الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن أنس قال: مر النبي ﷺ على امرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري[1].
مر ﷺ على امرأة تبكي عند قبر، وجاء في بعض روايات الحديث: تبكي على صبي لها[2].
وهذه المرأة مر بها النبي ﷺ وهي في حال مصيبة، قد فقدت صبيها وصغيرها، ومعلوم منزلة الولد من قلب الوالد.
فقال لها: اتقي الله واصبري، فأمرها بالتقوى أولاً؛ لأن من تحقق بالتقوى فإنه يكون ممتثلاً مذعناً لمطلوبات الشارع، ومن فقد التقوى فإنه لا يستطيع أن يَزُم نفسه بزمام الطاعة، فتنفلت عليه نفسه، وينفرط صبره، فيصدر منه من ألوان الجزع، والتعدي، والأقوال والأفعال غير اللائقة ما لا يخفى.
فأمرها بالصبر، وهذا هو الشاهد الذي من أجله أورد الإمام النووي -رحمه الله- هذا الحديث في باب الصبر.
وهذا الصبر هو حبس النفس في حال المصيبة عن الجزع والتسخط والنياحة، وأشباه ذلك مما لا يجوز للإنسان أن يفعله في مثل هذه الأمور المكروهة المؤلمة التي لا يخلو منها إنسان.
وليس أمام الإنسان طريق أمام المصائب سوى الصبر، وإلا فإنه مهما فعل لن يسترد به فائتاً، ولا يمكن أن يستدرك به أمراً يطلبه وينوح على فقده، فإما أن يصبر صبر المؤمنين، وإما أن يسلو كما تسلو البهائم، يخف أثر المصيبة عنه يوماً بعد يوم، ثم بعد ذلك تتلاشى، فهذا أمر لا يليق بالمؤمن.
فقالت: (إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه)، يعني ابتعد عني، ولم تعرفه ﷺ، وفي بعض الروايات قالت: (إليك عني، فإنك خِلْوٌ من مصيبتي)[3]، ومعنى خلو من مصيبتها: أنه فارغ البال، فهي لم تعرفه ﷺ، فتقول: أنت تأمرني بالصبر، ولم تذق ما ذقت، قال: (فقيل لها: إنه النبي ﷺ)، وجاء عند مسلم: (فأخذها مثل الموت) لما علمت أنه النبي ﷺ فصار ذلك أعظم من فقدها لولدها ومصابها، أخذها مثل الموت؛ إجلالاً لرسول الله ﷺ أن تخاطبه بمثل هذا الخطاب.
قال: (فأتت باب النبي ﷺ فلم تجد عنده بوابين) لكمال تواضعه ﷺ، على غير عادة الملوك فإنه لا يتمكن الداخل من الدخول لوجود الحرس، والبوابين على أبوابهم، فوجدت باب النبي ﷺ كغيره من الأبواب ليس عليه حارس، ولا بواب، وكأنها كانت تظن أن بابه ﷺ لابد أن يكون محروساً، فلما جاءت قالت له: (لم أعرفك)، تعتذر إليه من مقالها، فقال لها : إنما الصبر عند الصدمة الأولى، ومراد النبي ﷺ بذلك -والله أعلم- أنه ﷺ أعرض عن اعتذاراها إليه، لأنه ﷺ لا يطلب بحقه ولا يقف عند نفسه، وإنما نبهها على أمر من مطلوبات الشارع، وهو أن يكون الصبر حال وقوع المصيبة، لا إذا عاد للإنسان عقله، وفكره ورويته بعد ذلك، فإن المصيبة لها صدمة في أولها، وهذا شيء مشاهد.
وكثير من الناس يتصرفون بتصرفات لا يدرون كيف تصرفوها، ويتكلمون بكلام لا يعرف الواحد كيف تكلم به، بل لربما قيل لأحدهم: إنك قمت تصلي، وهو لا يدري عما وقع منه، وقد شاهدنا شيئاً من ذلك، وبعضهم لربما تكلم بكلام ولطم نفسه، وصاح وما إلى ذلك، فإذا قيل له ذلك لم يتذكر شيئاً منه، ولربما إذا ذُكّر به استحيا وخجل، وتمنى أن ذلك لم يقع منه، أو أن ذلك لم يكن بحضرة فلان أو فلان، مما يبين ضعفه وعجزه وهلعه وخوار نفسه، ومنهم من قد يتصرف بتصرفات أخرى في حال الصدمة الأولى، بعضهم لربما لا يشعر بشيء من مصيبته، وإنما يشعر بها بعد مدة، على عكس المتوقع، يعني بعضهم يقول بأنه مسترسل في حاله وفي ضحكه، بل لربما بعضهم ضحك حينما يسمع الخبر، ثم بعد ذلك يأتيه ما لا قبل له به من الحزن، ولربما تأخر ذلك عنه على غير العادة.
قوله: إنما الصبر عند الصدمة الأولى، يعني: بمجرد وقوع المصيبة، هذا أوان الصبر إن كنت حازماً، وأما إذا هدأت النفس فإن الصبر هنا لا يحمد؛ لأنه قد ذهب موطنه، ولذلك رخص الشارع في الحداد للمرأة أن تحد على غير الزوج ثلاثة أيام، لا تزيد على ذلك، والسبب في هذا أن المصيبة تبقى محتدمة في النفس حارة طرية هذه المدة عادة، وهذه طبيعة ركبها الله في النفوس.
ومن لطف الله أن الإنسان يسلو وينسى، وإلا لدامت حسراته وأحزانه، ولم يهنأ بنوم، ولا طعام، ولا شراب، ولا خُلطة، وبالتالي أخذ من هذا الفقهاء -رحمهم الله- أن العزاء ثلاثة أيام، وهذا ليس عليه دليل خاص، لا في الكتاب، ولا في السنة، وإنما استنبطوا ذلك استنباطاً من بعض الأدلة، مثل: أن المرأة تحد على غير الزوج ثلاثة أيام[4].
فالمصيبة تخف بعد الأيام الثلاثة عادة، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالهجر، لا يحل للإنسان أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث[5]، يعني: لحظِّ نفسه، ورخص في الثلاث؛ لأن النفس تبقى محتدمة في هذه الثلاث، وهذا شيء مشاهد، فإذا حصل بين إنسان وآخر خصومة أو نحو ذلك فإن ذلك يَبقى مضطرماً في نفسه، فإذا مضى عليه اليوم الثالث لربما هدأت النفس، وذهب ما فيها، أو كثير مما فيها، وعندئذ لا يعذر بهجره، وهذا من لطف الشارع بالمكلفين، حيث لم يحملهم ما لا يطيقون.
فأخذ من هذا كثير من الفقهاء -رحمهم الله- أن العزاء يكون ثلاثة أيام، وهذا فيه نظر؛ وذلك أن العزاء إنما يُقدم لمن أصيب، فإذا كانت المصيبة حارة فإنه يعزى ولو بعد الأيام الثلاثة، وإذا ذهب أثرها في النفس، أو خف فإنه لا يُذكَّر بمصيبته، ولا يقال له: أحسن الله عزاءك، وقد تسلى عنها ونسيها، فهذا أمر لا يليق، فهذا هو ضابط هذه المسألة.
فبعض الناس يقول: مضت الأيام الثلاثة، انتهى وقت العزاء، نقول له: ينظر في حال هذا المعزَّى، إذا كان لا يزال في حزنه فإنه يعزى، وإن خفت مصيبته فلا.
ومسائل الصبر وأعمال القلوب لا يكفي فيها العلم، بل لابد فيها من المجاهدة، والترويض، ومراقبة الخطرات، وملاحظة النفس في كل حالاتها، ما يكفي العلم، وقد رأينا من يحمل علماً كثيراً وهو من أشد الناس جزعاً عند وقوع المصيبة، رجل ينسب إلى العلم -بل هو في عداد العلماء- يموت ابن له فتتغير حاله شهوراً، ويصير في حالة أشبه فيها بمن فقد صوابه، أو صار بمنزلة الصبي، وكلما دخل عليه داخل أخذ بيده، وجعل يمشي معه في حجرته ليريه كيف سقط ابنه ثم مات، وهكذا، ويكرر ذلك ويعيده، ويأبى أن يطفئ النور الذي في حجرة هذا الابن، ويترك ثيابه معلقة، بل لربما صدر منه بعض الهلاوس، لربما قال: لم يمت فلان؛ لشدة الصدمة، وهذا شيء مشاهد، لربما قالت المرأة عن زوجها: فلان سيرجع، فلان لم يمت، كما قال بعض الصحابة لما صدموا بموت رسول الله ﷺ.
والله يقول: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، يتذكر الإنسان هذه الآية عند المصيبة ويقرؤها، كذلك إذا حصلت المصائب الكبار، والبلايا العظام للأمة، والامتحان والاختبار يتذكر قول الله : وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22].
ويتذكر أن الضعف، والبكاء، والعويل لا ينفعه بل يضره، ولربما عُذب به هذا الميت، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصبر واليقين، والثبات والسداد في الأمر، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور (1/ 430)، رقم: (1223)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (2/ 637)، رقم: (926)، واللفظ للبخاري.
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (2/ 637)، رقم: (926).
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب ما ذكر أن النبي ﷺ لم يكن له بواب (6/ 2615)، رقم: (6735).
- قال ﷺ: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب حد المرأة على غير زوجها (1/ 430)، رقم: (1221)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام (2/ 1123)، رقم: (1486).
- قال ﷺ: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة (5/ 2256)، رقم: (5727)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي (4/ 1984)، رقم: (2560).