الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زلنا نتحدث عن خبر الغلام والساحر والراهب، قال: وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء....
الأكمه: هو الذي ولد وهو لا يتكلم، والأبرص: البرص هو داء معروف يصيب الجلد فيتغير معه لونه، ويداوي الناس من سائر الأدواء، ومع أن هاتين العلتين من سائر الأدواء إلا أنه ذكرهما على سبيل الانفراد؛ لأن ذلك قد جرت عادة الناس أنه لا سبيل لهم إلى مداواته، مع أن الله ما أنزل داء إلا جعل له شفاء، فالطب إلى اليوم يقف عاجزاً عن معالجة هذه الأدواء، فلربما يكون ذلك هو سبب تخصيصها في الذكر.
وهذا الذي أجراه الله على يد هذا الغلام كان كرامة، أكرمه الله -تبارك وتعالى- بها، وهي تصديق لما جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، لاسيما عيسى ﷺ، وذلك أن هذا الغلام كان على دين عيسى -عليه الصلاة والسلام، كان على النصرانية، وعيسى ﷺ كانت معجزته أنه يبرئ الأكمه، والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله.
وقد قال بعض أهل العلم: إنه قيل له المسيح؛ لأنه يمسح على ذي العلة فيبرئه الله -تبارك وتعالى- كأن لم يكن به شيء، فالمقصود أن هذا الذي وقع إنما هو من قبيل الكرامة، وهذه الكرامات التي تقع للصالحين هي مما يؤيد ما جاء به الأنبياء، فهي من جنس آيات الأنبياء ودلائل النبوة، وذلك أن الذي جاء به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من دلائل نبوتهم، وبراهين صدقهم على نوعين:
الأول: يعجز الناس أن يأتوا بمثله، كإبراء الأكمه والأبرص، وعصا موسى ﷺ وفلق البحر، واليد، وكناقة صالح -عليه الصلاة والسلام، فهذا أطلق عليه المتأخرون اسم المعجزات، وهو من جملة دلائل النبوة وآيات الأنبياء.
الثاني من آيات الأنبياء: لا يعجز الناس عن الإتيان بمثله، وليس من قبيل المعجزة، لكنه من علامات النبوة، وذلك كما رأى عبد الله بن سلام وجه النبي ﷺ حينما رآه لأول وهلة، قال: فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب[1].
فهذا من دلائل النبوة، أن يُعرف صدقُه بوجهه، فإن وجوه الكذابين تظهر على وجوههم، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه، ووجوه السحرة يظهر فيها الظلمة والسواد.
فهذه ليست من المعجزات، لكن مما يدل على صدقه، ورأيتم أسئلة هرقل لأبي سفيان، فقد سأله عن أمور ليست بمعجزة، وقد قال: ما نسبه فيكم؟ وبماذا يأمركم؟ وهل أتباعه يزيدون أو ينقصون؟ وهل يرتد أحد منهم سَخطة لدينه بعد أن دخل فيه؟[2]. فهذه أمور ليست من قبيل المعجزات، فلم يسألهم عن المعجزة، وهذا كله من دلائل النبوة.
وبعض أهل العلم كالشاطبي -رحمه الله- يقول: إن الله ما أعطى نبياً معجزة إلا أعطى من جنسه لنبينا ﷺ، إما بذاته، وإما لأتباعه، فالنار لإبراهيم كانت برداً وسلاماً عليه، ولم يحترق، ووقعت هذه لأبي موسى الخولاني، حينما ألقاه مدعي النبوة الأسود العنسي في النار، فلم يحترق وهكذا.
ويقول: وكل آية تكون لمن بعده بما يسمى بالكرامات فهي من براهين نبوته ﷺ، يعني: الذي يقع على أيدي أتباعه من الكرامات هو من دلائل نبوته ﷺ، لأنه وقع على أيديهم لأنهم تابعون له مصدقون لما جاء به، فأيدهم الله بذلك، ثم أيضاً هذه الأمور تقع من فضل الله ورحمته بالناس بحسب الحاجة إليها، انظروا إلى هذا الغلام في غربة، ويواجه ملكاً وساحراً، فأجرى الله على يده هذه الأمور العظيمة تثبيتاً له، ولذلك قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله: هذه الكرامات قد تقع في آخر الأمة أكثر مما تقع في أولها؛ لأن الناس في آخر الأمة بحاجة إلى التثبيت، لبعد عهدهم من زمان النبوة والرسالة، فيظهر الله ذلك على أيديهم.
ولذلك جاء في الحديث أن رؤيا المؤمن في آخر الزمان لا تكاد تخطئ[3]، لأن الوحي قد انقطع من زمان بعيد، فعوضهم الله بهذه الأمور التي يطلعهم فيها على بعض الأمور الغيبية، وذلك كله من لطف الله ورحمته بالناس.
وهذا الغلام لم يكن يداوي الناس بالطرق المعهودة، كأن يضع لهم أعشاباً وأدوية وأخلاطاً ثم يداويهم، فهذا قد يفعله الطبيب.
لكن كان يداويهم بطرق خارقة للعادة، كمسحه مثلاً فيبرأ، وقد وقع مثل ذلك للنبي ﷺ وتعرفون أخباره في الغزوات، الرجل الذي سالت عينه على خده فمسحها النبي ﷺ فعادت كما كانت، والرجل الذي كسرت ساقه في الحرب، فمسحها النبي ﷺ فبرئ كأن لم يكن به شيء، وبصق النبي ﷺ في عين عليٍّ لما كان معتلاً بالرمد، في قصة خيبر المعروفة.
قال: ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي....
وهنا تبدأ القضية تأخذ منحى آخر، وهنا يبدأ خط الابتلاء، فهذا جليس للملك سمع أن هذا الرجل يبرئ الأعمى بإذن الله ، فكان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، ومجيئه بهذا الهدايا الكثيرة يدل على أن له حظوة عند هذا الملك، فهو يغدق عليه العطايا، وليس بإنسان فقير.
فقال له: ما هاهنا لك أجمعإن أنت شفيتني يعني: لك جميعاً، كل هذه الهدايا لك، لم يأته بهدية واحدة، وهذا يشعر بنفاستها؛ لأنه إنما يقال ذلك لمن جاء بأمور تنشدّ إليها الأنظار.
ولاحظ الانزلاق الذي يحصل لكثير من العامة حيث يفتنون، فظن أن الشفاء منه، فيمكن أن يكون هذا الغلام فتنة للناس، ولكن هذا الغلام كشيخه الراهب حينما قال له: إنك قد صرت في حال أنت أفضل مني.
فقال له هذا الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى... فعلمه، ومن هنا ينبغي سد الباب أمام كل طريق يفضي إلى الفتنة، والافتتان بالإنسان، سواء كان هذا الافتتان بطريق الشهوات، أو بطريق الشبهات.
فالإنسان المليح، والشاب الممتلئ شباباً لا يصلح أن يتصدر في مكان فيه نساء، ويلقي لهن درساً مثلاً أو موعظة، فيفتنون به.
وهذا الغلام لما أجرى الله على يده مثل هذه الأمور وقعت فتنة من جهة الشبهات، فجاءه هذا الإنسان وقال له ما قال، ولذلك ينبغي للناس أن يدركوا هذه الحقيقة، فبعض الناس إذا سمعوا عن أحد من الرقاة بأن فلاناً قد رقي عنده فبرئ لربما اعتقدوا فيه، وتهافتوا عليه من القرى والهجر، ومن أماكن بعيدة، يظنون أن الشفاء عنده، وهو لا يملك شيئاً، والله يقول: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]، فينبغي له أن يعلمهم بأنه ليس له مزية على غيره، لا يمتاز لا بتقى ولا بصلاح ولا بشيء، فلا يفتن به أحد.
وانظر كيف استغل هذا الغلام مداواته للناس في دعوته إلى الله ، ووظف هذه القُدر التي منحه الله إياها في مرضاته، وهكذا ينبغي لمن أعطاه الله المال، أو من أعطاه الله العلم، أو من أعطاه الله الذكاء، أو من أعطاه الله علماً من العلوم كالطب مثلاً أن يوظف هذا العلم بالدعوة إلى الله ، ويخدم الناس، وينجز لهم حوائجهم، فيكون سبباً لنشر الخير، ولربما كانت فعال الإنسان أبلغ بكثير من أقواله.
والحديث له بقية -إن شاء الله، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 652)، رقم: (2485)، وأخرجه ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل (1/ 423)، رقم: (1334)، وأحمد (39/ 201)، رقم: (23784).
- أخرجه البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (1/ 7)، رقم: (7).
- عن أبى هريرة عن النبى ﷺ قال: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن أن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا... أخرجه الترمذي، كتاب الرؤيا عن رسول الله ﷺ، باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة (4/ 532)، رقم: (2270)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في الرؤيا (4/ 462)، رقم: (5021).