصيلاً مناسباً لها، لكن أكثر الناس لا يذهبون إلى المعاهد العلمية عندنا على الأقل، أو في بلاد أخرى، ماذا يفعلون؟

نقول لهم: هيئ نفسك، ادرس هذه المتون المختصرة، قبل أن تذهب إلى الكلية الشرعية؛ لأنه يفترض فيمن جاء إليها أنه درس في معاهدها، فتهيأ لدراسة المرحلة الثالثة، فالشباب الذين يأتون من الثانوي، ويلتحقون بالشريعة مثلاً هم في الواقع يدرسون في المرحلة النهائية، ولهذا لماذا يسمى التعليم الثانوي؟ هو فوق المتوسط، وفوق الابتدائي، فما بعده إلا العالي، يعني: المستوى الأخير، المستوى الثالث. 

  1.  المصدر السابق (2/146).
  2.  تذكرة السامع، والمتكلم في أدب العالم، والمتعلم (ص: 54).
كيف  نختار المعلم؟

إذا كان عند الإنسان خيارات فإنه يحرص أن يتخير من أهل العلم من كان متصفًا بالعلم، والورع، والسمت، والهدي؛ لأنه سيتأثر به بلا مرية، الإنسان المجانب للبدع، والأهواء، لا يُنسب إلى شيء من ذلك، ويعمل بعلمه، كما قال الخطيب البغدادي: ينبغي للمتعلم أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة، وعرف بالستر، والصيانة[1].

هذا إذا تيسر، لكن أحياناً ما يتيسر له هذا، ماذا يفعل؟ ما يجد النحو إلا عند إنسان لا يظهر عليه سيما التدين، لا يجد الأصول إلا عند إنسان لا يظهر عليه سيما التدين، نقول: ادرس عنده، لكن لا يدرس على داعية للبدع، والأهواء، ولو لم يجد غيره، عندك في الإنترنت الأشرطة، تقرأ في الكتب، تسافر في طلب العلم.

لكن ينبغي أن نعي جيداً هنا في الكلام على اختيار الشيوخ أن الإنسان لا يبحث عن أهل الشهرة من أهل العلم، كما يفعله بعض طلبة العلم.

ليست العبرة بالشهرة، إنما العبرة بالتحقق في العلم، أن يكون الإنسان له بصر في هذا العلم، ومعرفة فيه، فهذا هو المطلوب، وما عدا ذلك الشهرة ليست بشرط، فيذهب الإنسان إلى من يستفيد منه، ويشرح له بطريقة واضحة، والمشاهير في الغالب هم أكثر الناس شغلاً، وقد لا يوفر لك من الوقت ما تحتاج إليه، لكن قد تذهب إلى إنسان خامل الذكر، ليس بمشهور، يعطيك أوقاتاً طويلة، تستطيع أن تقرأ عليه في كل يوم، وهذا شيء مشاهد.

لا يطلب الصيت - أن يكون الإنسان مشهوراً - والعلماء لهم عبارات كثيرة في هذا أعرضت عنها.

قبل أن يبدأ في الدراسة على شيخ ينبغي ألا يستعجل، يشاور من عرفوا، وخبروا، ولا يشاور أقرانه، تريد أن تدرس في كلية شرعية، تبحث عن شيخ له بصر، تقول: هذه الكلية، ما الذي يُدرس فيها؟ ما هي الجوانب التي أحتاج إلى تكميلها في مكان آخر؟

فيقول لك: هذه الكلية توفر لك كذا، وكذا، وكذا، ما الجوانب التي أحتاج إليها إن كان عندي زيادة وقت؟ الجانب الفلاني، هذا إذاً هو الذي أدرسه.

ما أذهب، وألتحق بالحِلق بحسب ما يتاح، ويوجد منها، ويكون فيها تكرار لبعض الكتب، فهذا غير صحيح.

وكثير من الناس يذهب هنا، وينقطع، ويذهب هنا، وينقطع، حتى يصاب بداء الملل، لا ينهي كتاباً، ولا يستمر عند شيخ، ولهذا لا يحسن، إنما ينبغي على الإنسان أن لا يستعجل، يذهب، ويحضر، ويسأل، ثم يحضر، ويستمع، وينظر في هذا الدرس، هل مستوى الدرس مناسب له، أو لا؟.  

ما يأتي متحمساً، ويتعرف على الشيخ، ويقول: أنا أريد أن أدرس عندك، ويجلس بين يديه، ويجلس في الصف الأول، ثم بعد ثلاثة أيام لا يرى، هذا غير لائق، وإنما يأتي في طرف الحلقة، ويستمع.

ويمكن للطالب الذي يريد أن يسجل في الكلية الشرعية، وما يعرف أي قسم يدخل، في كلية الحديث، أو كلية القرآن، أو في كلية الشريعة، يمكن له أن يأتي، ويحضر بعض المحاضرات هنا، وبعض المحاضرات هنا، ويسأل الشيوخ، ومن تخرجوا أيضاً من أهل العلم من هذه الكلية، أو تلك.

فإذا ظفر بالشيخ فإنه يلازمه، ولا ينقطع حتى ينهي ذلك الفن، أو الكتاب عليه، ويتلطف به، أحياناً لا يوفق الطالب إلى طريقة، فيختزن العالم عنه علمه، أو كثيراً من علمه، كان أبو سلمة يماري ابن عباس، فحرم بذلك علماً كثيراً، يقول: "لو رفقت به لاستخرجت منه علماً كثيراً"[2].

ويقول ابن جريج: "لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به"[3].

ويقول شعبة: "كل من سمعت منه حديثاً فأنا له عبد"[4].

ويقول ميمون بن مهران: "لا تمارِ من هو أعلم منك، فإذا فعلت ذلك خزن عنك علمه، ولم يضره ما قلت شيئاً"[5].

ولذلك بعض الناس لربما يشتطًّ، ويتحمس، وينفعل، ويجادل في كل قضية ترد في الدرس، الأمثلة يجادل عليها، أحياناً أشياء تستطيع أن تفوتها، غير مقتنع فيها فوتها، لا، نريد أن نوقفه على الحق فيها، فهذا يسبب ضياع، وفوات الكثير من العلم. 

  1.  الفقيه، والمتفقه للخطيب البغدادي (2/191).
  2.  سير أعلام النبلاء (4/288).
  3.  جامع بيان العلم، وفضله (1/ 423). 
  4.  المصدر السابق (1/512).
  5.  المصدر السابق (1/517). 
كيف يثبت العلم؟

سئل بعض الحكماء: ما السبب الذي ينال به العلم؟قال: بالحرص عليه يُتَّبع، وبالحب له يُستمع، وبالفراغ له يَجتمع[1].

يأتي طالب العلم، ويحضر الدرس، وبالطريقة التي ذكرتها سابقاً، وهذه جربها علماء، كابن بدران - رحمه الله - ولهذا يقول: ما احتجت أكثر من خمس سنوات في الجلوس بين يدي الشيوخ[2].

يدرس هذا المتن، ويراجع، ويحفظ، ثم بعد ذلك يأتي للدرس الآخر، وقد ضبط الدرس السابق، ولا ينسى ما درسه، ويُغفل ذلك، فإن هذا ليس من شأن طلاب العلم.

وهناك علوم تحتاج إلى تمارين، يعني: مثل النحو يحتاج إلى تدريب، يحتاج إلى سؤال، وجواب، ويحتاج إلى تطبيقات.

ولهذا يقول ابن عاشور: من أسباب ضعف التحصيل: إهمال التمرين، والعمل بالمعلومات، كما هي الغاية من كل علم، يقول: نجد علوماً تدرس، وكتباً تختم، ولم نرَ فيمن نحادث، أو من نجالس فصيح لسان، وبليغ بيان.

يقول: يقرأ الناس علم البلاغة، وعلم الأصول، وعلم النحو، فلا نرى من يجتنب اللحن في قوله، ودرسه، ولا من يشعر بالمقاصد البلاغية، فينطق بها، أو يفهمها، ولا من يرجح في مسائل الخلاف، وما سبب ذلك إلا أنهم إنما حصّلوا ألفاظًا متحجرة اصطلحوا أن يسموها علماً، وهم يدرسونها، وما يشعرون بعنوانها، وغايتها، والقصد منها، يقول: وإذا وُجدت تمرينات، فهي تمرينات سطحية[3].

فالنحو مثلاً يحتاج إلى تطبيقات، نصف الدرس يكون في التطبيقات، تجد الإنسان يدرس الكتب، ويحفظ المتون، ومع ذلك يلحن، ولا يحسن النحو.

كما أنه يحتاج إلى المذاكرة في كل العلوم، المذاكرة مع الأقران، مع الطلاب يتطارحون المسائل، ويتذاكرون، ويتناقشون المسألة الفلانية، ما الدليل عليها؟ ما درجة هذا الحديث مثلاً؟ ماذا يرِد عليه؟ بم احتج المخالف؟

وكان الزهري - رحمه الله - يرجع إلى منزله، وقد سمع حديثاً كثيراً، فيعيده على جارية له من أوله إلى آخره، كما سمعه، ويقول لها: إنما أردت أن أحفظه[4].

يمكن للإنسان أن يذاكر مع زوجته، يعيد ذلك على أهل بيته، بطريقة مبسطة، يمكن أن يرجع إلى مسجده، فيطرح عليهم المسائل الفقهية التي درسها، أو مسائل العقيدة، أو نحو ذلك، بطريقة مبسطة، فهذا أدعى إلى ثبوت العلم.

وهذا إسماعيل بن رجاء كان يجمع صبيان الكتاب فيحدثهم لئلا ينسى حديثه[5].

يقول إبراهيم: إذا سمعتَ حديثًا فحدث حين تسمعه، ولو أن تحدث من لا يشتهيه، وإنه يكون كالكتاب في صدرك[6].

وقال ابن عبد البر: أما الفقه فلا يوصَل إليه، ولا يُنال أبداً، دون تناظر فيه، وتفهم له[7].

ويقول سعيد بن عبد العزيز: إن عطاء الخرساني كان إذا لم يجد أحداً أتى المساكين فحدثهم، يريد بذلك الحفظ[8].

وذكر الزرنوجي في كتاب له في التعلم، والتعليم أن فائدة المطارحة، والمناظرة أقوى من فائدة مجرد التكرار؛ لأن فيها تكراراً، وزيادة[9].

وقد قيل: "تحاوُر ساعة خير من تكرار شهر" هكذا يوصي أهل العلم كما قال ابن جماعة.

يتذاكر طلاب العلم ما درسوه في مجلس العلم، لكن للأسف اليوم يذهب كل إنسان في سبيله، لكن أقول: يمكن للإنسان، ولو بالتليفون أن يحدد بعض الوقت مع أحد أصحابه، ويكون من النابهين، من الجادين في طلب العلم، ويذاكر معه.

وكذلك أيضاً العمل بالعلم يثبته.

وكذلك التكرار، وسبق أن ذكرنا لكم عن بعض أهل العلم: الكافيجي، لماذا قيل له الكافيجي؟ لكثرة اشتغاله بالكافية لابن الحاجب.

فكانوا لربما درسوا الكتاب عشرات المرات، بل مئات المرات، فيثبت عندهم، وأنا أقول للإخوان من المعلمين: اعتبروا بأنفسكم، الذي درّس التجويد، المستوى الفلاني من التجويد، المستوى الأول، أو المستوى الثاني، ونحو ذلك، أو درّس الفقه لأولى ثانوي، أو لثاني ثانوي، أو كتاب التوحيد، درّسه ثماني سنوات، ماذا يجد؟ يجد أنه تشربه تشرباً تامًّا، ولا يحتاج أن يحضِّر، هو حافظ، لماذا ؟ لكثرة التكرار.

الشيخ عبد الله الجبرين - رحمه الله - أحد المرات لما جاء هنا في درس الفقه، وهو واقف، قبل أن يجلس على الكرسي قال ما هو الباب؟ قلت له: النكاح، جلس، وسرد أبياتًا في أسماء النكاح، ومعنى كل اسم، وذكر أشياء لو حضّر إنسان أياماً لربما لم يلم بها، لماذا كان بهذه المثابة؟ هذا الرجل جلس عقوداً متطاولة، وهو يكرر دراسة، وتعليماً، مرة بعد مرة، حتى تشرّب هذه الأشياء، فلا يحتاج إلى مزيد مذاكرة فيها.

اعتبر هذا فيما تدرِّسه أنت في المدرسة، وقس على ذلك سائر العلوم، المشكلة أننا نقرأ مرة، وفقط، هي النهاية.

الآن هذا الكأس من الماء لو تركناه في الشمس لعوامل التعرية، من الهواء، وغيره، وجئنا بعد سنة كاملة، هل سنجد فيه ماء؟ الجواب: لا ، أين يذهب الماء ؟ يتبخر، الآن لو صببنا ماء على هذه الطاولة، وجئنا في الغد هل سنجد الماء؟ لا، سيتبخر.

فنحن عوامل التعرية عندنا كثيرة من الأشغال، والهموم الطارئة، والمزعجات، وما إلى ذلك، وطبيعة ذهن الإنسان، فيتبخر العلم، فإذا كان هذا الكأس مثقوباً فإنه سينتهي، ويتلاشى ما فيه لا محالة، فإذا كنت تصب فيه، وتُكثر هذا الماء، فإنك إن صببت فيه أكثر مما ينقص - ما يخرج منه - فإنه يزيد، وإذا كنت تضع فيه بقدر ما ينقص - بقدر ما يخرج منه - فسيبقى متماسكاً، وإذا كنت تضع أقل فإنه سيكون في تناقص، فإن كنت لا تعوضه شيئاً فإنه سيجف.

ولذلك تجد بعض الناس ربما يلي ألوان الولايات الشرعية، ويحصل رتبًا في رئاسات، وأعمال، ووظائف، تستغرب كيف حصلها، وإذا تكلم كأنه عامي، هذا كان هو الأول على دفعته في أيام الدراسة، كان متفوقاً، ولكنه شغل بأعمال القضاء، وغيره، شغل عن العلم فتلاشى العلم، وصار بهذه المثابة، وإلا فقد كان من الأذكياء النابغين، وهذا شيء نشاهده.

فالشاهد أن هذه أمور لابد من مراعاتها، وقد قيل: 

إِذا لم يذاكر ذو العلومِ بعلمِه ولم يستزدْ علماً نسي ما تَعلّما
فكم جامعٍ للكتبِ في كل مذهبٍ يزيدُ مع الأيامِ في جمعِه عَمَ[10]

وينبغي أن يتخير من الزملاء من يكون عالي الهمة، صاحب ديانة، صاحب ذكاء، صاحب نزاهة، وخلق حسن، فهذا كما قيل:

لا تصحب الكسلانَ في حالاته *** كم صالحٍ  بفساد آخرَ يفسدُ

عدوى البليد إلى الجليد سريعةٌ *** كالجمر يوضع في الرماد فيخمدُ

وهذا شيء مشاهد، إنسان صاحب ناسًا من الكسالى، من البطالين، فيثبطونه، فيقولون: ما أخذها إلا أنت؟ ويستهزئون به، ويقولون: هيا نخرج لمطعم، وتصير الصناعة هي الأكل، والشرب، والنوم، والتجول، فيشغلونه عن العلم.

وهكذا يحتاج الإنسان إلى أن يبذل ما عنده من جهد، كما قال يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسم[11].

وقد قيل:

تريدين إدراكَ المعالي رخيصةً ***، ولابد دون الشهد من إبرِ النحلِ

وقيل:

لا تحسب المجدَ تمراً أنت آكلُه *** لن تبلغ المجد حتى تلعقَ الصبرا

وقد قيل: "من كانت بدايته محرقة، كانت نهايته مشرقة"، ويحتاج أيضًا إلى متابعة، ما يحصل فتور، وانقطاع له، هذا الفتور، والانقطاع كما يذكر أهل العلم يسبب له نسيان ما تعلمه.

ولهذا نقول: من آفات الدروس هذه المتقطعة التي تكون يومًا في الأسبوع، وتنقطع في الأجازات أن الطلاب يكونون قد نسوا، وضعفت هممهم، وتلاشى ما حصلوه، إلا ما شاء الله.

وهكذا بذل العلم للناس، ولذلك تجد أعلم أهل الزمان في عصرنا هذا ممن نعرف في بلادنا الشيخ العثيمين، والشيخ ابن باز - رحمهم الله - وهم أكثر الناس بذلاً للعلم، تجد عند الواحد منهم الدروس الكثيرة في اليوم الواحد.

الشيخ ابن باز - رحمه الله - يقول الشيخ محمد الموسى - وهو مدير مكتبه في بيته - : كنت أقول له: يا شيخ، لم تعطني وقتاً لأقرأ عليك في كتاب، قال: اقرأ عليّ، وأنا أتوضأ، ما عنده أي وقت، كل الوقت يُقرأ عليه فيه، اقرأ عليّ، وأنا أتوضأ.

ونحن كم عندنا من الأوقات؟ كم ننام؟ كم نأكل؟ الأكل كم يأخذ علينا؟.

هؤلاء الذين يبذلون العلم يبارك لهم في ذلك، ويكونون هم الأكثر علماً، تصور إنسانًا مثل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حينما مات، كم بلغ من العمر؟ جاوز التسعين، أليس كذلك؟ افترض أنه ما بدأ يطلب العلم إلا بعد العشرين، ألا يكفي أن يُقرأ على الإنسان في مدة لربما تقارب السبعين سنة، يُقرأ عليه في اليوم لربما أكثر من خمسة دروس.

في الجامعة الإسلامية حينما كان مديراً لها، كان إذا غاب أحد من الشيوخ، أو سافر، أو نحو ذلك يأتي الشيخ، ويسد المكان، ويدرسهم، وهو الرئيس، فأعمارهم في العلم، فهم أكثر الناس بذلاً، ولذلك صاروا أكثر الناس علماً.

يقول ابن القيم - رحمه الله - : "العالم كلما بذل علمه للناس، وأنفق منه تفجرت ينابيع، فازداد كثرة، وقوة، وظهوراً، فيكتسب بتعليمه حفظ ما علمه، ويحصل له به علم ما لم يكن عنده، وربما تكون المسألة في نفسه غير مكشوفة، ولا خارجة من حيز الإشكال، فإذا تكلم بها، وعلّمها اتضحت له، وأضاءت، وانفتحت له علوم أخرى"[12].

وهو شيء مشاهد، مع مراعاة الأمور التي تقوي الذاكرة، تقوي الحفظ، العلماء يتكلمون على أكل الزبيب، ويتكلمون أيضاً عن مضغ اللبان، وشرب العسل، مع اجتناب الأشياء التي تسبب ضعف الذاكرة.

فكانوا يرون أن أكل التفاح الحامض، والباقلا، وشرب الخل، واللبن الحامض بالذات، كل هذه الأشياء تسبب ضعف الحافظة.

يقول الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - عن والده: كان إذا رأى معنا اللبن الحامض انتزعه بشدة، وغضب؛ لأن ذلك يسبب ضعف الذاكرة، أو ضعف الحفظ.

وهكذا أيضاً أن يصبر الإنسان على الجلوس في مجالس العلم - ولا يكون شيء إلا بالصبر - ويتوقى القواطع، والموانع، والصوارف.

هذه القواطع، والصوارف كثيرة جدًّا، أحياناً يكون الإنسان له رغبة في العلم الشرعي، في مرحلة المتوسط، والثانوي أقبل على العلم، وعلى الدروس، إذا أراد أن يسجل في الجامعة قال: أريد أن أذهب إلى كلية شرعية، قال أهله: هيهات، عجباً! لماذا؟ يقولون له: تريد الذهاب إلى كلية شرعية؟ احضر درسًا في المسجد.

هم لا يفهمون العلم الشرعي، ولا يعرفون قدره، فيرون أنه يدرس في كلية في علوم طبيعية، أو علوم نحو ذلك، من أجل الوظائف، أو نحو ذلك، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، وأجلها.

وأين هذا الذي يتخرج في علوم طبيعية، وغيرها، ويحصل، وظيفة بخمسة آلاف ريال من عالم يكون شمساً على مر القرون؟

تصور لو كان الشيخ عبد العزيز بن باز مدرساً، أو موظفاً في شركة، أو تخرج من كلية بهذه التخصصات، ولم يشتغل بالعلم الشرعي، قال له أهله: لا، ادرس تخصصاً آخر من العلوم هذه الدنيوية المادية، وتحصِّل وظيفة في شركة، ويكون راتبك ثمانية آلاف، أو عشرة آلاف، أين هذا من هذا!.

نحن لا نتكلم عن أناس يتخرجون من كليات شرعية، يتخرجون عبارة عن موظفين، وليس لهم من العلم شيء، لا، ما أتحدث عن هذا، نحن نتحدث عن إنسان يكون عالماً.

ولهذا لما نطرح بعض البرامج في بعض البلاد، يقول بعض الإخوان: لابد أن يدرس في المدارس النظامية لأجل الوظائف.

أقول: هذا إذا تخرج عالماً الكل يريده، هو عملة نادرة، أندر شيء في العالم العلماء بالشريعة، هم أندر شيء، الآن كفالة الدعاة كثيرة جدًّا، يعجز الناس عن كفالة عالم؟!.

وإذا تأملت في أحوال الخلق تستغرب، بعض الناس من أين لهم هذه الأموال؟ ولا ترى إلا إنساناً متقاعدًا من وظيفة بسيطة، وعنده أموال، وعنده ملايين، وعنده أراضٍ، وعنده أشياء، من أين جاءت؟ الله هو الرزاق، هو الذي أعطى، وتجد آخرين ذكاء، ودراسة، وتخصصات لربما نادرة في علوم مادية، ونحو ذلك، ومع ذلك ديون، وما حصّل شيئًا من الدنيا، فالله هو الرزاق، فالعلم أشرف، وأجل.

نحن نتكلم عن شمس تضيء للناس الطريق، شيخ الإسلام، ابن القيم، الشيخ محمد بن إبراهيم، الشيخ ابن عثيمين، الشيخ الألباني، الشاطبي، علماء ما زال ذكرهم يتردد، ويترحم الناس عليهم.

فكثير من الناس لا يتصور هذا، ولا يعي حقيقة العلوم الشرعية، فيُلزم، ولده يقول له: تذهب تتخصص التخصص الفلاني، من أجل أن تشتغل في الشركة الفلانية، فيكون قد قضى عليه، حتى لو حاول، هو يصبح خلاف الأمواج يحاول، ويحاول، ويحاول، ثم بعد ذلك ينقطع، وينتهي، وهذا أمر نشاهده، ويتكرر.

وهكذا قصور التصور عند بعض الطلاب، كما ذكرت لكم في ثنايا الحديث، كان يتصور أن علوم الشرع عبارة عن حفظ مذكرات، لماذا أجلس أربع سنوات؟ جاء مرة بعض الطلاب من اليابان في الجامعة الإسلامية، ودرسوا قليلاً، ثم بدءوا يحاسبون، ويعدون بالأرقام، وكذا، يقولون: أربع سنوات يمكن في اليابان نحقق كذا، وكذا من المكاسب، وخرجوا، ورجعوا، هل عرفوا قيمة العلم الشرعي؟ ماذا حصلوا الآن في اليابان؟ وهكذا أيضاً أحياناً يكون الإنسان رغبته ضعيفة في العلم الشرعي، فسرعان ما يفتر، وينقطع.

وهكذا أيضاً تحول النية، وكثير من الناس يبدأ برغبة، فإذا جاء، ودرس العلوم الشرعية في كلية من الكليات تغيرت نيته.

ولهذا يقول ابن عاشور: من المعوقات - يذكر تفكير التلامذة منذ الابتدائي - الاستعجال لتحصيل الشهادة من غير تفكير في الأهم من ذلك، وهو الكمال العلمي[13].

وهذا شيء نشاهده، تجد طالباً متحمساً، ثم بعد ذلك يشغل الشيوخ، يريد محذوفًا، احذف هذا، أريد مذكرة يا شيخ، صارت القضية مذكرات، وتبحث عن المحذوف، وأنت راغب في العلوم الشرعية، ما الذي حصل؟ نيته تغيرت، تجد الواحد ينتسب أحياناً، أنا أريد أن أدرس العلوم الشرعية، ما لك في الصداع، والدراسة بعد هذا العمر؟ يقول: أريد أن أدرس العلوم الشرعية، فإذا درس أشغلهم يبحث، واتصالات، أين المحذوف؟ يريد مذكرة يصورها، أين الرغبة في العلم الشرعي؟ ينسى ذلك، وهذا يقع فيه كثير من الداخلين في الكليات الشرعية، يأتي، وهو متحمس، ثم بعد ذلك إما بسبب الزملاء الذين يراهم، أو غير ذلك تضعف همته، ويزهد بما يدرسه، ويصير همه هو فقط التخرج، أو النجاح، أو تحصيل الدرجات العالية، همه هو التفوق دون التحصيل العلمي.

ولهذا تجد هذا الإنسان لا همة له في العلم، والاطلاع، والقراءة، والبحث، وحضور مجالس العلم إطلاقاً، لكن قد تجده الأول، لماذا؟ لأنه يحفظ المذكرات، همه يحفظ في هذه الدراسة، ويتفوق فيها، من أجل أن يكون معيداً، ثم محاضراً، ثم بعد ذلك يترقى للدكتوراه، ويصير أستاذًا مشاركًا، ثم أستاذاً، وهكذا في قضايا وظيفية بحتة، وإذا نظرت إلى حصيلته العلمية تجد أنها ضعيفة، فهذه مشكلة.

ولذلك ينبغي للإنسان أن يحذر من هذا، وإذا وُجدت النية عند المعلم، وعند التلميذ بإذن الله أنه يحصِّل من العلم، إذا كانت له فيه رغبة، وعنده أهلية، لكن للأسف يأتي الشيخ، ويرى أن هذا عبء ثقيل عليه، قد مل من التعليم، ومل من رؤية الطلاب، ويعد الأيام، متى تنتهي، ومتى تأتي الأجازات، ويأتي الطلاب أيضاً في غاية التثاقل، والضجر - وأنتم في ليلة تفتتح فيها المدارس، لربما البعض يستشعر هذا المعنى - ويضيق صدرهم بالعلم، والدراسة، فيتبرمون في ذلك، ويفرحون إذا غاب الشيخ، والعجيب أنك تجد بعض الشباب يذهب على كلية شرعية، ما الذي يحصل؟ يزهد في هذه الأشياء، فيغيب، ويتآمر مع زملاء له على الغياب الجماعي، فيأتي الشيخ، وما يجد أحداً، يفرحون، ويطربون إذا غاب الشيخ.

بينما قد تجد هذا الإنسان يذهب، ويلح على أحد الشيوخ، أو يسافر لأجل أن يحضر درسًا، وذاك إنما يعطيه - أي هذا الشيخ الذي أُحرج - من وقته شيئاً يسيراً، ويأتي بلا تحضير، وهذا في غاية الحماس، طيب هذا الدرس الذي في الكلية الآن الشيخ هذا قد درّسه سنوات طويلة، وخبره، وحضره مراراً، فهو متقن له، هذا لا تستفيد منه، وتحرص على ذلك الدرس الآخر؟

وهكذا أيضاً قلة الصبر، إضافة إلى ما يحصل من التثبيط أحياناً، تثبيط إما من زملاء، أو ممن يحتف به، أو غير ذلك، يقول له: العلم ما يصلح لك، هذه الدروس ما تصلح لك، الدورات هذه ما هي لك، الدورات هذه غير ناجحة، وهذا الذي يقول له هذا الكلام ما حضر قط في يوم واحد حتى يحكم، وليس بأهل أصلاً أن يحكم، ويوجد من يقول هذا الكلام، ويعوق عن حضور مجالس العلم، فينبغي ألا نستجيب.

كذلك أيضاً ضعف الهمة عند الإنسان أحياناً، الإنسان يمر بحالات من الارتفاع، والهبوط، فقد يكون الهبوط هو الهبوط، ولهذا يحتاج الإنسان إلى فقه التعامل مع النفس، سواء في الضعف في العبادات، أو ضعف الهمة في العلم، الضعف في العبادات له طريقة في العلاج، والارتقاء بالنفس شيئاً، فشيئاً.

والضعف في العلم أيضاً له طريقة، أحياناً الإنسان يمرض، وأحياناً يسافر، وينقطع، أو ينشغل، أو غير ذلك، فما تعود نفسه بتلك القوة في الاطلاع، والقراءة، والبحث، وقضاء الساعات، والبحث الطويل، ونحو ذلك، فيحتاج إلى شيء من التلطف، يقرأ الكتب التي يميل إليها شيئاً فشيئاً، والكتب الخفيفة حتى يأنس، فيقرأ في اليوم ساعة، ثم ساعتين، ثم ثلاث، حتى يرجع إلى حاله السابقة.

وكثير من الناس يتعلق بالأماني الفارغة، أو عنده عاطفة في التعلم، في محبة العلم، لكن ليس له برامج قوية، وجادة، وليس له همة عالية، يقول الزمخشري:  

يا من يحاول بالأماني رتبتي كم بين منخفضٍ، وآخرَ راقي
أأبيتُ ليلي ساهرًا، وتُضِيعُه نومًا، وتأملُ بعد ذاك لحاقي[14].

ولربما يشعر الإنسان بالنقص، أو يُشعَر بذلك، يقال: ما أنت أهل لهذا، أو هو يقول: أنا لست بأهل، أو يتذكر ماضيه أحياناً السيئ، ويقول: أنا لست بأهل للجلوس في هذه المجالس الشريفة.

وهكذا الاشتغال بالدنيا، والحرص عليها، لربما يريد أن يكون تاجراً بزعمه، وطالباً للعلم، ويقول: ابن المبارك كان عالماً، وتاجراً.

هو ابن المبارك فقط، لكن أكثر العلماء ما كانوا كذلك، فأحياناً الإنسان يتعلق بأمور من شأنها أن تقعده، وأن تكسر نفسه، وتقطع عليه الطريق بعد البداية.

وهكذا الذنوب، والمعاصي، فإن لها شأناً عظيماً في ضعف التحصيل كما تعرفون.

شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي فأرشدني إلى تركِ المعاصي

 

وأخبرنــي بأن العلمَ نورٌ ونورُ الله لا يُهدى لعاصي[15].

ومن الأمور التي تسبب له الارتخاء، والتثاقل، والكسل: كثرة الأكل، وكثرة النوم، ، والفضول من هذه الأشياء، الشافعي - رحمه الله - يقول: ما شبعت منذ ست عشرة سنة[16].

فإذا أكثر الإنسان من الأكل فإن ذلك يورث فتور الحواس.

ويقول ابن جماعة: "من رام الفلاح في العلم، وتحصيل البغية منه مع كثرة الأكل، والشرب، والنوم فقد رام مستحيلاً في العادة"[17].

وابن عاشور له كلام في هذه القضية في كتاب "أليس الصبح بقريب" حيث يرى أن طلاب العلم يحتاجون إلى شيء من الرياضة، والنشاط، والحيوية، والحركة، يقول: من عادتهم أنهم يسيرون على تقاليد، ورسوم معينة كالتعليم بعد الأكل، وتقليل الحركة، والمشي، وهذا يسبب ضعفًا في البدن يؤثر على الأذهان[18]

  1.  المصدر السابق (1/426). 
  2. علامة الشام ص: (33)، نقلًا عن مجلة "الفتح" عدد: (67)، الصادر في 25/ 4/ 1346. 
  3. أليس الصبح بقريب، ص: (112). 
  4.  الآداب الشرعية (2/120). 
  5. جامع بيان العلم، وفضله (1/428). 
  6.  مصنف ابن أبي شيبة (5/286)، رقم: (26137).
  7.  جامع بيان العلم، وفضله (2/948).
  8.  المصدر السابق (1/376). 
  9.  كتاب تعليم المتعلم طريق التعلم، لبرهان الإسلام الزرنوجي، ص: (104). 
  10. جامع بيان العلم، وفضله (1/430). 
  11.  صحيح مسلم (1/428)، رقم: (612). 
  12.  مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (1/ 128). 
  13. أليس الصبح بقريب، ص: (117). 
  14.  غرائب الاغتراب للألوسي، ص: (61).
  15.  المحمدون من الشعراء (ص: 138). 
  16.  آداب الشافعي، ومناقبه (ص: 78). 
  17.  تذكرة السامع، والمتكلم في أدب العالم، والمتعلم (ص: 37). 
  18. أليس الصبح بقريب، ص: (113). 
أيها المعلم لا تبتئس

أحياناً الإنسان يكون في حال من العلم، والبذل، لكن لا يجد طلاباً، فلربما يتثبط، وتنكسر نفسه، فينبغي ألا يؤثر فيه ذلك.

وكان ابن مالك - رحمه الله - الإمام المعروف في النحو ينتظر من يحضر يأخذ عنه، فإذا لم يجد أحداً يقوم إلى الشباك، ويقول: القراءاتِ القراءاتِ، العربيةَ العربيةَ، ثم يدعو، ويذهب، ويقول: أنا لا أرى ذمتي تبرأ إلا بهذا، فإنه قد لا يُعلَم أني جالس في هذا المكان لذلك[1].

صاحب الألفية، من منا من لا يعرف ابن مالك؟

ويقول الإمام مالك - رحمه الله - : كنت آتي نافعاً، وكان يجلس بعد الصبح في المسجد، فلا يكاد يأتيه أحد[2].

وذكر الذهبي - رحمه الله - في ترجمة عطاء بن أبي رباح أن أحد معاصريه قال: "رأيت عطاء، وهو أرضَى أهل  الأرض عند الناس، وليس يجلس معه إلا تسعة، أو ثمانية"[3].

ما يجلس عنده آلاف، بعض طلاب العلم إذا جلس عنده تسعة، أو ثمانية، أو ألقى محاضرة حضرها عشرة، أو نحو ذلك، أو الدرس ما يحضره إلا عدد قليل انقطع، وغضب، ولربما تحامل عليهم، مثل هذا لا يليق، من كانت له نية فإنه لا يبالي.

إذا كثر الناس شاع غلطك، وكان هذا أيضاً أصعب في ضبط النية، والقصد، ما صدق اللهَ عبدٌ إلا سره ألا يُشعَر بمكانه، الإنسان يبذل العلم، ويصحح نيته دائماً، ويراقب قلبه، حركات النفس، ولا يبالي بعد ذلك الناس يقبلون على درسه، أو لا يقبلون، هذا شيء ليس إليه.

الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - قال له أحد الشيوخ حينما كان في المدينة في الجامعة الإسلامية يدرِّس في المسجد النبوي قال له: يا شيخ، ما يحضر درسك إلا القليل، وفلان، وفلان لا يصلون إلى قريب منك في العلم، ومع ذلك يحضر لهم المئات، قال كم يحضر؟   - يعني: كم يحضر لي؟ - قال: نحو عشرة، أطرق، وسكت، ثم قال: بركة.

الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - بقي سنوات طويلة، وما يحضر له إلا هذا العدد.

الشيخ العثيمين في أول أمره ما كان يحضر له إلا العدد القليل.

الشيخ ابن جبرين كان يحضر له طالب واحد سنوات، وليس من أهل البلد، طالب واحد، فالإنسان لماذا يضجر؟. 

  1. غاية النهاية في طبقات القراء (2/181). 
  2.  سير أعلام النبلاء (5/98). 
  3. المصدر السابق (5/84).
أنت أيها المتعلم لا تبتئس

هذا رفع للمعنويات، لا تبتئس، أَمِّلْ خيراً، هذا الفقيه سُليم الرازي ممن طلب العلم على كبر السن، فقد طلبه بعد سن الأربعين، ويحفظ مثل هذا لعدد من العلماء أيضاً مثل صالح بن كيسان، والعز بن عبد السلام، وعلي بن حمزة الكسائي النحوي، الإمام في النحو، ما طلبه إلا بعد الأربعين.

وهذا عبد الرحمن بن النفيس أحد الحنابلة كان في أول أمره مغنياً، وكان ذا صوت حسن، ثم تاب من هذا المنكر، طلب العلم، وحفظ كتاب الخرقي[1].

وهذا عبد الله بن أبي الحسن الجبائي كان نصرانيًّا،  وكان أهله نصارى، بل كان أبوه من علماء النصارى، وكانت النصارى تغلو فيه، لكنه أسلم، وحفظ القرآن، وطلب العلم، يقول من رآه: كانت له مهابة، وجلالة في بغداد[2].

وكان نصير الدين أحمد بن عبد السلام قاطع طريق، قال عن نفسه: إنه كان ذات يوم في أثناء قطعه للطريق مضطجعاً تحت نخلة - أو في حائط نخل - فرأى عصفوراً يتنقل بين نخلتين بانتظام، فعجب، وصعد إلى إحدى النخلتين، فرأى حية عمياء، والعصفور يلقي لها الطعام، فتعجب من ذلك، وتاب من ذنبه، وطلب العلم، وسمع الكثير، وسمع منه خلق[3].

وهذه نقولها أيضاً للذين يتركون العلوم الشرعية، يقولون: من أجل الوظائف.

وهذا سيبويه كان يستملي الحديث على حماد بن سلمة، فبينما هو يستملي قول النبي ﷺ: "ليس من أصحابي إلا من لو شئتُ لأخذتُ عليه ليس أبا الدرداء"[4] والحديث لا يثبت.

فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء فقال حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، وإنما ليس هنا استثناء، فقال: لا جرم، سأطلب علماً لا تلحنني فيه، فلزم الخليل فبرع[5].

وخبر آخر يرويه حماد بن سلمة: أنه جاء إليه سيبويه مع قوم يكتبون شيئاً من الحديث، قال حماد: كان فيما أمليت ذكر الصفا، فقلت: صعد رسول الله ﷺ الصفا، وكان هو الذي يستملي، فقال: صعد النبي ﷺ الصفاء - بالهمز - فقلت: يا فارسي، لا تقل: الصفاء، لأن الصفا مقصور، فلما فرغ من مجلسه كسر القلم، وقال: لا أكتب شيئاً حتى أُحكم العربية[6].

ومن المعلوم أن سيبويه مات، وهو صغير في شبابه، قيل: عاش اثنتين، وثلاثين سنة، وقيل: نحو الأربعين.

وهكذا أيضاً ما جاء عن عثمان بن جني حينما كان يُقرئ النحو في الموصل، فمر به أبو علي الفارسي، فسأله عن مسألة في التصريف، فقصّر فيها، فقال له أبو علي: زبَّبتَ قبل أن تُحصرم، فلزمه من يومئذ مدة أربعين سنة، واعتنى بالتصريف إلى أن تصدر مكان الفارسي في بغداد[7].

وهذا الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: كنت امرأ أكتب الشعر، فآتي البوادي، فأسمع منهم، فقدمت مكة، فخرجت، وأنا أتمثل بشعرٍ للبيد، وأضربُ وحشِيَّ قدميّ بالسوط، فضربني رجل من ورائي من الحَجَبة، فقال: رجل من قريش، ثم ابن المطلب رضي من دينه، ودنياه أن يكون معلمًا، ما الشعر إذا استحكمتَ فيه فعدتَ معلماً؟ تفقه يُعلكَ الله، فنفعني الله بكلامه، فكتبت ما شاء الله من ابن عيينة، إلى أن قال: ثم قدمت على مالك، فلما عرضت عليه إلى كتاب السِّيَر، قال لي: تفقه تعلُ يا ابن أخي[8].  

وهذا الشيخ الحافظ محدث الكوفة أبو جعفر محمد بن عبد الله الملقب بمُطيَّن، يقول جعفر الخلدي، قلت: لمُطيَّن: لم لقبت بهذا؟ قال: كنت صبيًّا ألعب مع الصبيان، وكنت أطولهم، فنسبح، ونخوض، فيطيِّنون ظهري، فبصر بي يوماً أبو نعيم، فقال لي: يا مُطيَّن، لم لا تحضر مجلس العلم؟ فلما طلبت الحديث مات أبو نعيم، وكتبت عن أكثر من خمسمائة شيخ[9].   

وهذا ابن حزم سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة، فدخل المسجد، فجلس، ولم يركع، فقال له رجل: قم فصلِّ تحية المسجد، وكان قد بلغ ستًّا، وعشرين سنة، قال: فقمت، وركعت، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس، ليس ذا وقت صلاة، وكان بعد صلاة العصر، قال: فانصرفت، وقد حزنت، وقلت للأستاذ الذي رباني: دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دَحُّون، قال: فقصدته، وأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك، فبدأت به عليه، وتتابعت قراءتي عليه، وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام، وبدأت بالمناظرة[10].

وهذا الشيخ خالد الأزهري، الملقب بالوقّاد، وهو من كبار النحاة، اشتغل بالعلم على كبر، قيل: كان عمره ستًّا، وثلاثين سنة، وكان يوقد السُّرُج في الأزهر، فسقطت منه يوماً فتيلة على كراس أحد الطلبة فشتمه، وعيره بالجهل، فترك الوِقادة، وأكب على الطلب، وبرع، وأشغل الناس، وصنف شرحاً حافلا على التوضيح، ما صُنف مثله، وصنف كتاباً في إعراب ألفية ابن مالك، ووضع شرحًا على الآجرومية، وآخر على قواعد الإعراب لابن هشام، وآخر على الجزرية في التجويد، وله المقدمة الأزهرية مع شرحها، وكثر النفع بتصانيفه حتى صار شيخاً للأزهر بعد أن كان عاملاً فيه[11].

إذًا فالطريق مفتوح تستطيع أن تكون عالمًا، والله أعطاك، وأولاك، وأنت لا شك أنك في لحظتك أعلم من كل عالم حينما كان وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا النحل: 78.

فالصبر، والمواصلة، قد يكون الإنسان ليس بذلك الحاذق كثير الذكاء، ولكنه مع الدوام، والتكرار يحصِّل ما لا يحصله الأذكياء. 

  1.  ذيل طبقات الحنابلة (2/281 - 282). 
  2.  الوافي بالوفيات (17/69). 
  3.  ذيل طبقات الحنابلة (5/59). 
  4.  ذكره الخطيب ضمن ترجمة سيبويه، انظر: الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع (2/67). 
  5.  إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (3/ 1199) وطبقات النحويين، واللغويين (ص: 66). 
  6. مجالس العلماء للزجاجي (ص: 118). 
  7.  الوافي بالوفيات (19/312). 
  8.  سير أعلام النبلاء (10/85). 
  9.  المصدر السابق (14/42). 
  10.  المصدر السابق (18/199). 
  11.  شذرات الذهب في أخبار من ذهب (10/38 - 39). 
نظرة في الواقع

إذا نظرنا إلى المراحل التعليمية عندنا، ابتدائي المعهد، أو الابتدائي المتوسط، الثانوي، الجامعة نجد الناس يحصلون فيها.

أنا أقول: لو أن أحدًا درس في المعهد العلمي المتوسط، والثانوي، ثم درس في كلية الشريعة مثلاً، أو في أصول الدين وضبط ما درسه فإنه يكون عالماً، لو ضبطه فعلاً أتقنه يكون عالماً، لكن الواقع هو ما ذكرته في ثنايا الكلام، كثيراً ما نفكر في برامج علمية، ولربما كتبنا أشياء، ثم إذا نظر الإنسان، وتفكر فيما يوجد من معاهد، وكليات يجد هذه وضعها علماء، واختاروا لها المناهج، واختاروا لها الشيوخ، وهيئوا للطلاب ما يحتاجون إليه، يعني: الطالب ما عليه إلا أن يجلس في مكان واحد، والشيوخ يأتون إليه، خمسة يتعاقبون في أول النهار، وكل شيء مهيأ، من مسكن، ومكافئة، ونحو ذلك، فبماذا يتعلل؟ لكن للأسف ضعف الهمة يجعل الإنسان لا ينتفع.

إذا نظرنا إلى الدروس المقامة في المساجد نجد أنها في الغالب متفرقة ذات مستويات متفاوتة، طريقة التعليم فيها ما فيها في الغالب.

ولهذا هنا اقتراح لعله يتحقق، وهو أن هذه الدروس ينبغي أن تترتب، يعني: نحن عندنا هنا مثلاً الدورات مرتبة، لكن الدروس التي في الأماكن التي تعج بالشيوخ، ومجالس العلم في الرياض مثلاً، والقصيم، هذه لو أنها رتبت لكانت أنفع.

يعني: يوجد مثلاً في بعض المساجد أنه توضع برامج يُتفق مع الشيوخ أن هؤلاء يدرِّسون للمبتدئين، وهذه العلوم، والكتب التي يدرِّسونها من أراد يذهب إلى هؤلاء، وهؤلاء الشيوخ في هذا المسجد، أو في المساجد في شرق، وغرب البلد، أو في شماله، أو في جنوبه في هذا المسجد، أو غيره يدرِّسون للمتوسطين، وهؤلاء الشيوخ يدرسون للمتقدمين، ويقصدهم الناس.

وفي الفقه يجدون مثلا إذا كان لا يستطيع أن يدرِّس إلا يوماً واحداً، ويوجد خمسة، أو ستة يدرِّسون الفقه في هذا المسجد، تقسم عليهم أبواب الفقه، الطلاب الذين يأتون من خارج البلد يستطيع الواحد منهم خلال أربع سنوات أن ينهي جملة من الفنون، والكتب.

فإذا ما تيسر هذا - وأرجو أن يوجد من يرتب هذا، ويقوم به، ويحتسب، يحتاج إلى شيء من الإقناع - فلا أقل من أن يوجد بجوار الجامعة مسجد تقام فيه برامج على المستويات الثلاثة، ويكون فيه مكتب للتوجيه، هذه الكليات الشرعية الموجودة الذي يدرس فيها كذا، وكذا، وكذا، الأشياء التي لا تدرس كذا، أنت في هذه الكلية تحتاج إلى كذا، وكذا، ويوجد فيه معلومات تُحدَّث، وأين وصلوا، دائماً في كل فصل دراسي. 

بحيث إذا جاء طالب جديد يقال له: ماذا تريد؟ في الفقه نوجهك إلى فلان، درسه مختصر، درسه مبسط، درسه كذا، هذا يدرِّس أربعة أيام في الأسبوع، هذا يدرس يومًا، احضر هنا، واحضر هنا، هنا من المعاملات، وهنا من العبادات، وهذا الدرس يناسب مستواك، وهكذا معلومات محدثة.

هؤلاء يدرسون النحو، وصلوا فيه إلى باب كذا،  وذاك بدأ من أوله، احضر هذا يومًا في الأسبوع، وهذا يومًا في الأسبوع مثلاً إذا كان العلم يحتمل ذلك، ما يعتمد آخره على أوله.

وهكذا أيضاً يعرفون أحوال الطلاب، وما درسوا، وما هي خلفيتهم، فيُوصَى كل أحد بما يناسبه، لكن الواقع أن الكثيرين مساكين، يذهب متحمساً، ثم يجد دروساً كثيرة، ومتفرقة قد بُدئ بها من قبل، ويحضر عند هذا قليلاً، وينقطع هذا الدرسُ، ويحضر عند هذا قليلاً، وتمضي أربع سنوات، ولم يخرج بكبير طائل، ولا يعرف طريقة في التعلم، وبعضهم يظن أن الدراسة ليست في الجامعة، وأنها لمجرد أخذ الشهادة، وأن الدراسة الحقيقية في المساجد، وهذا كلام غير صحيح .  

أخيراً: بعض الكتابات التي تجدون فيها الكلام عن طلب العلم هي كثيرة جدًّا، لكن أذكر جملة منها:

مقدمة المجموع للنووي، مقدمة ابن خلدون، المدخل لابن بدران، كتاب أليس الصبح بقريب لابن عاشور - كثير من الأشياء قد لا يُحتاج إليها يتكلم عن أشياء قبل نحو مائة سنة، أو أكثر، تجاوزناها على بعض التحفظات على بعض القضايا - أدب الطلب، ومنتهى الأرب للشوكاني، تذكرة السامع، والمتكلم لابن جماعة، وجامع بيان العلم لابن عبد البر، تعليم المتعلم طرق التعلم للزرنوجي، وحلية طالب العلم للشيخ بكر أبي زيد.

وهناك كتب أخرى كثيرة جدًّا لمعاصرين، وغير معاصرين في هذا الباب.  

وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم. 

 

مواد ذات صلة