الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكنا نتحدث عن قول النبي ﷺ: الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، وكان الحديث في آخر مجلس عن هذه الجملة الأخيرة، وقد تحدثت عن طرف مما يتعلق بها وبمعناها، سبحان الله، والحمد لله تملأن، أو تملأ، يعني: جاء في رواية بالتثنية –تملآن، وفي الرواية الأخرى بالإفراد -تملأ ما بين السماء والأرض، وذلك أعظم وأوفر مما قبله؛ لأن الذي قبله هو قوله: الحمد لله، فإنها تملأ الميزان، فإذا قرن معها التسبيح: سبحان الله، وهو تنزيه الله عن كل نقص -كما سبق- في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فإن ذلك يكون أعظم؛ لأن ذلك قد اشتمل على ذكرين اثنين، فذلك يملأ ما بين السماء والأرض، ورواية التثنية هذه تملآن ما بين السماء والأرض هي ظاهرة في أن التسبيح والحمد يملآن ما بين السماء والأرض.
وعلى رواية الإفراد: تملأ ما بين السماء والأرض، أي: تلك المقولة وهي قوله: سبحان الله، والحمد لله، وقد فهم بعضهم منها أن المراد الأخيرة، تملأ ما بين السماء والأرض أي: والحمد لله، وهذا بعيد.
وجاء في رواية بالياء، يملأ ما بين السماء والأرض، أي: الأجر والثواب، أو القول أو الذكر المشار إليه يملأ ما بين السماء والأرض، والمراد بكونه يملأ ما بين السماء والأرض يعني: السماوات والأرض، وذلك أنه ثواب لا يُقادَر قدره، هو ثواب عظيم، هذا هو الظاهر المتبارد.
وبعض أهل العلم يقول: إن من قال: سبحان الله والحمد فقد أضاف جميع المحامد لله ونزهه عن جميع النقائص، فهذا شهادة له بالتفرد بالكمال والوحدانية، وأنه الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ | تدلُّ على أنّه واحدُ |
فهذه الشهادة تملأ ما بين السماء والأرض، وبعضهم يذكر كلاماً قريباً من هذا، فيقولون: إن ذلك يعني تعميم ربوبيته وإلهيته لكل المخلوقات، والمخلوقات تملأ ما بين السماء والأرض، فكأنه قد شهد عليها وأشهدها بأن الله واحد مستحق للعبادة وحده لا شريك له، فكان له من الأجر بهذا المقدار.
وهذا يدل على عظم أجر هذه الكلمات القليلة، ولهذا فإن الذكر له شأن آخر يختلف عن سائر العبادات، ولهذا يقول النبي ﷺ: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم[1]إلى غير ذلك مما جاء في الأحاديث.
فالذكر لا يكلف شيئاً، فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، ويكون الذكر بطهارة، وبغير طهارة، ولا يحتاج إلى استقبال قبلة، وإنما يكون على الجنب والإنسان في فراشه، ويكون وهو يمشي في طريقه، فلو أن الإنسان تفطن لمثل هذه الأمور، ولكننا نغفل كثيراً.
الإنسان الحريص على وقته لربما يرى أن من الغبن الفاحش أنه يقطع مسافة في سيارته، أو على قدمه وليس معه شيء يقرأ به أو يسمعه، محاضرة أو نحو ذلك، لكن لو فكر أن سبحان الله، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض فإن ذلك لا يعدله شيء مما يسمعه أو مما يقرؤه، فنفرط في هذا كثيراً، تجد الناس في صالة انتظار في مستشفى ويقتلهم الملل، وأحياناً ليس في أيديهم ما يقرءونه، وأوقات تهدر، ولا تجد من يحرك شفته بذكر الله ، يبقى الناس في استراحات، يطاولون الليل، ويجلسون أحياناً هكذا، لا في شغل دنيا، ولا في شغل آخرة، وإنما يقضون الزمان، ولا تكاد تجد من يحرك شفته بذكر الله ، فالموفق أيها الإخوان من كان شغله وديدنه في كل أحواله هو ذكر الله بلسانه وقلبه وجوارحه، فهذا لا يضر الإنسان شيئاً ولا يكلفه، فأنت تعمل صنعة، وأنت تكتب، وأنت ترتب أوراقك، وأنت تصنع شيئاً في بيتك أو نحو ذلك لا يزال اللسان رطباً بذكر الله ، تصل أعلى المراتب دون كلفة تذكر.
ثم قال النبي ﷺ: والصلاة نور، والصدقة برهان، لا شك أنها نور في القلب، ولاشك أن الصلاة تورثه بصيرة، ولا شك أن الصلاة أيضاً يظهر أثرها على وجه المصلي من إشراق الوجه، بقدر إقامته لها، ولهذا قالوا: من طال قيامه بالليل حسن وجهه بالنهار، فتجد في وجوه أهل الصلاة من الإشراق والإضاءة ما لا يوجد في وجوه غيرهم ممن لا يعرفون الصلاة، عفيف الجبهة الذي لا يسجد لله -تبارك وتعالى- سجدة، ففي وجهه من الظلمة والكلوح ما لا يخفى، فالصلاة نور بهذا الاعتبار، نور بالوجه، ونور بالقلب، وهي نور للعبد في سلوكه إلى الله -تبارك وتعالى- في الدنيا، كما قال الله : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت:45] فهذا نور، وهي نور معنوي في كل ذلك، وهي نور حسي للعبد في قبره، وهي نور أيضاً في عَرَصات القيامة والمحشر والظلمات التي يتخبط فيها الناس، وهي نور له على الصراط، فكل ذلك متحقق فيها، وقد يراد به بعضه دون بعض، والمقصود أن ذلك يرجع إلى الصلاة جميعاً، وهو من آثارها.
قوله: والصدقة برهان الصدقة يدخل فيها الصدقة الواجبة –الزكاة، والصدقة المستحبة، وقد قيل: إنه قيل لها صدقة؛ لأنها تدل على صدق دعوى الإيمان من هذا الإنسان الذي قال: آمنت بالله، وهي برهان؛ لأنها تبرهن على صحة دعواه الإيمان، فالمال محبوب للنفوس، فإذا بذله فهذا برهان على صدق الدعوى، بخلاف المنافقين، لا يتصدقون، وإذا رأوا أحداً يتصدق بصدقة كبيرة قالوا: هذا مُراءٍ، وإذا رأوا صدقة قليلة قالوا: الله غني عن هذا وعن صدقته، الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 79]، هذا حال أهل النفاق، فهم لا يتصدقون، ولا يدعون الناس يتصدقون، فالصدقة برهان.
قوله: والصبر ضياء الصلاة قال عنها: إنها نور، وإذا فسر الصبر بالصوم، ولا شك أن الصوم من الصبر، ورمضان شهر الصبر، فإذا فسر به فبعض أهل العلم قالوا: الصبر ضياء: الضياء مثل النور السابق في الصلاة، قالوا: حتى لا نغمط شيئاً من هذه الأركان الدينية حقه، إذا قلنا: إن الضياء أعظم من النور، فكيف يكون الصوم أعظم من الصلاة؟ وليس ذلك بلازم؛ لأن النور عام يشمل النور القوي، والنور المتوسط، والنور الضعيف، وأما الضياء فهو ما قوي من النور، كما قال الله -: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس:5]، ونور الشمس أقوى من نور القمر، لكن النور قد يكون قوياً جداً وقد يضعف، والضياء لا يكون إلا قوياً، فهذا لا إشكال فيه.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الصبر محمول على معناه المتبادر الظاهر، الصبر على طاعة الله وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة، على كل ما يصيب الإنسان من الأذى في نفسه وولده وأهله وماله وما أشبه ذلك، فهذا الصبر ضياء، والصلاة نور، فالصبر يدخل فيه الصبر على إقام الصلاة، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طـه:132]، والله يقول عن الصلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة: 45-46] وهذا مشاهد، إذا خرجت من المسجد ورأيت حال كثير من الناس ظننت أنه لا يوجد في المساجد أحد من كثرة الذين لا يشاركون المصلين في صلاتهم؛ لأنها عظمت عليهم وشقت، فهي كبيرة إلا على الخاشعين، ولذلك أخبرنا الله عن المنافقين بقوله: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 142]، فلا شك أن من الصبر: الصبر على هذه الصلاة، والصبر على الصيام، والصبر على فطام النفس عن شهواتها، كل ذلك من الصبر، فالصبر أمره عظيم، وشأنه كبير، وما أحوجنا إلى التبصر في معاني الصبر، لنرتقي في مراتب الفلاح ومراقيه أعظم الدرجات، ولا يمكن لأحد أن يحصِّل لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالصبر.
فإذا سألت التاجر، قلت له: من أين لك هذا المال؟ هل جاءك بالنوم والكسل والرقاد؟ قال: إنما ببكور كبكور الغراب، صبر وتعب.
وإذا سألت العالم: من أين جاءك هذا العلم؟، هل هو بالنوم وتكبير الوسادة، وأكل ألوان المطعومات الشهية، والتنزه في البساتين والذهاب هنا وهناك؟ فإنه يقول: لا، إنما بالصبر، وفطام النفس وتسليتها بما عند الله ، حتى صار ذلك العلم لذته وأنسه، فهو يطرب في استنباط المسائل، والوقوف على مكنون العلم وخفيه أعظم مما يطرب له ذلك الإنسان المتنزه في نزهته، وهذا أمر مشاهد، والحديث فيه بقية، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح (5/ 2352)، رقم: (6043)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (4/ 2072)، رقم: (2694).