الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الأخير في باب الصدق: يقول النووي -رحمه الله:
أبو خالد حكيم بن حزام من أصحاب النبي ﷺ ومن كبراء قريش، وهو من أجواد العرب، ومن أولي الألباب وعقلاء الرجال، ولد في جوف الكعبة، ولا يُحفظ ذلك لأحد سواه، لا يعرف أن أحداً في التاريخ ولد في الكعبة سوى حكيم بن حزام ، ومن خبره أنه عاش عشرين ومائة سنة، نصفها في الإسلام، ونصفها في الجاهلية، يعني: هو أسلم في عام الفتح، تأخر إسلامه، أسلم في السنة الثامنة من الهجرة، لما فتح النبي ﷺ مكة، فكان له من العمر حينما أسلم ستون سنة، وعاش بعدها ستين سنة، وهذه من الموافقات العجيبة التي لا تكاد تقع للإنسان ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، وكان جواداً كريماً قد آلت إليه دار الندوة، وهي مأثرة قريش، والمحل الذي يعقدون فيه الاجتماعات لإبرام الأمور الكبار، فآلت إليه فباعها لمعاوية بمائة ألف دينار، ثم تصدق بثمنها، فقال له ابن الزبير: بعت مأثرة قريش -أو مكرمة قريش، فقال: قد ذهبت المكارم، وما بقي إلا الإسلام والتقوى، يعني: تلك الأمور التي كانوا ينتخون بها ويتفاخرون بها في الجاهلية قد ولت وأدبرت، وما بقي شيء يفتخر به ويعتز به إلا مزيد الزلفى من الله .
وقد أعطاه النبي ﷺ مائة من الإبل في غنائم حنين، فكان من المؤلفة قلوبهم، ومن خبره أنه كان قد شهد يوم عرفة في الحج، فأهدى مائة بدنة عليها القلائد، وكثير من الناس إذا ذهب إلى الحج بحث عن أرخص الهدي، بل ما يشغل الإنسانَ في أيام الحج إلا سؤالُ الكثيرين ما هو النسك الذي ليس فيه هدي؟، يريدون أن يحجوا الحجة التي ليس فيها هدي، يريدون الإفراد، وهذا يقدم مائة بدنة في الحج، شهد بها عرفة، ثم قدمها في المنحر في يوم النحر، وجاء معه بمائة عبد عليهم قلائد الفضة، كتب عليها عتقاء حكيم بن حزام، فلما رأى الناس حكيم بن حزام في يوم عرفة يعتق هؤلاء المائة بكوا، وضج أهل الموقف، وقالوا: اللهم هذا عبدك حكيم قد أعتق عبيده فأعتق عبيدك.
وكان قد أهدى أيضاً ألف شاة، هذا كله يفعله ، مع أن ذلك لا يجب عليه، والهدي الذي يقدم إلى بيت الله الحرام الواجب منه على المتمتع والمفرد أن يقدم شاة، لكن رسول الله ﷺ قدم مائة، بل كان رسول الله ﷺ يرسل الهدي وهو لم يحج، وهو في المدينة، فالهدي يرسل إلى بيت الله الحرام، سواء كان من الشياه أو البقر أو الإبل، أو كان من الأموال أو الطعام أو كان من الأرقّاء الذين يعتقهم الإنسان، ويجعل قيمتهم مثلاً في بيت الله الحرام، أو للفقراء في الحرم، أو نحو ذلك، فهذا كله من الهدي.
وأما رواية حكيم بن حزام عن رسول الله ﷺ فقد روى أربعين حديثاً، اتفق الشيخان منها على نحو أربعة أحاديث، وهذا واحد منها.
الخيار: يعني التخيير ثابت لهما، ما لم يتفرقا: يعني بالأبدان، فطالما أنهما في مجلس العقد، حتى لو كتب العقد وانتهت الصفقة فإنه لا يزال مخيراً، كل طرف يحق له أن يرجع، لو جاءه اتصال بالتليفون وقال له إنسان: تعال أنا عندي لك أرض أحسن من هذه، أو هذه لا تستحق هذه القيمة، أو السيارة هذه فيها العيب الفلاني أو نحو ذلك فله أن يرجع طالما أنه في مجلس العقد، ما لم يتفرقا، بحيث إنه يحصل بينهم فراق، يخرج من المكتب، أو يخرج من البيت الذي حصل فيه العقد، أو نحو هذا، فيلزم عندئذ البيع، إلا إن كان هناك شرط خيار، أو أن يوجد ما يوجب الخيار، مثل خيار العيب، وخيار التدليس، وخيار التخبير بالثمن، بمعنى أنه لو قال: هي مسيومة مني بمائة ألف، وشراها هذا على أساس أنها مسيومة بمائة ألف، وقال له: أنا أعطيك مائة ألف وألفاً، ثم تبين له أن لا أحد سامها، فيحق له أن يرجع، هذا يسمى خيار التخبير بالثمن.
أو قال: أنا اشتريتها بخمسة وتسعين ألفاً، وربحي خمسة آلاف، والمشتري اشتراها منه بهذا الاعتبار، فلما لقي الذي باعها منه قال له: أنا بعتها بخمسة وأربعين ألفاً، فمن حقه أن يرجع ويقول: تفضل هذه أرضك، أعطني مالي، ولا تحتاج المسألة إلى محاكم وشرطة، هذا حق مكفول له شرعاً.
فالإسلام يكفل للناس الحقوق، وحق المسلم محفوظ، وسواء كان البيع جرى على يد إنسان ليس عنده خبرة، أو إنسان صغير، فحقه محفوظ، ولا يحتاج أنه يتعب ويذهب بالسيارة من محل فحص إلى وكالة إلى غيرها.
بحيث إنه يصدق فيما يقول، فيقول: هذه السيارة لا أعلم فيها عيباً، هذه السيارة لا يوجد فيها إلا العيب الفلاني، هذه الأرض فيها عيب كذا، هذا المحل ما يصلح للأراضي التجارية.
وتعرفون أخبار السلف، ذكرنا في بعض المناسبات قصة جرير بن عبد الله البجلي لما بايع النبي ﷺ على النصح لكل مسلم، فاشترى فرساً من رجل، فأعطاه أكثر من ضعف الثمن، هذه هي أخلاق المسلمين، هذا هو ديننا الذي لم يتكدر ولم يتلوث بالغش والاحتيال على الناس وأخذ أموالهم بالباطل.
كذلك المشتري يصدق، فأحياناً المشتري يحتال، فيقول المشتري: والله يا أخي أنا لا أريد الأرض للبناء والسكن، أنا أريدها مسجداً، فيعطيه بأقل من قيمتها الحقيقية ما دامت أنها ستكون مسجداً، ثم يتبين أنه كذاب، فهذا لا يبارك له بالشراء.
والبائع إذا لم يصدق لا يبارك له في البيع، فلو أيقن الإنسان بهذه المعاني وطلب البركة فعلاً لكان تغيرت أحواله كثيراً.
أما ترون أحوال الناس الآن يأخذون أموالاً وتجارات، ويربحون في أسهم، ورواتبهم ورواتب زوجاتهم، وإذا جاء نصف الشهر ما عندهم شيء؟!.
القضية بالبركة، فإذا زالت البركة تسأل الإنسان أحياناً تقول له: أين المال الذي كان عندك؟، هذه الأربعون ألفاً التي كانت عندك قبل أسبوعين أين ذهبت؟ يقول: والله لا أدري، ما أذكر إلا ثلاثة آلاف اشتريت بها الشيء الفلاني، ولا أدري كيف انتهت وتبخرت بهذه الطريقة من غير عائد يذكر.
هذا واقع كثير من الناس يعيشون بهذه الطريقة، فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصدق في البيع والشراء والأقوال والأحوال والنية، وفي أمورنا كلها.
فإذا رزق الإنسان الصدق فإنه تكون له البشرى عند الله ، وتكون له البشرى في الحياة الدنيا، إذا باع بورك له في بيعه، وإذا اشترى بورك له في الشراء، وإذا تعامل مع أحد بورك له في هذه المعاملة، والناس إذا عرفوا صدقه تتابعوا على التعامل معه.
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف (2/ 732)، رقم: (1973)، ومسلم، كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان (3/ 1164)، رقم: (1532).