الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
حديث «كان ملك فيمن قبلكم..» (6-9)
تاريخ النشر: ١٧ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3215
مرات الإستماع: 6250

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث عن خبر الساحر والراهب والغلام، وقد مضى ما فعل ذلك الملك بجليسه حيث وضع المنشار على مفرق رأسه، كما فعل هذا أيضاً بذلك الراهب، وتحدثنا عن هذا الثبات العظيم مع شدة هذه النكاية، وقلنا: إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قد ذكر أن هذه الأمة يكون لها من الثبات أعظم مما كان لمن قبلها.

وهذا الملك كأنه أراد أن يتلاعب بهذا الغلام لحداثة سنة، أضف إلى ذلك أنه طمع فيه، وذلك رجاء أن يرجع عما هو عليه إلى ما كان عليه قبل ذلك، نظراً لما بذل معه من الجهد الكبير في تعليمه هذا السحر عن طريق ذلك الساحر، فهو يرجوه ويؤمله، ولذلك أخره فلم يقتله، بل بدأ بالراهب الذي هو منشأ هذه القضية التي أزعجته، ثم ثنى بجليسه، ثم أخر هذا الغلام، ثم لما أبى هذا الغلام لم يقتله كما قتل من قبله، بل عمد إلى طريقة أخرى هي أدعى إلى رجوعه من أجل أن يخوفه، أن يسبق ذلك ألوان العذاب النفسي، حينما يعاين الموت وهو يقاد إليه، فدفعه إلى مجموعة من أصحابه.

يقول: فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فلم يقتله مباشرة وينتهي، وإنما أراد أن يفعل معه فعلاً عله به أن يخاف فيرجع، فهو في مدة مشيته هذه، ثم في صعوده إلى الجبل، ثم إذا نظر إلى أسفل، وهو في شاهق، وكأن رأسه قد استدار فقد يجعله يجبن ويتراجع، فإن رجع عن دينه وإلافاطرحوه.

فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك جاء يمشي إلى الملك، وهذا الدعاء لم يُخصِّص به شيئاً من العقوبة بعينه، ولا شك أن هذا اللون من الأدعية أسلم لذمة المكلف، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الإنسان لربما وقعت عليه مظلمة، فيظلم بدعائه أعظم مما وقع عليه من الظلم، ويكون ظالماً بالدعاء أعظم من ذلك الظالم الذي قد ناله ظلمه.

فلو أن أحداً سرق من أحد جهازه الجوال، فرفع هذا الإنسان يديه وقال: اللهم جمد الدم في عروقه، ويتّم أطفاله، ورمل نساءه، واجعله يتمنى الموت ثم لا يجده، وخذ سمعه وبصره، واختم على قلبه، ولا توفقه للتوبة، وإن كان كافراً لا تهده إلى الإسلام، فهذا الدعاء أصبح الداعي بسببه ظالماً، تعدى الحد، ولو قال مثل ابن مسعود: اللهم إن كان محتاجاً فاجعلها غنى له، وإن كان غير محتاج فاجعلها آخر عهده بالحرام.

فإن أبى فيقول: اللهم جازه بما يستحق، لكن أحياناً تصدر دعوات عجيبة جداً، على أمر أحياناً يسير، والمشكلة أننا أحياناً نتكلم ولا نفكر، وندعو ولا نفكر، فيكون الإنسان ظالماً بهذا العمل، فمن الأسلم للإنسان أن يقول: اللهم جازه بما يستحق.

فالمقصود أن هذا الغلام قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، تأتي صاعقة فيحترقون، ترجف بهم الأرض، يحصل لهم مرض وآفة، يموتون بأي طريقة.

هذا الإمام أحمد لما اقتيد إلى المأمون في فتنة خلق القرآن، وكان قد طلبه ليقتله، دعا ربه وهو في الطريق أن لا يريه وجه المأمون، فمات المأمون قبل أن يدخل الإمام أحمد إلى المدينة التي كان المأمون موجوداً فيها.

وسفيان الثوري -رحمه الله- لما طلبه أبو جعفر المنصور، وكان جباراً ظالماً، وكان سفيان الثوري إماماً كبيراً من أئمة المسلمين، كان قد اختفى في مكة، فقدم أبو جعفر المنصور إلى مكة، وللحرب النفسية أرسل الخشابين قبل أن يدخلها، وأمرهم أن يضعوا له الخشب التي يصلب عليها سفيان، وأقسم أن يصلب سفيان الثوري.

وكان سفيان الثوري نائما بين الفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة في صحن الحرم عند الكعبة، رأسه في حجر أحدهما، ورجليه إلى الآخر، وسفيان بن عيينة يقول له: قم فاطلب مكاناً تختبئ به، لا تشمت بنا أهل البدع، يعني: حينما تصلب، فقال: إنه -يتكلم عن نفسه- كافر بهذه -يعني: الكعبة- إن دخلها أبو جعفر المنصور، فمات أبو جعفر قبل دخول مكة، فقد دعا عليه ربما، فرأى ذلك في المنام أن الله استجاب له، أو ما أشبه ذلك.

فقد يدعو الإنسان على هذا الظالم، لكن الدعاء الأحسن أن يكون بما لا يتجاوز به الحد، وجنود الله قد تكون حشرات يسيرة جداً، قد تكون طيوراً، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1].

انظروا هذا الطوفان والزلزال الذي حصل في هذه الأيام، خلّف عشرات الألوف، غمرتهم المياه، وتزلزلت الأرض تحت الماء، فجاء عذاب الله ونقمته على تلك البلاد الشاسعة التي تقع على غرب المحيط، وعلى شرقه، وصار أولائك العرايا على الشواطئ الذين يتسكعون في تلك الشواطئ الدافئة، الذين جاءوا من كل حدب وصوب من بلاد الغرب، صاروا جثثاً هامدة بعد أن انسحب الماء وعاد إلى البحر.

ولو قرأتم في البداية والنهاية في تاريخ ابن كثير -رحمه الله- لرأيتم عجائب مما أوقعه الله بالظالمين، فقد ذكر أشياء عجيبة جداً، مما يحضرني منها: أن الماء يحصل فيه جزر شديد فيدخل الناس يلتقطون اللؤلؤ في داخل البحر، وفجأة يرجع الماء عليهم فيغرقون، ومن المعلوم أن المد لا يرجع فجأة، ولكن وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ، فهذا الماء اللطيف الذي نشربه قد يكون عذاباً قاتلاً مدمراً.

حتى قالوا: إن سرعة هذه المياه العاتية لربما بلغت إلى ألف كيلو متر في الساعة، كسرعة الطائرة تقريباً، أو أكثر، حتى إن الخبراء يقولون: لا قِبَل لشيء بالوقوف في وجهه إطلاقاً، هذا عذاب، عقوبة من الله ، ولكن الغفلة!.

فالمقصود أن الغلام قال: اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] وعقب بالفاء التي تدل على السرعة، لكن وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.

فرجف بهم الجبل، فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، ولم يبحث عن مخبأ، أو ملجأ، أو بلد آخر يفر إليها، فلا زال مصراً على مبدئه، لم يخوفه عظمة ذلك الملك، ولم يخوفه جيوشه وجنوده وحراسه، فجاء إليه يمشي، وكأنه يقول: ها أنا قد جئت، ماذا عساك أن تصنع؟ فهو صاحب دعوة يريد أن يبثها في الناس، ولا يهمه أن يقتل، إنما كان همه أن يبلغ دعوته إلى الآخرين.

يقول: فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى يعني: هلكوا، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به ... لا زال مصراً، وهذا يدل على أن من طمس الله على قلبه مهما رأى من الآيات والنذر فإنه لا يؤمن، ولذلك نحن نتمنى لو رأينا النبي ﷺ ولكنه رآه أقوام كثير، فكُبوا على وجوههم في النار، ولم تنفعهم رؤية النبي ﷺ.

المنافق الذي رأى النبي ﷺ حينما كان في طريقه إلى غزوة تبوك، فقلّ الماء، فرفع رسول الله ﷺ يديه إلى السماء، وليس في السماء سحابة واحدة، فجاءت سحابة فأمطرت واستقوا وسقوا دوابهم، فقال بعض أصحاب النبي ﷺ لهذا المنافق: ويحك، أما ترى؟

قال: إنما هو سحاب عارض، وهكذا كما فعل بعض الزنادقة والكتاب من المنحرفين في بعض البلاد العربية، لما خرج الدعاة إلى الله قبل نحو عشر سنوات للاستسقاء، وصلوا فأنزل الله المطر، فكتبت الصحف آنذاك أن هؤلاء درسوا الأحوال الجوية، ووجدوا منخفضاً، أو مرتفعاً جوياً، وعرفوا أنه سينزل المطر في هذا الوقت، وعملوا هذه التمثيلية، وصلوا للاستسقاء، فنزل المطر، فقالوا: ها نحن قد استسقينا ونزل المطر.

الزلزال الكبير الذي وقع في تركيا، يحدثني بعض من كان موجوداً في ذلك اليوم، يقول: حصل كسوف للشمس، ولم يصلِّ أحد، دخلنا عدة مساجد ولم يصلَّ أحد.

وبعد أيام حصل الزلزال الكبير، يقول: فخرج الناس في منتصف الليل عرايا، وبألبسة نومهم، خرجوا من كل مكان إلى الشوارع والساحات، فهم يخافون الجلوس تحت أي سقف؛ لأنهم يتوقعون هزة أخرى، خرجوا في حالة من الذعر، يقول: فأذن الفجر بعد ذلك، ولم يصلِّ إلا أنا وصاحبي، والإمام والمؤذن، والناس حول المسجد في الساحات، ولما تكلم بعض الدعاة عندهم بأن هذا عقوبة من الله كان ذلك سبباً لاتهامهم، واستدعائهم، واستجوابهم، والتحقيق معهم، كيف تقول أن هذا عقاب؟

وربما فسر الناس هذا العقاب أنها قضايا طبيعية، ويغفلون عن مدبر ومصرف هذا الكون، الذي بيده مقاليد كل شيء.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة