الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد فهذا هو الحديث الرابع من الأحاديث التي أوردها الإمام النووي -رحمه الله- في باب الصدق وهو:
علاقة هذا الحديث بباب الصدق ظاهرة؛ وذلك أننا ذكرنا من قبل أن الصدق يكون في اللسان، ويكون في الحال، ويكون أيضًا بالقلب، ويكون بالعمل، فهذا من الصدق الذي يكون بالقلب، بمعنى: أنه يسأل ربه صادقًا أن يبلغه منازل الشهداء، كما أنه أيضًا يتعلق بالصدق باللسان؛ وذلك أنه يدعو ربه، فمن الناس من لا يصدق في هذا الدعاء، فهذا يدعو ربه صادقًا بلسانه ويواطئ ذلك اللسان لما في مكنون القلب، فهو يسأل ربه أن يرزقه الشهادة.
والشهادة هي منزلة رفيعة عالية من منازل أهل الجنة، ولها أحكام في الدنيا، وقد قال الله : وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69]، وهؤلاء هم الذين قد أخبر الله عن جزائهم بقوله: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111]. فهذا بيع للنفوس والمُهج لله -تبارك وتعالى، وذلك أعظم البيع؛ لأن أغلى ما يملكه الإنسان هو مهجته ونفسه يفديها بماله وبكل ما يستطيع، فإذا قدمها في سبيل نصرة دينه كان ذلك من أعظم البرهان على صدق دعوى الإيمان، ولهذا قيل لها: شهادة، شهادة على صحة دعوى الإيمان، أنْ قدم نفسه رخيصة في سبيل دينه، وهذا الأمر لا شك أنه يدل على سمو الهمة وعلوها، ويدل على صدق الإيمان، والإنسان من لطف الله أنه إذا طلب الشهادة أن الله يبلغه تلك المرتبة وإن لم ينل الشهادة حقيقة في الدنيا؛ وذلك أن الآجال مكتوبة، والله قد قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، فالله يقول ردًا على المنافقين الذين قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا في ساحة المعركة: "لو أطاعونا ما قتلوا" قال: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران: 168]. ادفعوا عن أنفسكم الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وقال: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154]، فالإنسان إذا كتب له أن يموت في مكان لابدّ أن يبلغه، وأن يموت فيه لا محالة، وإذا كتب له أن يموت على فراشه فلو أنه ركب الأسنة، ولو أنه ناطح الجيوش بمفرده، لا يمكن أن يموت إلا كما كتب الله -عز وجل- له أن يموت، فلا نامت أعين الجبناء، ولذلك قال القائل:
لو أن حيًّا مدركُ الفلاح | أدركه مُلاعِب الرماح |
الفلاح يعني: البقاء، العرب تسميه بهذا، أي: أن أولى الناس بالبقاء -لو كانت القضية مردودة إلى الواقع- عمه المعروف بملاعبة الأسنة والرماح، فلا يموت أحد إلا بأجله، ولذلك كم نشاهد من الإحصاءات في بلادنا في حوادث السيارات، فقتلى حوادث السيارات في الرياض فقط في سنة واحدة أكثر من قتلى الحرب الأولى في الشيشان التي استمرت ثلاث سنوات، وهؤلاء ما تعرضوا للموت، ولا طلبوا شهادة، مع أنا نرجو أن الله يكرمهم بالشهادة؛ لأن حوادث السيارات هذه مفجعة، وقد ذكر النبي ﷺ ألونًا من الفجائع التي عدها من الشهادة، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الذين يموتون بحوادث السيارات يلحقون بأحكام الشهداء، ولكن ليسوا شهداء المعركة، كقوله ﷺ: الهدم شهيد يعني: الذي يموت تحت الهدم، والغرق شهيد والمبطون شهيد ...[2].
ولو أحصينا حوادث السيارات، والذين يموتون بسبب التدخين، والذين يموتون بسبب الأمراض سنجد أنهم يفوقون قتلى الحروب، فهذه آجال مضروبة مكتوبة، لن يموت الإنسان إلا بأجله، ومن ثَمّ فإن الإنسان ينبغي له أن يرفع همته، وأن يسأل ربه بصدق أن يبلغه منازل الشهداء، فيبلغ بهذه النية المراتب العالية ولو مات على فراشه.
أيها الإخوان: النية في طلب الشهادة تحتاج إلى صدق من الإنسان، ألا تكون كلمة يقولها الإنسان بلسانه ويسأل ربه من غير حضور القلب، بلغه الله منازل الشهداء والشهداء ما هي منازلهم؟ منازلهم عالية في الجنة، والشهيد في أرض المعركة من خبره: أنه يغفر له من أول قطرة من دمه، ويؤمّن من الفتان، لا يأتيه منكر ونكير شديدا الانتهار، فيقولان: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ سؤال شديد، فيؤمن ذلك، ويشفع في سبعين من أهل بيته، كم عدد أسرته؟ ثمانية، تسعة، عشرة، ثم الأقرب فالأقرب من أهل بيته، ويزوج من الحور العين كذلك، فالإنسان يسأل ربه هذه المنازل العالية، والموتة هي واحدة، ولن يموت الإنسان موتتين، ولن يموت في غير أجله، لكن إما أن يموت على فراشه، وإما أن يموت شهيدًا في سبيل الله -تبارك وتعالى، أو يبلغ ذلك بحسن قصده ونيته.
من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه.
الشهداء حينما يُسألون يتمنى الواحد منهم أن يعود إلى الدنيا فيقتل، ثم يعود فيقتل، ثم يعود فيقتل، لِمَا يرون من المنازل العالية، والأجر العظيم في الجنة، ولهذا الله -عز وجل- لما كلم شهداء أحد -الذين قتلوا في أحد- وسألهم ماذا يشتهون؟ وماذا يطلبون؟ تمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا فيقتلوا في سبيل الله، ولكن الله -عز وجل- قضى خلاف ذلك: أن الإنسان لا يرجع إليها ثانية، فقالوا: بلغوا عنا قومنا أنْ قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، وكان هذا من القرآن الذي يتلى ثم نسخ لفظه، وكذلك أيضًا يقول الله أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران: 169-170]. فهذا لا شك أنه من أعظم الفضل الذي يمليه الله لمن شاء من عباده.
فنسأل الله أن يرزقنا الشهادة، وأن يبلغنا منازل الشهداء، وأن أنهيعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى (3/ 1517) برقم (1909).
- أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في فضل من مات في الطاعون (3/ 188) برقم (3111)، والنسائي، كتاب الجنائز، النهي عن البكاء على الميت (4/ 13) برقم (1846)، وأحمد، أحاديث رجال من أصحاب النبي ﷺ، حديث جابر بن عتيك (39/ 162) برقم (23753).