الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب الصبر أورد النووي -رحمه الله- حديث ابن مسعود قال: لما كان يوم حنين.. [1].
والمقصود به غزوة حنين، وذلك أن النبي ﷺ حينما فتح مكة اجتمعت عليه ثقيف وهوازن، ونزلوا في وادي حنين، وهو وادٍ من وراء عرفة إلى ناحية الطائف، بين مكة والطائف، بينه وبين مكة بضعة أميال، فكمنوا لرسول الله ﷺ في مضائق الوادي، فسمع بهم النبي ﷺ فخرج إليهم في شوال -بعد أن فتح مكة- في جيش كبير يقدر باثني عشر ألفاً من المقاتلين، عشرة آلاف منهم كانوا قد ساروا مع رسول الله ﷺ من المدينة وهم الذين فتحوا مكة، وألفان كانوا ممن أسلم في مكة عام الفتح، فخرجوا وكان أولائك الذين خرجوا من أهل مكة فيهم من ثبت الإسلام في قلبه، وفيهم من كان متردداً متذبذباً، وفيهم من خرج وهو على دينه يريد أن ينظر، وأن يرى النصر والوقعة تكون لمن.
ولما انهزم المسلمون في أول الأمر، وانهالت عليهم السهام كأنها مطر يزعزعه الريح، فرجعوا منهزمين وثبت رسول الله ﷺ وثبت معه نفر قليل لا يتجاوزون العشرة، وكان يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب[2]، وهو على بغلة لا تحسن الكر والفر ﷺ، وهذا من دلائل شجاعته وثباته العظيم ﷺ، وكان صفوان بن أمية قد خرج، وكان قد خرج معه أخ له من غير أشقائه، فقال: اليوم بطل سحر محمد، والله لا يردهم منهزمين إلا البحر، كأنه فرح بهذا، فقال له صفوان: لا تقل هذا، فوالله لأن يَرُبَّني رجل من قريش خير من أن يَرُبَّني رجل من هوازن، فالقضية كانت بالنسبة إليه قبلية.
فالمقصود أن النبي ﷺ رجع إليه أصحابه، لما أمر العباسَ أن ينادي فيهم: يا أصحاب السَّمُرة، يا أصحاب الشجرة، وهم الذين بايعوا تحت الشجرة في وقعة الحديبية، الذين قال الله عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18]، وهو فتح خيبر.
فالمقصود أنهم عطفوا عليه عطفة البقر على ولدها، حتى إن جمل الرجل ليأبى أن ينقاد معه لكثرة السهام، فينزل عنه، ويأتي إلى رسول الله ﷺ راجلاً، حتى اجتمع حوله رجال كثير، ففتح الله على أيديهم، فكان عند ذلك أن اشتد القتال فنظر إليهم النبي ﷺ يجتلدون بالسيوف، فقال: الآن حمي الوطيس[3]، فراحت مثلاً، الآن حمي الوطيس يعني: وطيس المعركة، فنصر الله نبيه ﷺ وأنزل الله جنوداً لم يروها.
فالحاصل أن النبي ﷺ حصل له غنائم كثيرة جداً في وقعة حنين، وذلك أن مالك بن عوف النصري وكان قائداً لهوازن كان قد أمرهم أن يخرجوا بنسائهم وأطفالهم وأموالهم وذراريهم، من أجل أن يثبت الواحد منهم في أرض المعركة إذا رأى كل من وراءه خلف ظهره، فيكون ذلك تثبيتاً له حتى لا ينهزم؛ لأنها المعركة المصيرية بالنسبة إليهم، فقد انتهت قريش، وفتح النبي ﷺ مكة، وما بقي إلا أهل الطائف، فلما جاء بهم وجيء بشيخ كبير قد عمي بصره، وهو رجل مجرب بالحروب وهو شاعر معروف من عقلاء العرب وحصفائهم، وهو دُريد بن الصِّمة، فلما سمع ثُغاء الشاة، ورُغاء البعير، سأل عن ذلك، فقيل: إن عوف بن مالك النصري قد خرج بالناس وبنسائهم وذراريهم وبأموالهم، فنَبِرَ بفمه، يعني: أصدر صوتاً يستهزئ، فقال: بئس ما صنع رويعي الغنم، يعني: أنه ليس قائد معركة، ليس برجل محنك، فقالوا له: إنه فعل ذلك من أجل أن لا يفروا، فقال: إن الرجل إذا ذعر لا يلوي على شيء، يعني: إذا أصابه الهلع والفزع ما يسأل عن شيء، يذهل عن كل شيء، كما حصل في وقعة بدر لما انهزموا، وكان رجل يقال له ذو القلبين لشدة فطنته وذكائه، فلما فر منهزماً لم يرده إلا الساحل، فرأى أبا سفيان قد ساحَلَ بالعير ونجا بها، فرآه أبو سفيان وهو يحمل نعلاً وبرجله نعل آخر، فقال له: ما هذا؟ فلم يتفطن حتى قال له أبو سفيان ذلك، ويظن أنه لابس نعله.
حتى إن النبي ﷺ لما رأى سلمة بن الأكوع في وقعة حنين، وقد سقط رداؤه وانحل إزاره، فهو آخذ به ويجري منهزماً، فقال النبي ﷺ: لقد لقي ذعراً أو خوفاً، أو كما قال ﷺ.
فالأمر ليس بالسهل، إذا جاء الجد فعند ذلك لا يتذكر الرجل لا بعيره ولا أهله ولا ولده، فالمقصود أن دريد بن الصِّمة قال:
يا ليتني فيها جَذَعْ | أخُبُّ فيها وأضَعْ |
يعني: يتمنى أنه كان شاباً، فلما هُزموا أُسر، وأخذه النبي ﷺ وأمر به فضربت عنقه، وهو شيخ كبير أعمى، وذلك أنه كان ذو رأي فيهم، فيُقتل من أعانهم برأيه، كما يقتل من أعانهم بسيفه.
وقد حصل للنبي ﷺ غنائم كثيرة جداً باردة؛ لأن هؤلاء جهزوا له كل شيء، جاءوا بجميع الإبل والغنم والبقر والنساء والذراري، فأخذهم النبي ﷺ وجُمعوا في أوطاس، فصار النبي ﷺ يعطي الرجل الواحد الغنم بين جبلين، حتى قال بعض كبراء قريش: إن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ﷺ.
وأعطى الكبراء من قريش، وأعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى ابنه معاوية مائة من الإبل، وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل، وأعطى كثيرين من هؤلاء الكبراء، أعطاهم على مائة، وأعطى آخرين من رؤساء القبائل كتميم وغطفان ونحو ذلك أعطاهم، ولكن بعضهم لم يرضَ بما أعطاه رسول الله ﷺ لأنه لم ينظر إليها من الناحية المادية فقط، بل نظر إليها من الناحية المعنوية، أن هذا وضع لمكانته، وهذه الوقعة تسجلها أشعارهم فتبقى تاريخاً يتحدث الناس بها أنه أعطى فلاناً من رؤسائهم خمسين من الإبل وأعطى فلاناً مائة، معنى ذلك أن قدره دونه.
وأعطى النبي ﷺ الأقرع بن حابس سيد تميم مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري سيد فزارة مائة من الإبل أيضا، وأعطى ناسا من أشراف العرب.
وأعطى عباس بن مرداس السُّلمي سيد سُليم أقل فغضب وقال:
أتجعلُ نهبي ونهبَ العُبيد | بين عيينةَ والأقرعِ |
وما كنتُ دون امرئ منهما | ومَن تضع اليومَ لا يُرفعِ |
فهو يريد أن يعْرف الناسُ مكانته، فقال النبي ﷺ اقطعوا عني لسانه، يعني: أعطُوه، فأعطََوْه وكملوا له المائة، فسكت عند ذلك، وجعل يمدح رسول الله ﷺ ويمدح مواقفه، ومشاهده في المعركة.
فالمقصود أنه أعطى أناساً من هؤلاء الكبراء، ولم يعطِ الأنصار شيئاً، وهم الذين نصروا الدين، ولم يعطِ رجالاً لهم بلاء في دين الله .
فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عُدل فيها، وما أُريدَ فيها وجه الله، حتى تكلم بعضهم وقال: إن محمداً لقي قومه فآثرهم، وتكلم من تكلم من الناس في هذه القضية، فهذا الرجل قال هذه الكلمة، ولربما هو عند نفسه أنه صادع بالحق، ولما سمع ابن مسعود هذه الكلمة، قال: والله لأخبرن رسول الله ﷺ.
قال المؤرخون: إن هذا الرجل هو معتب بن قشير، والمعروف أن معتب من قشير من المنافقين، وهذه غير الوقعة الثانية التي قام فيها الرجل الذي هو أصل الخوارج، تلك في ذُهَيبة أرسلها علي إلى النبي ﷺ من اليمن، فقسمها النبي ﷺ بين رجال فقال ذلك الرجل: يا رسول الله، اعدل فإنك لم تعدل، وهو الذي قال فيه خالد بن الوليد يا رسول الله، دعني أضرب عنقه، فقال: لا، وقال فيه: يخرج من ضِئْضِئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم، وقراءتكم عند قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية[4] فهذه القصة في الذُّهَيبة التي أرسلها عليٌّ، وبعضهم يخلط بين هذه الواقعة وتلك، فالواقع أنهما واقعتان.
فتغير وجه النبي ﷺ لما أخبره ابن مسعود حتى كان كالصِّرْف، أي: أحمر خالص من شدة الأثر والضيق، فإن الإنسان إذا سمع خبراً لا يسره أثّر ذلك في وجهه، وقد جاء في وقائع أخرى لما خرج على أصحابه وهم يتجادلون في القدر، جاء في صفته ﷺ عند ذاك لمّا غضب وقال: بهذا أُمرتم إلى آخره، قال الراوي: حتى كأنما فُقئ في وجهه حب الرمان[5]، يعني صار شديد الحمرة.
ثم قال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، يرحم الله موسى..، نكمل الكلام في مرة قادمة، وأسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4/ 1576)، رقم: (4081)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه (2/ 739)، رقم: (1062).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قال: خذها وأنا ابن فلان (3/ 1107)، رقم: (2877)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (3/ 1400)، رقم: (1776).
- أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (3/ 1398)، رقم: (1775).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع (4/ 1581)، رقم: (4094)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2/ 741)، رقم: (1064).
- أخرجه ابن ماجه، باب في القدر (1/ 33)، رقم: (85)، وأحمد (11/ 250)، رقم: (6668).