الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فتحدثنا في الليلة الماضية عن قول النبي ﷺ: الطُّهور شطر الإيمان، وذكرنا الاحتمالين في معناه، إما أن يحمل على أن المراد بالإيمان: الصلاة، فتكون الطهارة هي شرطها، ومن ثمّ فإن المناصفة هنا يمكن أن تكون ظاهرة، أو يكون المراد بالإيمان المعنى المتبادر المعروف فتكون الطهارة تشمل الطهارة الحسية والمعنوية، وهذا لا إشكال فيه.
يقول: والحمد لله تملأ الميزان، الحمد لله بمعنى: أنك تضيف المحامد لله ، والأوصاف الكاملة، وتثني عليه -تبارك وتعالى- وتذكره بما هو أهله، فهذا هو الحمد.
تملأ الميزان، الميزان المعروف ذو الكفتين، والله يزن الأعمال يوم القيامة، ويزن الناس -أيضاً- أصحاب هذه الأعمال، والله يقول: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 8]، فيؤتى بالرجل -كما أخبر النبي ﷺ السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة[1].
فالناس يوزنون، وكذلك الأعمال توزن، وتعرفون حديث البطاقة التي قد جيء لرجل بسجلات عظيمة في كفة السيئات فيها ذنوبه ومعاصيه وجرائمه، فوضع فيها تلك البطاقة المكتوب عليها كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، فطاشت بتلك السجلات جميعاً[2].
وهكذا هذه الكلمة -الحمد لله، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن المراد لفظها، مع فهم معناها، وتحقيق مقتضاها، والتحقق من ذلك علماً وعملاً.
وبعض أهل العلم يقول: كل ما يؤدي هذا المعنى من حمد الله وإن لم يكن بالتزام هذه اللفظة، لكن النبي ﷺ أخبرنا: أن الحمد لله تملأ الميزان، فالأظهر -والله تعالى أعلم- أن التعبد لله بهذه اللفظة باللسان وبالقلب وبالجوارج، بفهم معناها يمتلئ الميزان، وهذه الأذكار إنما يكون أثرها وأجرها أبلغ وأعظم كلما كان الإنسان أكثر فهماً وإدراكاً لمعناها، وتحقيقاً لمقتضاها.
فالذي يقول: الحمد لله بلسانه وقلبه غافل لا يكون كالذي يقول هذه الكلمة ويعرف مراميها ومعانيها، وحاله حال الحامد لله ، فالناس يتفاضلون تفاضلاً عظيماً في هذه الأذكار، ولذلك إذا أراد الإنسان أن ينتفع بهذه الأذكار حتى في الأمور الدنيوية كالرقية، أو التعاويذ التي يقولها في أول نهاره، أو آخره، أو عند نومه فإنه كلما كان أكثر تحققاً، وفهماً لمعانيها، وإحضاراً للقلب كلما كان التأثير، هذا الإنسان يمكن أن يرقي بطرف لسانه، أو يقول هذه الأذكار بطرف لسانه، ولكنه قد لا يحصل له من التأثير ما يحصل لمن كان مستحضراً لمعانيها، فاهماً لها، حاضر القلب عند ذكره إياها، ولذلك نحن بحاجة إلى أننا نفرغ القلوب قليلاً عند أداء هذه الأذكار، فيكون ذلك أثره منعكساً على قلب الإنسان، وعلى نفسه، وهذا من أعظم ما يدنيه، ويقربه ويرفعه عند الله .
وقد ذكر بعض أهل العلم، وهو ابن شيخ الحزّامين أو الحزاميين في رسالة كتبها لتلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وذكر فيها أشياء مهمة، كان يوصيهم في أول الرسالة أن يفرغوا ساعة من يومهم وليلتهم لذكر الله ، وتكون تلك الساعة بعيدة عن الشواغل والصوارف، يقول: وهذا قليل من كثير، يقول: لكن العبد إذا فرغ قلبه ونفسه من الأشغال والصوارف فإنه يجد أثر ذلك بعد حين، فيتفرغ قلبه لله ، ثم يستطيع أن يسيطر على أحواله الثلاث، وهي حاله في العلم، وحاله في التعبد، وحاله في الكسب وتطلُّب المعاش في الدنيا، فقد يكون فقيهاً معلماً للناس لكنه بعيد عن ذكر الله وعن الخشوع، وعن التعبد، وعن حضور القلب فلا يؤثر فيه هذا العلم، وكالذي يحمل الدواء، والعلاج النافع لكنه لا ينتفع به، أو يحمل سلاحاً ضارباً ولكنه لا يستعمله، فما الفائدة من هذا ؟
وكذلك في أمور الدنيا كثير من الناس تشغلهم أمور دنياهم عن آخرتهم، فإذا حصل للعبد هذا المقصود استطاع أن يعمل بدنياه وهو في حال تقربه إلى الله حتى في كسبه وسعيه في الدنيا، وقل مثل ذلك في عمله في تعليم الناس الخير، أو في عمله للآخرة، العمل الآخر الذي هو التعبدي المحض، شعائر التعبد، الصلاة وما أشبه ذلك، فمثل هذه الأمور إذا حصلت يمتلئ الميزان من أثرها.
قوله: وسبحان الله، والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض سبحان الله، التنزيه لله من كل عيب، ونقص في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله عما يصفه الواصفون، وتنزيهه -تبارك وتعالى- عن كل عيب ونقص يمكن أن يُتصور، أو يلحق بالله ، أسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرءوا إن شئتم: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الكهف (4/ 1759)، رقم: (4452)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/ 2147)، رقم: (2785).
- أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله (5/ 24)، رقم: (2639)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة (2/ 1437)، رقم: (4300)، وأحمد (11/ 570)، رقم: (6994)، وصححه الألباني.