الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الصبر جاء من حديث ابن مسعود قال: دخلت على النبي ﷺ وهو يُوعَك، فقلت: يا رسول الله، إنك تُوعَك وعْكاً شديداً، قال: أجل، إني أُوعَك كما يوعك رجلان منكم قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته، وحُطت عنه ذنوبه كما تَحُطُّ الشجرةُ ورقها[1].
فعلاقة هذا الحديث بباب الصبر واضحة، وذلك أن النبي ﷺ وهو أفضل من وطئ على الأرض ﷺ كان يصيبه من ألم الحمى ما يقع على رجُلين اثنين، وأنتم تعرفون الحمى حينما تقع بالواحد منا كيف تنهار قواه، بحيث إنه لا يستطيع أن يقوم ويتصرف في شئونه، بل هو في حال الله يعلمها، فإذا كان ذلك الذي يقع لهذا الإنسان فتنهدّ قواه بسببه يقع للنبي ﷺ ضعفه فهذا يدل دلالة واضحة على أن شدة البلاء، وأن شدة المرض لا تعني أن الله يمقت العبد، فإذا وقع فيه بليةٌ أو نازلة فلا يعني ذلك هوانه على ربه ، وإنما يُشدَّد عليه في هذا، ويصبر، فهو مأمور بالصبر، والصبر واجب، فيكون ذلك أعظم في أجره، فإنّ عظم الجزاء على عظم البلاء.
فهذا ابن مسعود لربما رأى ما بالنبي ﷺ من شدة الحرارة، أو أنه رأى ما به مما يبدو عليه من أثر المرض الشديد.
فقال له: يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً، يعني: أن الحمى تصيبك إصابة بليغة، والوَعْك هو الحمى وحرارتها وشدتها.
قال: أجل، وهذه الكلمة أبلغ في الإجابة، كأنه قال: نعم، لكنه جاء في لفظة أبلغ في أداء المعنى وتحقيق الجواب، قال: أجل، يعني: أن الأمر كذلك، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم وهو أشرف الخلق، فإذا وقع بك شيء تكرهه فينبغي أن تتذكر ذلك، أن هذه الأعراض التي تصيب الإنسان من جملة ما يُحَتُّ به عنه الخطايا، ويرفعه في درجات الجنة عالياً، فلا ينبغي له أن ينزعج، وأن يتململ، وأن يتضجر، فنحن نرى من الناس من إذا أصيب بالحمى أو بنحو ذلك انفرط صبره، وجعل يتسخط، ويتذمر، وهذا أمر لا يجوز، المرض لا يرتفع بتذمره، ولا يستفيد شيئاً، فالتذمر ليس علاجاً، وكذلك أيضاً هو حينما يفعل ذلك يفقد أجره فلا يكون له من هذا التذمر إلا تعذيب النفس، وتعذيب من حوله ممن حضره من أهله ونحو ذلك، فإن هذه الأمور تؤثر في النفوس تأثيراً ظاهراً، فإذا كان هذا الإنسان المريض يتأوه ويتضجر ونحو ذلك فإن ذلك ينعكس ألماً وحزناً في نفس ذويه وأهله، لكن لو أنه صبر وحمد الله ، ولم يبدُ منه شيء لكان ذلك خيراً له.
الإمام أحمد -رحمه الله- كان يئن في مرضه الذي وقع له، فقيل له: بلغنا أن الأنين يكتب، فما سُمع منه الأنين حتى مات، الأنين! فكيف بالتسخط والتضجر والتذمر؟!
قال ابن مسعود: ذلك أن لك أجرين؟، قال: أجل، ذلك كذلك يصيبه المرض مضاعفاً، فيكون له الأجر مضاعفاً.
ثم بيّن النبي ﷺ هذا ليُشعر أن البلاء العظيم إذا نزل بالمؤمن غير النبي ﷺ أن ذلك يكون أعظم في جزائه، فقال ﷺ: ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته، وحُطت عنه ذنوبه، كما تَحطُّ الشجرة ورقها أخرجه البخاري ومسلم.
ولفظة "فوقها"، تحتمل معنيين:
الأول: ما هو أدق منها، وأدنى منها، وهذا لا يتصور -أقل من الشوكة، فما فوقها يعني في الدقة والصغر.
الثاني: فما فوقها يعني ما هو أكبر وأعظم منها، وهذا هو الأقرب المتبادر، لأن الإنسان عادة يعبر بالشوكة عن الأدنى، ولذلك قال صاحب النبي ﷺ وهو على خشبة الصلب: "ما أحب أن أكون في أهلي ورسول الله ﷺ تصيبه شوكة" فذكر الأدنى والأقل، تقول: فلان لا أحتمل أن تصيبه شوكة مثلاً، لا أحب أن تصيبه شوكة، بمعنى: أنك ذكرت الأقل.
قوله: إلا كفر الله بها سيئاته والتعبير بالحصر، بالنفي والاستثناء، مثل لا إله إلا الله، أقوى صيغة في الحصر.
ما من مسلم يعني: سواء كان مطيعاً أو فاسقاً، على عبادة عظيمة أو هو مقصر إذا وقع له البلاء والمرض فإن الله يكفر عنه من ذنوبه.
لم يقل: ما من مسلم تقي، ما من مسلم عابد، ما من مسلم مشمر في طاعة الله، بل قال: ما من مسلم أيّ مسلم يقع له شيء من ذلك إلا كفر الله بها سيئاته، ولم يذكر هنا قضية الاحتساب، فإذا أخذنا بظاهره نقول: إنه يؤجر على ذلك وإن لم يستحضر الاحتساب، لكن بشرط أن لا يتسخط؛ لأن التسخط حرام، اعتراض على قدر الله .
إلا كفر الله بها سيئاته والسيئات إنما سميت بذلك؛ لأنها تسوء صاحبها حينما يقرؤها في كتابه في اليوم الآخر، حينما يرى المعصية مكتوبة، وهذا وجه في تفسير السيئات.
وحُطت عنه ذنوبه توضع عن ظهره، كأنها أحمال على ظهره تثقله وترهقه فتوضع هذه الأحمال والذنوب كما تحط الشجرة ورقها، أرأيتم إلى الشجر في فصل الخريف؟ لا تبقى إلا الأغصان، فكذلك المرض، ولذلك جاء في آثار وأحاديث: أن أهل البلاء يتمنون أن ذلك قد ضوعف عليهم في الدنيا، لِمَا يرون من الجزاء في الآخرة[2].
نسأل الله أن يلهمنا وإياكم الصبر والثبات، وأن يشرح صدورنا وييسر أمورنا، ويغفر لوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يلطف بنا ويصلح شأننا كله، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول (5/ 2139)، رقم: (5324)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (4/ 1991)، رقم: (2571).
- من ذلك ما جاء عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ (4/ 603)، رقم: (2402).