الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكنا نتحدث عن حديث الغلام والساحر، وكان آخر ذلك الحديث هو أن الغلام علّم الملك الطريق التي يمكن فيها أن يقتله، حيث أمره أن يجمع الناس في صعيد واحد، ثم يأخذ سهماً من كنانته، ثم يضع السهم في كبد القوس، ثم يقول: بسم الله رب الغلام، ثم يرميه به، فقام ذلك الملك، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، فعمل ما أشار به عليه هذا الغلام عملاً دقيقاً، وأخذ بوصيته بمجامعها، وكان الحري به أن يقبل منه ما دعاه إليه وهو أنه حثه على الإيمان بالله، وأن الله هو ربه، ورب الخلق، وقد رأى الآيات ظاهرة أمام ناظره، ولكن الله إذا خذل عبداً فلا سبيل إلى رفعه، فالمخذول من خذله الله ، هانوا على الله فهانت عليهم نفوسهم، فلم يرتفعوا، لم يرفعوها بالإيمان والعمل الصالح، فلا زالوا يتمرغون في أودية وأوحال الهلكة حتى فارقوا هذه الحياة، ومن يهن الله فما له من مكرم.
فقال: بسم الله رب الغلام، وقلنا: إن هذا يدل على عماه؛ لأن نتيجة ذلك أن الناس سيؤمنون جميعاً إذا شاهدوا هذه القضية التي طارت أخبارها، وصاروا يتحدثون عنها، ولكن الحنق والسفه يعمي صاحبه، فيروم نفعاً فيضر نفسه، ويجني عليها.
قال: ثم رماه فوقع السهم في صُدغه، فوضع يده في صُدغه في موضع السهم فمات الصُدغ في الإنسان ما بين العين إلى الأذن، أصابه السهم في هذا الموضع، فوضع يده على موضع السهم، ثم مات، أرخَصَ الحياةَ من أجل أن يعلو ويرتفع، فليست القيمة أن يعيش الإنسان فيكون يحيا حياةً الموتُ أشبه ما يكون بها، حياة الأموات، كم من ميت لا يزال ذكره في العالمين، كهذا الغلام، يُحيي الله بموته أمة، وكم من أحياء يأكلون العلف، وليس لهم هم، ولا غاية، ولا مطلوب إلا إشباع البطون وتحصيل الشهوات، ومعافسة رغبات النفوس، فلا يزال الواحد ينحط وينحدر من إنسانيته وكرامته، فيعيش صغيراً، ويموت صغيراً، يحيا لهمة دنية وضيعة، من أجلها يعمل، ومن أجلها يكافح، ومن أجلها يدرس ويتعلم، ومن أجلها يتوظف، ومن أجلها يحيا، ولو سألناه لماذا تعيش؟ قال: من أجل أن آكل، ولماذا تأكل؟ من أجل أن أعيش، ولماذا تعيش إذاً؟، وما فائدة هذا العيش الذي ليس فيه ارتفاع وسمو بالروح؟
فيعبّد الإنسان نفسه لله ، ويتقرب إليه، ويلتذ بمناجاته، فيكون عابداً له على الوجه الذي يرضي الله -تبارك وتعالى، لا يكون عابداً لنفسه وهواه وشهوته، فإن الذي يعيش من أجل هذه الأمور يكون عبداً لها، كما قال النبي ﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة تعس وانتكس...[1].
يدعو عليه النبي ﷺ بذلك، ويخبر عنه بحاله التي تليق به وبأمثاله، فالمقصود أن الحياة ليست مقصودة لذاتها، خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله[2].
فإنما يحسن بالإنسان في حياته أن يملأها بما يرفعها، بما تكون به هذه الحياة كريمة، ولها قيمة حقيقية، يعيش الإنسان لمعنى، لهدف سامٍ كبير، لا يعيش من أجل همة تستوي تماماً مع همة الحيوان، الله كرمه وفضله، الحيوانات تعيش لتأكل، وتأكل لتعيش، بينما الإنسان لا يعيش ليأكل، ولا يأكل لمجرد العيش، وإنما يأكل ليتقوى على طاعة المعبود ، والقيام بوظائف العبودية، ليكون شاكراً بلسانه وقلبه وجوارحه، فالحياة أمدها قصير، وكل إنسان سيفارقها، مات الغلام، ومات أهل الأخدود، ومات من كان يتفرج، ومات من ضعف وتراجع -إن كان أحد منهم ضعف وتراجع، ومات الملك، وذهب أهل الزمان، ولم يبق أحد، وما نقص من أجل أحد منهم دقيقة واحدة، الجميع ماتوا.
مات شيخ الإسلام ابن تيمية، ومات تلميذه الذي خرج بعد أن مات في سجنه وهو ابن القيم، ومات السجان، ومات القاضي الذي حكم عليه بالسجن، ومات الشهود، ومات الوشاة، ومات الجبناء، والضعفاء والخائفون، وبقيت الأعمال مرصودة.
ونحن نمر بطورنا في هذه الحياة، لنأخذ دورنا فيها، فبين قائم لله بما يجب، وبين مفرط ومضيع وناسٍ لأهداف هذا الوجود، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2].
قال: فقال الناس: آمنا برب الغلام، هذه نتيجة طبيعية لما حدث، آمنا برب الغلام، وهذا من تدبير الله ولطفه، ليست الخسارة أن يموت هذا الغلام، وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 140-141].
عرضُ النبي ﷺ يرمى بأبشع فرية، تتهم زوجه الطاهرة -ا- بالزنا، ثم يقول الله في تلك المحنة التي استمرت شهراً كاملاً: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النــور:11].
فهذه دار تمحيص، ودار ابتلاء، ومعالجة لهذه النفوس، يُرفع أقوام، ويوضع آخرون، بحسب ما يتقلبون به في هذه الدار.
فآمن الناس جميعاً بموت هذا الغلام.
قال: فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، وهؤلاء هم بطانة الشر، الذين يغرونه بالمنكر، ويحركون نفسه من أجل أن تستثار على كل فضيلة، فتمحوها فيكون حرباً على الخير، والإصلاح، والفضل، والدين والمعروف، فيكون مفسداً حرباً لله ولرسوله ﷺ، كما قال الملأ من قوم فرعون: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127].
قال: فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخُدت، وأضرم النيران، الأخدود هو الحفرة التي تكون في الأرض، حفرت في أفواه السكك، يريد أن يحرق مدينة كاملة عقوبة لهم على إيمانهم بالله، ولم يُعوزه أن يجد الجند الذين يحفرون له الأخاديد التي يحرق فيها أهل الإيمان، ولم يُعوزه أن يوجد من يتكفلون له بإلقاء الناس فيها، فهؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان، والله يبلو بعض الناس ببعض.
تصور كم استغرق حفر تلك الأخاديد، وكم احتاج إلى جهود، وكم بذلت فيه من أموال، وكم احتاجوا إلى جلب للحطب من أجل أن تضرم في تلك الأخاديد.
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36]، فهم لا يفتئون في العمل الدائب بتحقيق الفساد في الأرض، كل أحد ينشر مبدأه، فحري بأهل الإيمان، حري بأهل الإسلام أن يكونوا أعظم همة في نشر مبادئهم، ومعلوم أن من لم يغزُ الناس بمبادئه فإنه يُغزَى، من لم يهاجم الناس بمبادئه وينشر هذه المبادئ في الآفاق -في العالمين- فإنه يغزى، يصير في موقف المدافع في أحسن أحواله، ولن يلبث المدافع غالباً أن يتقهقر فتغزوه الأفكار والمبادئ المنحرفة، وإن لم تصب منه مقتلاً فإنها تصيب مَن بعده من الأجيال، وأول ذلك أبناؤه، ولذلك لابد من مدافعة الشر والباطل، وأهل الباطل بالمعروف والخير.
قال: وقال لهم: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، أي: شك من الراوي، إما أنه طلب منهم أن يقحموه، أو يقال له: اقتحم في النار، وإن أبى فهم جاهزون لإقحامه، ولن يترددوا في ذلك.
قال: ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست يعني: كأنها ضعفت، وتثاقلت أن تلقي نفسها في النار، لربما شفقة على ولدها، ومعلوم قلب الأم والوالد، تصور أن هذه الأم وهي تحتضن صغيرها، وتلقي نفسها بالنار تصطلي بها، وتقاسي حرها حتى الموت، أمر ليس بالقضية السهلة، يدرك ذلك الإنسان حينما يرى صغيره أو صبيه يصارع المرض، وهو لا يألو جهداً في دفعه عنه ومعالجته، فكيف يقدم مختاراً فيلقي نفسه بالنار وهو يحتضن هذا الصغير؟!، كأني به قد سقط وإياها في النار وهي حاضنة له، فيبس بين يديها وتفحم في حجرها.
قال: فقال لها الغلام -وهو دون سن الكلام: يا أُمّهْ اصبري فإنك على الحق رواه مسلم، هذا أحد الذين نطقوا في سن الصغر، في المهد، "اصبري"، فأنطقه الله فكان ذلك آية، وكما ذكرت لكم سابقاً أن الله يظهر هذه الآيات والكرامات حينما يكون الناس بحاجة إليها لتقوي عزائمهم، وتثبت يقينهم، وأنهم على الحق، ولذلك ذكر شيخ الإسلام أنها في المتأخرين أكثر منها في المتقدمين؛ لحاجة المتأخرين إلى التثبيت.
فلا شك أنها إذا سمعت هذا الكلام لن تتردد، فستقتحم، والعجيب أن تلك الناحية التي يقال: فيها الأخدود -الذي يُذكر في عصرنا الحاضر أنه محله- هي مكان قد جحفه السيل فشقه شقوقاً في مواضع كثيرة جداً في منطقة شاسعة، وقد رأيت ذلك بنفسي ولم أقصده، لكن كنت في تلك الناحية، فرأيت العظام محرقة، رأيتها بعيني لم يحدثني بهذا أحد، طفت في تلك الناحية، وأتعجب إلى ساعتي هذه، كيف بقيت العظام إلى هذه الساعة؟! العظام تأكلها الأرض، لا أدري هل ذاك هو فعلاً الأخدود أو لا؟ لكن قد وضعت عليها لوحة والناس يقولون هذا مكان الأخدود، لكن العجيب أنها لو لم تكن محترقة لقلت: إن هذه مقبرة قديمة جحفها السيل، هي أرض واسعة جداً، تتعب وأنت تمشي فيها، شقها السيل من نواحٍ على أكبر من قامة الإنسان، فبقي فيها أماكن في هذه الشقوق التي صارت كالجدارن تمشي في خلالها وترى الزهومة في كل تلك التربة، ترى تراباً قد تغير لونه عن سائر التراب -أجساداً متحللة، وترى قطعاً من العظام تتخلل هذه التربة، فحينما جحفها السيل ظهر بعضها قطع صغيرة وكبيرة، ومن ساعد اليد، عظام آدميين قطعاً، فبعضها محروق المنتصف، يعني: نصف العظم موجود، ونصفه محروق، آثار الحرق ظاهر جداً عليه، وبعضها عظام غليظة، الفخذ والساق وما أشبه ذلك، أنا لست أدري هل هذا هو الأخدود فعلاً أو لا؟
والحديث أنه أمَرَ بالأخاديد فخُدت في أفواه السكك، فهي أكثر من أخدود، ربما يكون هذا واحداً كبيراً منها، ربما لا يكون -الله أعلم، لكن الناس يقولون: هذا هو موضع الأخدود، وأيضاً الأثر الموجود في هذه العظام مع أن ذلك يستغرب كيف تبقى هذه الآماد المتطاولة؟ ما يقرب من ألفي سنة، ولا زالت، فربما يكون الله أبقاها للناس عظة وعبرة، أو غير ذلك، فالعلم عند الله .
والله أثبت هذه القصة في كتابه: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج : 4 - 8].
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأن يحشرنا وإياكم تحت لواء نبيه ﷺ، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (3/ 1057)، رقم: (2730)
- عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله، قال: فأي الناس شر؟، قال: من طال عمره وساء عمله، أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول اللهﷺ (4/ 566)، رقم: (2330)، وأحمد (34/ 58)، رقم: (20415).