الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب ، كلكم يعرفه، ولد في السنة الثالثة من الهجرة وهو الذي حمله النبي ﷺ على منبره أمام الناس، والتفت إليهم وقال: إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، فكان ذلك كما قال النبي ﷺ في سنة أربعين وهي التي يقال لها عام الجماعة، حينما اصطلح الحسن وتنازل بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان ، فالمقصود أن الحسن بن علي كان من خيار أهل زمانه، وهو سيد شباب أهل الجنة كما أخبر النبي ﷺ، وقد روى عن النبي ﷺ أحاديث ليست بالكثيرة تبلغ ثلاثة عشر حديثاً، وكان قد مات مسموماً في المدينة قبل سنة خمسين أو بعدها، قيل: سنة تسع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم، ودفن في البقيع.
يقول: حفظت من رسول الله ﷺ: دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك هذا الحديث أصل في الورع، بحيث إن الإنسان إذا رابه شيء، والريب هو نوع من الشك مخصوص، يعني ليس كل شك يقال له ريب، وإنما الشك الذي يورث في النفس قلقاً وتردداً، ولهذا قال الله عن القرآن، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2]، فإذا كانت النفس قلقة من شيء لا تدري هل هو حلال أم حرام، فإن الإنسان يتركه، كما قال بعض السلف : ما رأيت أسهل من الورع، فقيل له: كيف ذلك؟، فقال: إذا ارتبت في شيء فدعه، يعني: أنه لا يحتاج إلى كلفة وعمل، كقيام الليل، أو صيام النهار، أو قراءة العلم، أو ما أشبه ذلك، إذا شككت في شيء فدعه، وقال النبي ﷺ في حديث النعمان المشهور: الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبَّهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه[2]، فالمقصود أن الإنسان إذا ترددت نفسه في شيء تركه، وجاء عن النبي ﷺ في أحاديث أخرى البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس[3].
والمقصود بهذا فيما لم يرد فيه دليل فاصل، فيبقى الإنسان فيه متردداً بين الحلال والحرام، يحيك في نفسه، يكره أن يطلع عليه الناس، يعني من أهل العدالة، ومن أهل الإيمان، لأن الإنسان الذي قد ذهبت أخلاقه وصار في حال من الانحطاط فإن هذا لا يتردد ولا يستحي من الناس، لكن الإنسان الذي لا زالت فطرته سليمة، لا زالت قشرة الحياء باقية في وجهه، فمثل هذا يكره أن يطلع الناس عليه في أمر من أمور الريب.
قال: فإن الصدق طمأنينة، وهذا الشاهد في هذا الباب، لأن هذا الحديث أورده في باب الصدق، الصدق طمأنينة، والكذب ريبة، ومعنى أن الصدق طمأنينة أي أن الإنسان إذا كان صادقاً فإنه يكون مطمئن القلب، وأما إذا كانت أموره مبنية على الكذب له حال مختلفة بين الظاهر والباطن، فإنه يبقى قلقاً، وقد ينكشف في أي لحظة، وقد يظهر كذبه في المجلس الواحد من فلتات لسانه، يعني: يصدر منه ما ينقض قوله الذي قاله كاذباً فيفتضح، فإذا كذب الإنسان يبقى في نفسه شيء من عدم الارتياح والسكون وما إلى ذلك فيبقى قلقاً، وهذا مشاهد في الناس، الناس الذين يُسألون عن أمور ولا يصدقون فيها الواحد منهم لربما لم يبت تلك الليلة، فإن قال ما عنده من الصدق اطمأن واستراح.
والكذب ريبة، ومعنى أن الكذب ريبة أي أنه أمر مقلق، أمر مقلق لا تستريح معه النفس، ولهذا فإن من أراد طمأنينة النفس وراحة البال فليلزم الصدق في كل أموره، أما الذي يعيشون على الكذب والغش والتدليس في تجارتهم، في أعمالهم، في معاملاتهم، في كلامهم مع الناس فإن هؤلاء يبقون في حياة ليست مستقرة، تبقى حياتهم دائماً قلقة، وهذا القلق إذا دام واستمر وطال بالإنسان فإنه لربما أورث الإنسان عللاً مستديمة من الكآبة والضيق، وهذا حال كثير من الناس اليوم مع ما هم فيه من أسباب الراحة وما حصلوه من الأموال إلا أن ذلك لم يغنِ عنهم شيئاً، والمقصود أن الإنسان يترك ما يشك في حِلّه إلى ما لا يشك فيه، ومن ثم يكون قرير العين.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 668)، رقم: (2518)، والنسائي، كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات (8/ 327)، رقم: (5711).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات (2/ 723)، رقم: (1946)، وأخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1219)، رقم: (1599).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم (4/ 1980)، رقم: (2553).