الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده الإمام النووي -رحمه الله- في باب الصبر من كتابه رياض الصالحين:
الأنصار: هم الأوس والخزرج الذين أدركوا النبي ﷺ فآمنوا به، فهم الذين نصروا دين الله ، ونصروا رسوله ﷺ حيث آووه.
سألوا رسول الله ﷺ، والظاهر أن أبا سعيد كان منهم، حيث إن أمه أرسلته إلى النبي ﷺ ليسأله، لحاجة شديدة وقعت بهم، كانوا في حاجة، فلما سمع النبيَّ ﷺ يذكر من لا تحل له المسألة رجع ولم يسأل.
يقول: سألوا رسول الله ﷺ فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده.
وهذا من شمائله ﷺ حيث كان أكرم الناس ﷺ، فلربما سأله الرجل فخلع ثوبه، أو جبته، أو رداءه، فأعطاه إياه، فكان لا يرد سائلاً.
فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، السين والتاء للطلب، من يستعفف أي: يطلب العفاف، فالعفاف، والغنى، والصبر، والحلم وغيره كل ذلك يمكن للإنسان أن يتخلقه كما قال النبي ﷺ: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[2]، وكذلك يحصل العفاف، فالفقر في القلب قبل كل شيء، لربما تجد الإنسان ليس في يده إلا القليل من عرض الدنيا، ومع ذلك تجده من أغنى الناس، ولربما رأيت الرجل وهو يملك الكثير من هذه الدنيا، ومع ذلك تجد الفقر في قلبه، نسأل الله العافية.
فأقول: هذا تعليم من النبي ﷺ للناس كيفية التخلق بالأخلاق الفاضلة، حتى تصير سجية، فالإنسان قليل الصبر، كيف يكون صبوراً؟
عليه أن يتصبر في البداية، إذا أصابه آلام، أو أمراض، أو شدة وفقر، أو شيء من المكاره، يتصبر قليلاً، ويعلم أن الجزع لا ينفعه شيئاً، وإذا نظرت إلى إنسان يتضجر وهو يتألم من المرض، لو وجهت إليه هذا السؤال: هذا التضجر ماذا يغني عنك؟ هل يرتفع المرض؟ الجواب: لا يرتفع، فماذا التضجر؟
لو أتيت إلى أحد من الطلاب، وهو يذاكر مادة لا يفهم كثيراً منها، ووجدته في حال من البؤس، ويرفع صوته ويتكلم، ولربما شتم المادة، ولربما ألحق ذلك بأستاذها، ولربما دعا على نفسه، ويتضجر ويتأوه، وهو لا يقضي شيئاً من مطلوبه، ولا يقطع شوطاً في كتابه، فلو سألته هذا التضجر هل هو نافعك شيئاً؟
هل يمكن بهذا الضجر أن تفهم؟ هل يمكن أن تنهي هذا الكتاب إذا تضجرت؟ إنما أنت تضر نفسك، أنت تثبط نفسك، وتقعدها عن العمل الجاد المثمر، فلا تزيد نفسَك إلا تعويقاً بهذا التضجر، لكن ما على الإنسان إلا أن يستبدل ذلك بابتسامة، ويوسع صدره قليلاً، وشيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك يفتح الله عليه ألوان المغاليق، ويرزقه -تبارك وتعالى- من الفهم ما لا يحتسب.
وقل مثل ذلك في الفقير، وغيره، ممن يمكن أن يحصل له شيء من انفراط الصبر، أو شيء من خشونة الأخلاق.
فالإنسان الذي لا علم عنده يمكن أن يتعلم، فيكون عالماً، فالعلماء ما كانوا علماء في أول أمرهم، وكذلك من يستعفف يعفه الله، أي: يريد أن يكون عفيفاً لا يحتاج إلى الناس، ولا يسأل الناس شيئاً، والله مدح الأنصار، ومدح المهاجرين فقال: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273] أي: بسبب التعفف، تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273] يعني: الفقر يظهر في وجه الإنسان، وقسماته وملامحه، وتظهر فيه الحاجة الشديدة من قسمات الوجه، ومن ثيابه، كما أن المرض يعرف بوجه الإنسان، فتراه تقول: أنت اليوم مريض، من حاله، ومن هيئته، ومن جلسته.
فالجاهل بحال الفقراء يحسبهم أغنياء، أي: يظنهم أغنياء من التعفف، لا يسألون مباشرة –أعطني، ولا بطريق غير مباشر، كأن يجلس يشرح أحواله، ولا يتعرض لك و يقف أمامك، أو بطريقة أخرى كأن يبيع شيئاً تافهاً لا قيمة له وقصده السؤال، فهذا من المسألة، سواء كان بهذه الصيغة أو كان بتلك.
لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273] الإلحاف مثل اللحاف، فاللحاف كما أنه يشتمل على الإنسان بجميع جوانبه، فكذلك الإلحاف في المسألة، لا يترك طريقة إلا ويسأل بها، كأنه يقول: الله يخليك أعطني، اللهم آتِ منفقاً خلفاً، أنا فقير، الله يخلي لك عيالك، فيلح بكل طريقة، ويدعو لك مرة، ومرة أعطني مباشرة، ومرة يقف أمامك، ومرة يلحقك، فنفاه الله عنهم.
فالمقصود أن العفاف صفة من صفات الكمال التي ينبغي للإنسان أن يتحلى بها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "استغنِ عمن شئت تكن نظيره، واحتجْ إلى من شئت تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره".
إن استطعت أن لا يكون لأحد من الخلق عليك يد فافعل، لا تحتج للناس، لا تحتج لأحد يمن عليك، المنة لله وحده لا شريك له، الله أعطاك عقلاً، وأعطاك عافية، وأعطاك لساناً، وأعطاك بصراً وسمعاً، وأعطاك كل ما أعطى الآخرين، لا تنتظر من الآخرين أنهم يحسنون إليك، وتكون لهم يد عليك.
قوله: ومن يتصبر يصبره الله هذا هو الشاهد في الباب، يتصبر، يعني: هو في البداية يتكلف الصبر، ليس من طبيعته أنه صبور، والناس يتفاوتون تفاوتاً كبيراً في هذا، من الناس من إذا أصابه زكام أتيته وهو يتأوه، وتظن أن الموت يتنزل به، وإذا سألت أولاده قالوا: هو طبيعته كذا، أدنى شيء يأتيه مباشرة يتحول إلى شخص في غاية الجزع، إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:19-23]، ولا يظهر ضعف الإنسان إلا إذا أصيب، وابتلي، ومن الناس من لو أصابه كدمة أو شيء لرأيته ينهار.
قوله: وما أُعطي أحدٌ عطاء خيراً وأوسع من الصبر يعني: لا المال، ولا أي شي؛ لأنه بالصبر يحصِّل جميعَ المطالب، ولا يُحصَّل شيءٌ من المطالب إلا بالصبر، فإذا رزق العبد الصبر استطاع أن يستمر في طريق العبودية حتى يصل إلى مأمنه بإذن الله .
فمن الناس من يبدأ –مثلا- في قيام ليل، ويستمر أسبوعاً، أو عشرة أيام، ثم يترك، أو إذا بدأ في صيام تطوع استمر فترة ثم انقطع، إذا بدأ في طلب علم حضر درساً درسين، ثم بعد ذلك انقطع، إذا بدأ في عمل مشروع خيري من الأعمال الخيرية، أو نحو ذلك تحمس في البداية، ثم بعد ذلك أدار لهم ظهره، وانقطع، فمثل هذا لا ينتج، ولا يحصّل شيئاً يذكر.
فلو أن هناك من يغرس كل يوم له غرسات من النخل أو غيرها، ثم يسقيها أسبوعاً أو أسبوعين، ثم يتركها، ويغرس غرسة أخرى، هل يمكن أن ينتظر ثمرة؟
الجواب: لا يمكن أن يحصل له شيء، فهكذا في سائر الأمور، من أراد العلم يحتاج إلى صبر، من أراد الدنيا والتجارة يحتاج إلى صبر، وهكذا في كل الأمور؛ لأنه هو الطريق إلى تحصيل المطالب العالية.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم من الصابرين، ويرزقنا وإياكم الهدى والسداد والثبات في الأمر، وأن يعيننا وإياكم على الرشد، ويوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم الله (5/ 2375)، رقم: (6105)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر (2/ 729)، رقم: (1053).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 395)، رقم: (929)، والبيهقي في شعب الإيمان (13/ 236)، رقم: (10254).