الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
هذا الذي ذكره هنا ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدله، لم يبق معتدًّا به بحال، فإن وجود المبدل بعد الشروع فيه، كوجوده قبل الشروع فيه.
هذه القاعدة التي ذكرها هنا ناقصة، ولا يتم المعنى -والله تعالى أعلم- بهذه العبارة التي نقلها، واقتصر عليها، فلا بد من الرجوع إلى الأصل، الأصل في المجلد الرابع صفحة 1341 من طبعة دار عالم الفوائد، يقول: ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدله، ولم يبق معتدًّا به بحال، فإن وجود المبدل بعد الشروع فيه، كوجوده قبل الشروع فيه، ما بطل حكمه من الأبدال، بحصول مبدله، ولم يبق معتدًّا به بحال، ثم ذكر بعده، قال: وما لم يبطل حكمه رأسًا، بل بقي معتبرًا في الجملة، لم يبطله وجود المبدل بعد الشروع فيه، صار عندنا نوعان، فالشيخ اقتصر على الأول، وترك الثاني، أعيد مرة ثانية؟ يقول: ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدله، ولم يبق معتدًّا به بحال فإن -لعل الواو زائدة- فإن وجود المبدل بعد الشروع فيه، كوجوده قبل الشروع فيه، وما لم يبطل حكمه رأسًا، بل بقي معتبرًا في الجملة؛ لم يبطله وجود المبدل بعد الشروع فيه.
ثم ذكر التطبيقات التي يتضح بها المراد؛ المعتدة بالأشهر، الآن من التي تعتد بالأشهر؟ الآيسة، والصغيرة، فهذه امرأة آيسة، منقطع عنها الدم؛ تعتد بالأشهر في الطلاق ثلاثة أشهر، الآن بدأت تعتد بالأشهر، قلنا لها: أنتِ آيسة، انقطع حيضك ثلاثة أشهر، بقيت الشهر الأول، ثم نزل عليها الدم، دم الحيض بصفته، فهنا لاحظ الآن ما هو البدل، وما هو المبدل؟
يعني: الآن صار الاعتداد بالأشهر بدلا من الاعتداد بالأقراء، انتقلنا إلى البدل، الذي هو الأشهر، فوقع المبدل منه؛ حصل وجد أثناء العدة، ما هو بعد العدة، لاحظ ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدله، لم يبق معتد به بحال، فإن وجود المبدل بعد الشروع فيه، كوجوده قبل الشروع فيه، الآن طلقت، وقلنا: اعتدي بالأقراء إذا كانت من ذوات الأقراء، وهي تحيض؛ تبقى، تحيض، إذا كانت ما تحيض؛ نقول: اعتدي بالأشهر، بدأت تعتد، جلست الشهر الأول، ثم حاضت، فهنا هل نقول: بما أنها بدأت بالبدل؛ يبقى حكمهُ، فتكمل بهذا الاعتبار، ولا تعتد بالأقراء، ولا تلتفت إليها، وصار ينزل عليها الحيض.
لاحظ، فهنا نقول: يبطل اعتبار الأشهر، ونقول: اعتدي بالأقراء ثَلَاثَةَ قُرُوء [البقرة:228] حتى لو طالت عليها العدة؟ حتى لو طالت عليها العدة، افترض أنها جلست شهرين، ونصف، ما بقي عليها إلا نصف شهر، ثم نزل الدم بصفته، فهنا نقول: لها اعتدي بالأقراء، اجلسي ثلاثة قروء من الآن، فهذا يبطل البدل، فنرجع إلى الأصل الذي هو المبدل منه، هذه الصورة واضحة جدًا، أليس كذلك؟
صورة ثانية هذا إنسان ما وجد الماء، يريد الصلاة فماذا يفعل؟ يتيمم، فكبر للصلاة، وإذا بالماء يأتي، كان ينتظر وايت ماء، أو الماء مقطوع، وصب الماء، وهو يصلي، أو جاءت هذه السيارة، وهو يصلي، الآن هذا له صورتان: صورة قبل الشروع في الصلاة، فما الحكم؟ نقول: توضأ، الصورة الثانية بعد الشروع في الصلاة، هل نقول: هذا فعل ما يقدر عليه، وانتهى الأمر، هل نقول: يكمل، أو نقول: لا عبرة به؟ حصول الآن لا اعتداد بالبدل إذا وجد المبدل منه، فنقول له: الآن خلاص ما تعتد بهذه الصلاة، هذا محل خلاف بين أهل العلم، فبعضهم بناء على هذا الأصل يقول: نعم، لا يعتد بها، يقطع صلاته، ويتوضأ، بل إن بعضهم يقول: إنه يجب عليه، ولو فرغ من الصلاة إذا كان في الوقت، أن يأتي بها، أما إذا خرج الوقت، فليس عليه إعادة.
الآن هذا إنسان عليه كفارة يمين، فالواجب عليه ابتداءً أن يعتق رقبة، أو يطعم عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن لم يستطع؛ يصوم ثلاثة أيام، هذا الإنسان ما استطاع لا العتق، ولا الكسوة، ولا الإطعام، وبدأ يصوم، وصام اليوم الأول، وصام اليوم الثاني، ثم حصل له المال، حصل له سعة، حصل له غنى، صار واجدًا للكفارة، أو العتق، سواء كان العتق، أو الإطعام، أو الكسوة، هل يلزمه أن ينتقل إليهما، وقد شرع الآن في الصيام، وكان عاجزا، أو لا يلزمه؟
في التيمم الحافظ ابن القيم قال: يبطل تيممه أثناء الصلاة، إذا كان يصلي؛ يبطل تيممه، في هذه الصورة الآن، هل يلزمه، الآن نقول: اقطع الصوم، أنت يجب عليك إطعام، أو لا يجب؟
هنا يقول: لم يلزمه الانتقال عنه إليهما، لماذا؟ قال: لأن الصوم لم يبطل اعتباره بالقدرة على الطعام، بل هو معتبر في كونه عبادة، وقربة، وقد شرع فيه، ابتدأ، ولم يبطل تقربه، وتعبده به، هذا التعليل الآن، وليس الكلام الآن في تحقيق الأمثلة، إنما هو فقط في توضيح القاعدة، حينما ترجعون إلى كتب القواعد الفقهية، خاصة ذات التفريع، مثل قواعد ابن رجب، كتب الموسعة في القواعد، ستجدون القاعدة، وستجدون فروعا لها، يكثر فيها الخلاف جدًا، فليس الكلام الآن في ترجيح هل يبطل التيمم، أو ما يبطل؟ هل يبطل صومه، أو لا يبطل؟ المقصود توضيح القاعدة فحسب، فهذا التعليل الذي ذكره الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- يقول: لأنهُ شرع في عبادة بديلة، ومن ثم فإنها لا تبطل لوجود القدرة على الإطعام، أو العتق، أو نحو ذلك، وللمعترض أن يقول: وكذلك التيمم هو عبادة مشروعة، ومنصوصة في كتاب الله فما فعل إلا ما شرع، فكيف يقال: إنهُ يبطل، وقد شرع في الصلاة، وفعل ما أمره الله به، وكان عادما للماء، فكيف نبطل عليه صلاته؟
قد يقول قائل: المكلف فعل ما بوسعة، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والاستدامة أقوى من الابتداء، فكونه يستمر فيها هذا أقوى من قضية أن يبتدئ الصلاة بالتيمم، وقد وجد الماء، فهذا يقول يبطل تيممه، لكن حينما شرع في الصلاة فالاستدامة أقوى من الابتداء، أنا أقصد الآن نستطيع أن نعترض بهذا على كلام الحافظ ابن القيم، وليس المقصود هو الكلام في الأمثلة، هل يشرع هذا، أو لا يشرع هذا؟ ما هو الأرجح في هذه المسألة؟
المقصود أن تفهم الأصل، ولا يكفي هذا في فهم مثل هذه الأصول، في مثل هذه المجالس، في هذه العجالة، لكن ذلك سيفيدك فوائد، يفتق الأذهان، وتتسع الصدور، ويعرف الإنسان مآخذ أهل العلم، ولماذا يختلفون، وما يحتاجه المستنبط من الفهم والعمق، والأصول والضوابط التي يبني عليها الفهم، وأن المسألة ليست بالأمر السهل، بحيث أنه يكون ميسورًا لكل أحد، يقول: نحن رجال، وهم رجال، يقول عن العلماء نحن رجال، وهم رجال، ومن ثم أنا اجتهد كما يجتهدون، ولسنا بحاجة إلى أن نؤجر عقولنا لهم، وإلا فإن دراسة هذه القواعد، وهذه الضوابط هي في مظانها، في محلها، وهي كتب القواعد الفقهية.
فمن الصور الداخلة تحته: المتمتع، الآن هذا المتمتع لم يجد الهدي؛ إما لأنه لم يجد الهدي، أو لأنه لم يجد قيمة الهدي، فما هو الواجب عليه؟ الصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، هذا الإنسان ما وجد الهدي، دخل في الصوم، شرع في الصوم، صام اليوم الأول، صام اليوم الثاني، ثم بعد ذلك وجد محفظته التي ضاعت، وجد نقوده، ففي هذه الحال صار قادرًا على الهدي، هل يلزمه الانتقال، نقول: صومك هذا انتهى، بطل، يجب عليك أن تذبح الهدي، كنت عادمًا لذلك، والآن وجد.
ابن القيم -رحمه الله- يقول: لم يلزمه، لماذا لم يلزمه؟ سيعلل نفس العلة، أنهُ انتقل إلى بدل، هو عبادة، وهو الصوم، فلا تبطل بوجود المبدل منه بعد الشروع فيه، في البدل، ويجاب عنه يمكن أن يعترض عليه بما سبق، وذكر فرقًا آخر، وهو أن الاعتبار في الكفارات بحال وجوبها على المكلف؛ لأنهُ حال استقرار الواجب في ذمته، فالواجب عليه أداؤها كما وجبت في ذمته، إلى آخر ما قال، المقصود هنا: أن المكلف الآن، الواجب عليه في الكفارة، في الصيام مثلاً، مخير بين ثلاثة أشياء، فإن لم يستطع فالصوم، ولا يجزيه الصوم إذا كان قادرًا على أحد الخصال الثلاث، أليس كذلك؟
وهنا في مسألة الهدي الواجب عليه أن يذبح الهدي، ما وجده؛ ينتقل إلى البدل، الذي هو الصوم، كون هذا الإنسان لم يجد، ثم شرع في البدل، هل ينتقل حكمه، فيكون بهذا الاعتبار مستديما لهذا الحكم الذي شرع فيه، بحيث إنهُ لا يبطل عليه هذا البدل، بعد الشروع فيه، وأنهُ صار من أهله؛ لأنهُ حينما شرع فيه كان معذورًا، وقد فعل ذلك بأمر الشارع، ففعل ما أوجبه الله عليه، ومن ثم نقول: لا يبطل عليك ذلك، فإذا قلنا مثل هذا ما الفرق بينه، وبين الذي يصلي، شرع في عبادة، في الصلاة، وهو متيمم، لماذا لا يستمر فيها، وصلاته صحيحة، وقد شرع فيها بعدما استنفذ الوسع في البحث عن الماء، وطلبه، وما وجد، فصلاته بهذا الاعتبار صحيحة.
الآن إذن أذكر مره أخرى، ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدله، يقول: ولم يبق معتدًّا به بحال، فإن وجود المبدل بعد الشروع فيه كوجوده قبل الشروع فيه، وما لم يبطل حكمه رأسًا، بل بقي معتبرًا في الجملة؛ لم يبطله وجود المبدل بعد الشروع فيه، هذه القاعدة، وهذه تشبه ما يذكره ابن رجب -رحمه الله- في قواعده، يذكر أشياء من هذا القبيل، ويمكن أن يعترض على نفس القاعدة، وصياغتها بأن يقال: ما الضابط أصلاً في هذا كله، بأن يقال: إنه يبطل، أو لا يبطل، ما يبطل، وما لا يبطل، ما هو الضابط حتى نقول: يبطل، أو لا يبطل؟
نحتاج أن نؤسس أصلاً قبل أن نقول، يعني: هنا كأنه يبني على أمر يحتاج إلى إثبات، وضبط، يعني: يمكن للمعترض أن يقول: أنا لا أسلم لك هذا الأصل الذي تبني عليه، لا بد أن يكون البناء على أصل متفق عليه، لاحظتم كيف؟
يعني: حينما يفرق بين الأمرين، ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدله؛ لم يبق معتدا به بحال، وما لم يبطل حكمه رأسًا، بل بقي معتبرًا في الجملة، طيب ما هو ضابط هذا حتى نقول: يبطل، أو لا يبطل؟
تجد مثل هذا في بعض كتب القواعد، فتبقى نفس القاعدة محل إشكال، وتردد، وخلاف كثير، وإذا نظرت إلى التفريعات، والصور، والأمثلة، والتطبيقات الداخلة تحتها من الفروع الفقهية، لربما قد تبقى، يعني: القاعدة لا تضبط لك هذا الموضوع أحيانا، مع أن المفروض أن القواعد تلم شعث الفروع، وتضبطها، فتكون أصلاً، لكن أحيانًا نفس القاعدة هي ليست ثابتة، بل مترددة، وغير واضحة -والله أعلم- لكن المهم الآن هو فقط أن يتضح المراد، الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- اختار هذه، فكان المقصود هو إيضاح هذا الكلام الذي ذكره، وما ترك من الجزء الآخر، وهو كلام ابن القيم في الشطر، أو النوع الثاني، والله أعلم.
لاحظ الآن هذه من القواعد، والضوابط التي يُؤتى بها بصيغة الاستفهام، هناك قواعد يجزم بها المصنفون، مثل: اليقين لا يزول بالشك، العادة محكمة، الأمور بمقاصدها، ولهذا يسمون هذه القواعد الخمس الكبرى مثلاُ، وهناك قواعد دون ذلك، وهناك أشياء هي أشبه بالضوابط؛ لأنها تختص بباب معين، فهنا هذه تتعلق بالحكم، ولم يجزم بها، جاء بها بصيغة الاستفهام، فهذا الآن من وجب عليه شيء، وأمر بإنشائه، فامتنع، فهل يفعله الحاكم عنه، أو يجبره عليه؟ فيه خلاف.
الآن مأخذ هذه المسألة، وما يمكن أن نتصورها به على النحو الآتي، الحاكم الذي هو القاضي، هل هو نائب عن صاحب الحق، ينوب عنه، أو ليس كذلك؟
فالآن من وجب عليه شيء، وأمر بإنشائه، فامتنع، يعني: أمر بالقيام به، فامتنع، فهل يفعله الحاكم عنه، يعني باعتبار أن الحاكم نصب وكيلاً لصاحب الحق، حتى يستوفيه له، أو أن الحكام الذي هو القاضي ملزم له، يلزمه بأنه يقوم هو بهذا الشيء، ولا يقوم القاضي نيابة عنه بذلك، مثل ماذا؟ الآن العلماء يقولون مثلاً: ما من الكفارات شيء يلزم به المكلف من قبل الحاكم، وبعضهم قال: يحبس أيضًا، ويمكن أن يعزر من الكفارات، الكفارة التي يتعلق بها حق الغير، مثل كفارة الظهار، والإيلاء، ليس بكفارة، ولكنه مأمور بأن يطلق، أو لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] رجعوا إلى وطء الزوجات، فإن الإيلاء الحلف، يعني: أن يحلف ألا يطأ امرأته، وهذا له صور، إما أن يذكر مدة محددة، شهر، فينتظر إلى الشهر، أو يكفر عن يمينه، ويطأ، أو أنهُ يمضي الشهر، ولا يطأ، أو أنهُ يطلق ألا يطأها، ولا يحدد، فيحدد له أربع أشهر، فإن رجع إلى الوطء؛ فبها، فإن لم يفعل، فهنا يتعلق به حق الغير، الذي هو الزوجة، فيقول له القاضي: إما أن تطأ، وإما أن تطلق فَإِنْ فَاءُوا رجعوا، يعني: إلى وطء الزوجات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227] فيخير بين الأمرين، لو قال: أنا لا أطلق، ولا أطأ، هنا يتعلق به حق الغير، فهل القاضي يستطيع أن يقوم بالطلاق نيابة عنه، باعتبار أنه وكيل لصاحب الحق، ويطلق القاضي، ويحكم بتطليق المرأة منه، أو أن القاضي يلزمهُ، ويقول له: تطلق، أو نحبسك، أو تطأ.
وكذلك أيضًا في مسألة الظهار، كفارة الظهار، ذكر بعض أهل العلم أن هذه الكفارة هي الوحيدة التي يلزم المكلف من قبل القضاء على إخراجها، لماذا؟ لأنه يتعلق بها حق الغير، فهذا الرجل ظاهر من امرأته، نقول له: ما تقربها حتى تكفر عتق رقبة، فإن لم تستطع؛ فصيام شهرين متتابعين، فإن لم تستطع؛ فإطعام ستين مسكينا، قال لا أنا لا أريد أن أفعل شيئًا من ذلك، ومظاهر، فبعض أهل العلم يقول: للقاضي أن يحبسه في هذا، حتى يكفر لما؟ لأنه يتعلق به حق الغير، لكن عليه كفارة يمين، عليه كفارة قتل خطأ، عتق فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ هذا بينه وبين الله لكن هنا تتضرر المرأة، لاحظت؟
فالقضية مبناها على هذا، هل القاضي وكيل لصاحب الحق، أو أنه فقط يملك الإلزام، وقل مثل ذلك: لو أن أحدًا امتنع من النفقة الواجبة، امتنع، وقال: أنا معسر، لكن عنده ممتلكات زائدة عن البيت الذي يسكنه، عنده سيارتان، وهو تكفيه واحدة، فهل للقاضي أن يبيع سيارة نيابة عنه؟
القاضي يبيعها، يحرج عليها، ويبيعها، وتكون نفقة لمن تجب عليه النفقة على هؤلاء، فيعطيهم إياها، عنده أرض، فالقاضي يبيعها، ثم تكون نفقة لهؤلاء من تحت يده ممن امتنع من النفقة عليهم باعتبار أنهُ عاجز عن ذلك، أو أن القاضي يلزمهُ فقط بالبيع، ولا يملك البيع، وإذا قلنا: لا يملك، معناها أن القاضي لو باع؛ فإن ذلك لا ينفذ، ولا يصح، كل ذلك يرجع إلى هذا المأخذ، هو جاء بها بصيغة الاستفهام، بمعنى أنهُ لم يجزم بها، وهذا النوع موجود في كتب القواعد للتردد فيه، يكون المؤلف لم يجزم فيه بشيء.
الآن هذه أصول لا بأس أن يتعرف عليها، ولو إشارات، أن يتعرف عليها طالب العلم، أصول المذاهب، أصول الأئمة في مذاهبهم، لا سيما أن بعضها لربما لم يتصوره الكثيرون كما هو، يعني: كما أراد الإمام، فمن أصول مالك -رحمهُ الله- اتباع عمل أهل المدينة، وإن خالف الحديث.
لاحظ الآن، هذا هو المشهور: أن من أصول مذهب الإمام مالك: اتباع عمل أهل المدينة، اعتبار عمل أهل المدينة، مع أن الواقع أن ذلك ليس على إطلاقه، لا يقول الإمام مالك باعتبار عمل أهل المدينة بإطلاق، وإنما فيه تفصيل، هذا التفصيل يقول به بعض أهل العلم غير الإمام مالك أيضًا، وهذه مهمة جدًا، ويحتاج طالب العلم أن يتنبه لها؛ لأن هذا هو المستفيض، أن من أصول المالكية عمل أهل المدينة، اتباع عمل أهل المدينة.
الآن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ الله- جعل عمل أهل المدينة على أربعة أصناف على أربعة أنواع[1] وهذا مهم، وابن القيم فصّل تفصيلاً آخر غير ما ذكره شيخ الإسلام، وإن وجد بعض الاشتراك في بعض الجزئيات، في مجموع الفتوى على سبيل المثال في المجلد العشرون صفحة 303 فما بعدها تكلم شيخ الإسلام على عمل أهل المدينة، وذكر التحقيق فيه، انتبهوا، خلاصة، إشارات، يقول: منه ما هو متفق عليه بين المسلمين لاحظ متفق عليه، يعني: ما يختص بمذهب الإمام مالك، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين هذا النوع الثاني، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:
الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي ﷺ مثل نقلهم لمقدار الصاع، والمد، وكترك صدقة الخضروات، والأحباس، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء، أما الشافعي، وأحمد، وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك، وذلك مذهب أبي حنيفة، وأصحابه، إذًا الأئمة الأربعة النوع الأول، كلهم يقولون فيه، وهذا أبو يوسف لما اجتمع بالإمام مالك، وهو صاحب أبي حنيفة، وسأله عن هذه القضية عمل أهل المدينة، سأل الإمام مالك، فماذا قال مالك؟
أجابه بنقل أهل المدينة المتواتر، فأبو يوسف وافقه في ذلك، وقال: لو رأى صاحبي، يعني: أبا حنيفة مثلما رأيت؛ لرجع مثلما رجعت، لكن أبا حنيفة لم يبلغه هذا النقل[2] فالشاهد: أن الإمام -رحمه الله- ماذا عمل؟
دعا بالصاع، دعا أهل المدينة، قال: هاتوا صيعانكم، دعا بالمكاييل هذه، وأنت من أين لك، قال: أبيع على صاع، أو على مد، زيد بن ثابت الذي أقره النبي ﷺ ويأتي الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والعاشر، فقال مثل هذا شيء، محسوس تلقوه عن آبائهم، عن أجدادهم، مكيال محسوس، فمثل هذا لا شك أنهُ حجة.
فشيخ الإسلام، يقول: والمقصود هنا أن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل حجة باتفاق المسلمين[3] كما قال مالك لأبي يوسف لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم، قال: أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: لا، والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان؛ فوجدتها خمسة أرطال وثلث، بأرطالكم يا أهل العراق، هذا مالك يقوله، فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت، وسأله عن صدقة الخضروات؛ فقال: هذه مباقيل أهل المدينة، الأماكن التي يزرعون فيها البقول، لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله ﷺ ولا أبي بكر، ولا عمر -رضي الله عنهما- يعني: وهي تنبت فيها الخضروات، وهكذا، فالشاهد: أن أبا يوسف وافقه، وقال: لو رأى صاحبي ما رأيت؛ لرجع كما رجعت، فهذا النوع لا إشكال فيه[4].
نأتي للمرتبة الثانية التي ذكرها شيخ الإسلام، وترى هذه فائدة تستحق رحلة.
المرتبة الثانية: وهو العمل القديم بالمدينة، قبل مقتل عثمان يقول: فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، قال الشافعي إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبًا أنهُ الحق، يقول: وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنّه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها، وقال أحمد كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة بيع لخليفة، يعني: ما الذين بويعوا بالمدينة؟ أبو بكر، وعمر، وعثمان وأرضاهم[5] ثم ذكر عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين[6] وذكر الأحاديث في الباب، ثم انتقل إلى المرتبة الثالثة، إذًا صار عندنا المرتبة الثانية ما قبل مقتل عثمان عمل أهل المدينة القديم، هذا حجة، هذا إذا اتفقوا على الشيء.
المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان، كحديثين، وقياسين؛ جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة، ففيه نزاع، فمذهب ومالك، والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنهُ لا يرجح بعمل أهل المدينة، ولأصحاب أحمد وجهان[7] يعني: بعضهم يرجح بذلك، وبعضهم لا يرجح، وكان الإمام أحمد يقول: إذا رأى أهل المدينة حديثًا، وعملوا به، فهو الغاية، إذًا هذا مبنى هذه المسألة على قضية تأتي، وهي الترجيح بالأدلة الظنية، عندنا دليلان تعارضا، ما عندنا مرجح إلا دليل ظني، مثل عمل أهل المدينة مع أحدهما، فنرجح بذلك، هذه المرتبة الثالثة، وعزى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ الله- إلى الجمهور، جمهور الأئمة، أنهم يرجحون به.
المرتبة الرابعة: قال هي العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه، أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، يقول ابن تيمية: ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة[8] هذا النوع الرابع، فشيخ الإسلام يذكر أربعة أنواع في عمل أهل المدينة، اتضحت.
ابن القيم -رحمهُ الله- في إعلام الموقعين في المجلد الثاني من الطبعة القديمة، صفحة 385 ذكر تقسيما آخر في عمل أهل المدينة، بعد كلام طويل، وتفاصيل في الموضوع، يقول: عمل أهل المدينة، وإجماع أهل المدينة نوعان:
الأول: ما كان من طريق النقل، والحكاية.
والثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال، ثم جعل النوع الأول ما كان عن طريق النقل على ثلاثة أنواع:
الأول: نقل الشرع مبتدأ من جهة النبي ﷺ وجعله أربعة أنواع، نقل قوله، نقل فعله، نقل تقريره، نقلهم لترك شيء قام سبب وجوده ولم يفعله، هذا ما يتعلق بالنقل عن النبي ﷺ نقل الشرع عن النبي ﷺ.
الثاني: نقل العمل المتصل زمنا بعد زمن من عهده ﷺ.
والثالث: نقل لأماكن، وأعيان، ومقادير لم تتغير عن حالها[9].
ثم بدأ يفصل هذه الأنواع، وقد يطول الكلام في ذلك، ولا أحب أن يمضي الدرس فيه، لكن يمكن أن تراجعوا كلامه في ذلك، فهو مهم، ونفيس، ولا يستغنى عنه.
الآن هذا ما يتعلق بمسألة عمل أهل المدينة، أنها ليست بإطلاق، وأن عمل أهل المدينة يختلف، ويتنوع، وإجماع أهل المدينة على مراتب.
النوع الثاني: الذي هو سد الذرائع، وكذا أيضًا إبطال الحيل، ابن القيم -رحمهُ الله- أطال في هذا الكلام في هذا الكتاب، وفي غيره، في إعلام الموقعين أطال في الكلام على سد الذرائع، وإبطال الحيل.
ويمكن أن أعطيكم خلاصة في هذه المسألة التي هي سد الذرائع، وهل يختص ذلك بمذهب الإمام مالك -رحمهُ الله-؟
خلاصة ما يمكن أن يقال، لأن قضية الذرائع، والاحتجاج بالذرائع، والعمل بها، وما إلى ذلك، تعرفون الشغب، كثير عليها في مثل هذه الأيام، وبعض الناس يهزأ، ويسخر ممن يقول بسد الذرائع، ويقول: هؤلاء الذرائعيون لماذا لا يقولون بفتح الذرائع، فنحن نطالب بفتح الذرائع، لا بسد الذرائع، وهذا من أعجب الأشياء، ومثل هؤلاء ينبغي أن يقال لهم: إذًا لماذا تجعلون على بيوتكم، أو حول بيوتكم الأسوار، وتجعلون الأبواب، والأغلاق، وتجعلون النوافذ، وما إلى ذلك، إلا من باب سد الذرائع أليس كذلك؟
كل هذا لسد الذرائع؛ لئلا يأتي السراق، فتجعلون مثل هذه الاحتياطات، فالشاهد: أن مسألة سد الذرائع هذا أمر، يعني: جاءت به الشريعة، ومضى الكلام، والإشارة إلى هذه القضية، فقضية الذرائع من قبل ذكرت بأنها ما يتوصل به إلى المحرم، هذه التي تسد سد الذرائع، وهناك ما يتوصل به إلى فعل المشروع، فهذه هي التي تفتح، يسمونها فتح الذرائع، فإذا قيل: سد الذرائع، يعني: الذرائع الطرق والأسباب والوسائل الموصلة إلى الحرام، هذا هو المراد، فعندنا كما قال صاحب مراقي السعود:
سد الذرائع إلى المحرم حتم | كفتحها إلى المنحتم[10] |
يعني: حتم يعني: واجب "كفتحها إلى المنحتم" يعني: كفتحها إلى الواجب، كفتح الذريعة إلى الأمر الواجب.
وعلى كل حال، وعندنا إبطال الحيل، وهي أيضا من جملة سد الذرائع؛ لأن الحيل هي وسائل وأسباب إلى المحرمات؛ فتسد، والقاعدة أن المحتال يعامل بعكس، بضد قصده، وهنا عندنا في سد الذرائع من أوضح الأمثلة في القرآن قول الله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
فهنا سب آلهة المشركين من حيث الأصل لا إشكال فيه؛ لأنها آلهة باطلة، لكن لما كان ذلك ذريعة تؤدي غالبًا إلى سب الله لأن هؤلاء سينتصرون لإلهتهم، كان سب آلهة المشركين محرمًا فنهى الله عنه وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:108] يعني، ولا تسبوا آلهتهم التي يدعونها من دون الله فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
وكذلك قال النبي ﷺ: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه[11].
بمعنى أنه لن يسكت؛ فيكون متسببًا بسب أبويه، فصار ملعونًا بهذا الاعتبار، فهذا دليل على أن ذرائع المنكر، والباطل، والمحرم يجب سدها وإقفالها، وقل مثل ذلك في التطبيقات والأمثلة، وسيكون عندنا درس -إن شاء الله- في النية، وأرجو ألا يطول الوقت، أرجو أن يكون قريبًا -إن شاء الله- عن هذه القضايا، سد الذرائع، وما يتعلق، وما يتعلق بالمصالح وضوابطه، والضرورات الشرعية وضوابطها، كل القضايا التي يشغب عليها هؤلاء الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله.
وعندنا مسألة الحيل، انظروا إلى خبر بني إسرائيل الذين كانوا يعدون في السبت، فكان الله يبتليهم تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163] فتستعرض هذه الأسماك عند الشواطئ، يوم السبت الذي يحرم عليهم العمل فيه، فإذا كان غير يوم السبت غارت في البحر، فلا يجدون منها شيئًا، فصاروا يضعون الشباك يوم الجمعة، ويسحبونها يوم الأحد، ويقولون: نحن ما عملنا شيئًا، هذه حيلة الآن، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، فتوصلوا إلى المحرم بهذه الحيلة، ولم يغنِ عنهم ذلك قليلاً، ولا كثيرًا.
وعلى كل حال ابن القيم -رحمه الله- تكلم على مسألة سد الذرائع، وإبطال الحيل بكلام مفصل -كما سبق في إعلام الموقّعين- وجعل الحيل ليست على نوع واحد، وإنما جعلها متنوعة، فعندنا الحيل المحرمة كحيلة بني إسرائيل، وهناك حيل مباحة مثل حيلة يوسف -عليه السلام- لما وضع السقاية في رحل أخيه، ثم بعد ذلك أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70] هذا المؤذن ما كان يعرف، فقال ذلك صادقًا، ثم بعد ذلك حصل ما حصل، وفتش أوعيتهم، وقد تبرؤوا من السرقة، ثم استخرجها من وعاء أخيه، قال الله: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76].
فهذه المكيدة هي ما توصل به يوسف -عليه السلام- من حيلة استطاع أن يأخذ بها أخاه، وأن يضمه إليه، فأثنى الله على ذلك، وأقره، بل أضاف ذلك إليه كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] لأنه قال لهم: قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وجد فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:74-75] ما معناه؟ معناها أن هذه العقوبة تتعلق به دون سواه، وأنهُ لا يعاقب أحد نيابة عنه، ولا يؤخذ أحد مكانه، وكان في شريعة يعقوب أنهُ يسترق، يسترقه صاحب المتاع الذي سرق منه، وبعضهم يقول: يكون الاسترقاق لمدة سنة الاسترقاق، ثم بعد ذلك يرجع إلى أهله، بصرف النظر، لكن كان العقوبة هو أن يسترق.
أما في قانون الملك في مصر فكانت العقوبة أخرى، وهو أن مثل هذا يعزر بتعزير معين، ويرجع مع أهله، فقال الله : مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76]، يعني: في قانون الملك، يعني: لو طبق عليه القانون الذي في مصر آنذاك؛ كان رجع مع أخوته، لكن الله كاد ليوسف فقال لهم: فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ [يوسف:74] فنطقوا بألسنتهم قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وجد فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75]، يعني: لا يجازى به غيره، ولهذا لما جاؤوا إليه، وقالوا: إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف:78] فماذا أجابهم؟ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:79] فاستطاع أن يأخذه، فهذه حيلة مباحة، أو حيلة مشروعة، فالحيل أنواع.
وعلى كل حال، المحتال القاعدة أنه يعامل بضد قصده، مثل ماذا؟ الفقهاء يلغزون في مسألة، يقولون: لو أن رجلاً في مرض الموت المخوف طلق نساءه الأربع، طلقهن، ثم انتهت العدة، عدة هؤلاء النساء، والمرض الموت المخوف قد يطول، فعقد على أربع، قال: هؤلاء بعيدات، أنا أريد أن يكون المال هذه الثروة لنفس الأهل، والأسرة، والعائلة، ما يخرج منها، فعقد على بنات عمه أربع، كل واحدة من عم، فمن الذي يرثه في هذه الحال؟ كم وحدة؟ ثمان، يرثهُ ثمان، الأُول اللاتي قصد حرمانهن، والجدد؛ ولهذا الفقهاء يذكرون هذا من الألغاز، متى يرث ثمان نسوة ميراث الزوجة من رجل؟
هذا في المحتال، فإنهُ يعامل بعكس قصده، بضد قصده، والكلام في الحيل على كل حال طويل، وفي كتب مصنفة خاصة في الحيل، إبطال الحيل، لكن من أراد التوسع؛ فلينظر في كلام ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين، أطال جدًا في الكلام على هذه المسألة، وإبطال الحيل لا يختص بمذهب الإمام مالك -رحمه الله-.
قال: ومراعاة القصود والنيات في العقود، وهذه تكلم عليها في إعلام الموقعين في مواضع كثيرة، والواقع أنها أيضا لا تختص بمذهب الإمام مالك -رحمه الله- هل يختص النظر بالألفاظ، والعبارات، وما كتب، أو أنهُ ينظر إلى المقاصد، مقاصد هؤلاء من المتعاقدين، وكذلك فيما يتصل بالأيمان، والطلاق، والعتق، وما أشبه ذلك؟
نحن نعرف أن النبي ﷺ أخبر أن المازح ما يكون على سبيل المزاح في العتق، وفي الطلاق، وكذلك في النكاح، أن ذلك يكون على محمل الجد شرعًا، يحمل على هذا، لكن ما يقع من الناس من الجهل والخطأ في مثل هذه القضايا، فما حكمه؟
هذا فيه كلام كثير جدًا للحافظ ابن القيم، ويقرر بقوة في هذه المواضع أن العبرة بمقاصد هؤلاء، وليست العبرة بعباراتهم، وألفاظهم إذا أخطؤوا[12] يعني: قد يسبق اللسان، قد يقول العبارة جهلاً منه، وهو لا يقصد هذا المعنى، فعندئذ لا يكون مؤاخذًا، وقد يقول ذلك على سبيل الذهول، وما أشبه ذلك، فلا يكون مؤاخذًا، يعني: يقول كلمة بحال شدة فرح، أو نحو ذلك، ويكون غير مستجمع لقواه العقلية.
يعني: على سبيل المثال في هذه الطبعة التي هي طبعة ابن الجوزي من إعلام الموقعين، انظر على سبيل المثال المجلد الثاني صفحة 384 أعطيكم بعض عبارات ابن القيم في هذه الجزيئة، يقول: والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها، وإنما هي مقصودة للمعاني، يعني: والمتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون فهمه من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان[13].
هذا الكلام نحتاج إليه حاجة ماسة، خاصة القضاة، ومن ينظرون في المشكلات، وما إلى ذلك، يأتونك أحيانًا العوام عندهم وصايا، عندهم أوقاف، عندهم أمور لما تسأل ماذا تقصد بهذا الكلام؟ تجد أنهُ لم يخطر بباله أصلا المعاني التي ذهبت إليها، فهل يلزم بمقتضاها؟
الجواب: لا، وإنما ينظر في قصده، ماذا كنت تقصد بمثل هذا الكلام، فهو قد يعبر بأسلوب، وبطريقة فيها شيء من لربما التوسع في العبارة، ولكنه يقصد معنًا أضيق من ذلك، وقد يعبر بعبارة ضيقة، ويقصد معنًا أوسع من ذلك.
وهكذا تجدون في المجلد الرابع صفحة مثلاً 447 هذه فقط نماذج قليله، وإلا المواضع في هذا الكتاب أكثر، وفيه تفاصيل أطول، يعني: مثلاً يقول في العنوان: فصل: لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ، يقول: لا بد أن يكون المتكلم قاصدًا لها مريدًا لموجباتها، كما أنهُ لا بد أن يكون قاصدًا للتكلم باللفظ، مريدًا له، فلا بد من إرادتين: إرادة التكلم باللفظ اختيارًا، وإرادة موجب اللفظ ومقتضاه، بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنهُ المقصود، واللفظ وسيلة، قال: وهو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام، وقال مالك وأحمد فيمن قال: أنت طالق البتة، وهو يريد أن يحلف على شيء، ثم بدى له، فترك اليمين، فقط قال هذه الجملة: أنت طالق البتة، وسكت، الآن هذا تطليق في ظاهرة، قلنا له: طلقت الآن زوجتك، قال: لا أنا كنت أريد أن أحلف، ثم صرفت النظر، لاحظتم؟! يقول: لا يلزمه شيء؛ لأنهُ لم يرد أن يطلقها، وكذلك قال أصحاب أحمد، وقال أبو حنيفة: من أراد أن يقول كلامًا، فسبق لسانه، فقال: أنتِ حرة، يعني: للجارية، يقول: لم تكن بذلك حرة، وكذا قال أصحاب الإمام أحمد: لو قال الأعجمي لامرأته: أنتِ طالق، وهو لا يفهم معنى هذه اللفظة، لم تطلق؛ لأنهُ ليس مختارًا للطلاق[14].
هذه القضية مقررة ومعلومة، وإن كان العوام قد لا يفصح لهم بمثل هذه الأشياء، طبعًا يسمعون هذا الكلام في طاش ما طاش، ويقولون: انظروا، يقولون في الدروس هذا الكلام، ويقولون للناس كلامًا آخرًا، هؤلاء من الناكصين على أعقابهم، يحضرون دروس، ثم انتكسوا، ثم يقولون: اسمعوا، تراهم يقولون كلامًا، ويقولون: لا تقولون للعوام، لماذا لا يقال للعوام؟
من أجل أن لا يتلاعبوا بالألفاظ الشرعية، لكن القاضي حينما يريد أن يقضي، أو المفتي يسمع من هذا، ثم يقضي، أو يفتي بحسب، ألم نقل لكم: بأن الحكم لا بد فيه من أمرين: الأول: معرفة حكم الشارع، وذلك يستنبط من الأدلة، الأمر الثاني: تنزيل ذلك على المعين، الذي هو تحقيق المناط، فهذا يكون له اعتبارات معينة في المعين، ملابسات معينه، فيسمع منه، لكن لو قلت لهؤلاء العوام: ترى حتى لو صرح بلفظ الطلاق لربما يكون جاهلاً، أو لا يفهم، أو لا يعرف، أو لا يدرك، أو ما قصد، أو نحو ذلك، نحن نقول للعوام: الطلاق نوعان: نوع صريح، ونوع كناية، فالصريح يكون طلاقًا، والكناية يستفصل منه، يقال: ماذا قصدت؟
وهكذا الظهار، أنت علي كظهر أمي، هذا صريح، ولو قال كناية، لو قال: يا ماما، يعلم الطفلة، والله أكذبهم، وقال: مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2] فبعض الناس يقول لزوجته: يا ماما، لا يجوز أن يقول: يا ماما، من أجل يسمع الطفل، ما يقول لها: يا فلانه، يناديها باسمها، فيدرب الطفل كيف يدعو أمه، حتى يقلده نقول: ليس لك أن تقول: هذا، فلو قال: يا أمي، أو قال لزوجته: أنتِ أمي، نقول: ماذا تقصد؟
لو قال: أنتِ كأمي، نقول: ماذا تقصد، هذه كناية؟ إن قال في التقدير، والاحترام، والمحبة، والإجلال، والتعظيم؛ لأن بعض الذين يتزوجون جدد، أحيانًا ينسون أنفسهم، فيقول لها: أنتِ أمي، وأبي، وزوجتي، وأختي، والناس أجمعين، والصحيح أنهُ يقسط عليها الأخلاق، شيئًا فشيئًا، كل يوم ترى منه جديدًا، لكن ما يأتي جميع، ثم بعد ذلك ترى منه النقص في كل يوم.
فالشاهد: ليس له أن يقول لها مثل هذا الكلام، فإذا قال لها: أنتِ أمي، وأبي، أو قال: كأمي، أو كأختي، نقول: ماذا تقصد؟
إذا قال: في التقدير، والاحترام، نقول: طيب، لكن لا تعبر بهذه العبارات، لا تعد لهذا؛ لأن هذا من الكنايات.
وهكذا، انظر الموضع الثاني -على سبيل المثال- نفس المجلد الرابع من إعلام الموقعين، صفحة 499، عنوان: المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات، يقول: وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها، والمقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، إذًا المعاملات، والعقود، والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حرامًا، وصحيحًا أو فاسدًا، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة، أو صحيحة أو فاسدة، وبدأ يدلل على هذا، ومثل وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [البقرة:228] بحسب قصده، وهكذا قد يفعل المباح يتوصل به إلى الحرام، وقد يفعل المباح ليتوصل به إلى الطاعة، فيكون قربة، وهكذا[15].
إذًا مراعاة القصود في النيات والعقود، واعتبار القرائن وشواهد الحال في الدعاوى والحكومات، يعني: لا بد من معرفة هذه القرائن، وإن كانت هذه القرائن ليست بأدلة قطعية، لكن لا بد من اعتبار ذلك، وهذا يحتاج إليه القاضي على وجه الخصوص، ويحتاج أيضًا إليه المفتي، ومن في حكمه.
انظر على سبيل المثال، مثلاً من أراد أن ينظر في هذا الموضوع، هناك كتابات خاصة، هذه رسالة علميه اسمها: الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي، وذكر فيها المذاهب، وأقوال أهل العلم قديمًا وحديثًا، فهذه القرائن ذكر معناها عند الفقهاء، وعند غيرهم، كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيًا وتدل عليه، هكذا بعضهم عبر عنها، أو فسرها بذلك على اختلاف في هذه العبارات.
الآن العمل بهذه القرائن، هنا نقل عن الخلفاء الراشدين، وابن مسعود، وجمع من الصحابة، يقول: ولم يظهر لهم مخالف، أنهم عملوا بالقرائن، وكثير من التابعين، والجمهور من أئمة الفقهاء المجتهدين، كلهم حكموا بالقرائن، واعتمدوا عليها، خاصة في مسائل الحدود، أمثلة:
يقول جيء لعمر بامرأة قد تعلقت بشاب من الأنصار، وكانت تهواه، فلما لم يساعدها؛ احتالت عليه، فأخذت بيضة، وألقت صفارها، وصبت البياض على ثوبها، وبين فخذيها، ثم جاءت إلى عمر صارخة، فقالت هذا الرجل غلبني على نفسي، وفضحني في أهلي، وهذا أثر فعله، هذه قرينه الآن، هذا السائل الذي في البيض طبيعته من حيث اللون، والرائحة أيضًا، فهذه كلها قرائن، فعمر سأل النساء، طلب منهن أن ينظرن، هل في بدنها من هذا الشيء، إلى آخره، فأقررن بذلك.
فالرجل جيء به، فذكر أنهُ بريء، وأنهُ ما وقع بفاحشة قط، ولا هم بذلك، وأنها هي التي راودته؛ فامتنع، فشاور عمر عليًا، فنظر علي إلى ما على الثوب، ثم دعا بماء حار، شديد الغليان، فصب على الثوب، فجمد ذلك البيض، ثم أخذه، وشمه، وذاقه؛ فعرف طعم البيض، فاعترفت المرأة، واضح؟ نشف، وصار بيضًا مقليًا[16].
يعني: هذه قرينه جاءت بها هذه المرأة لكنها قرينه فاسدة، وهناك قرائن على كل حال، العلماء يذكرون أشياء، يعني: يقولون مثل رجل وجد لوحده في مكان، ومعه سكين، وآخر يتشحط في دمه، والسكين فيها الدم، وثيابه فيها دم، هذه قرينه على أنهُ هو الذي قام بالقتل، الصور مثلاً، وجدت صور في مكان الجريمة لكاميرا مثلاً من الكاميرات العامة، البنوك، الشوارع، إلى آخره، محلات تجارية، فوجد هذا الرجل بالكاميرا لقطات، وهو يتابع هذا المجني عليه مثلا، أو يعتدي عليه، أو يأخذ هذه الطفلة، أو نحو ذلك، هذه ليست بقطعية، الصور ممكن تدبلج، لكن هي قرينة هي من القرائن، وقل مثل ذلك أمثلة، وصور كثيرة جدًا.
فالأخذ بالقرائن معتبر، لكن هذه القرائن تتفاوت، قال: والقول بالمصالح، والسياسة الشرعية.
هنا يقول: القول بالمصالح، المصالح المقصود بها المصالح المرسلة، والمصالح المرسلة، يعني: هي الطرف الوسط إذ إن المصالح منه ما اعتبره الشارع، يعني: مصلحة نص عليها الشارع، واعتبرها، وهناك مصلحة ألغاها الشارع، وهناك مصلحة سكت عنها الشارع، فالتي نص عليها الشارع مثل ماذا؟ مصلحة نص عليها الشارع، مثلاً: كون المرأة تعطى متعة إذا طلقت؛ جبرًا لخاطرهًا؛ تصليحًا لأوضاعها، فهذه مصلحة للمرأة، إذا طلقت؛ فإن الطلاق يكون مؤذيًا لها، فيجبر قلبها، فتعطى متعة بحسب غناه، وفقره، فقد يعطيها عشرة آلاف، قد يعطيها مائة ألف، قد يعطيها ألف، بحسب حاله، فيكون جبرًا لخاطرها، طيب هذه الآن مصلحة اعتبرها الشارع، ونص عليها، لا كلام فيها.
والنوع الثاني: وهو ما ألغاه الشارع، مصلحة المرأة في أن تسوى مع الرجل في الميراث، تقول: المرأة أنا احتاج المال مثل ما يحتاج الرجل، فهذه مصلحة ألغاها الشارع، فلا كلام فيها.
النوع الثالث: وهو المسكوت عنه، فمثل هذا له ضوابط إذا تحققت؛ كانت المصلحة هنا معتبرة، فهذه المصالح مثل ماذا؟ المصالح المعتبرة شرعًا التي سكت عنها الشارع، يمثل لها الفقهاء والعلماء والأصوليون بأمثلة، مثلا يقولون: تدوين الدواوين التي يكتب بها أسماء الجند، والموظفون في الدولة، ما كان في زمن النبي ﷺ بناء الدور، والمدارس، والربط.
وكذلك أيضًا مثل: الجامعات، المستشفيات، نظام للمرور ليس فيه مخالفة للشرع، ينظم سير الناس، هذا لا إشكال فيه، ما لم يكن فيه مخالفة شرعية، لم يكن في زمن النبي ﷺ لكن اقتضت الحاجة، وهذا له ضوابط، كنت تكلمت قديمًا على ضوابط يفرق فيها بين ثلاثة أشياء السنة، والمصلحة المرسلة، والبدعة، وذكرت تقسيمًا بطريقة مشجرة، بحيث يستطيع طالب العلم أن يعرف، ويتوصل متى يقال: هذا سنة، ومتى يقال: مصلحة مرسلة، ومتى يقال: بدعة، ولعل بعض الإخوان حضروا معنا هذا، في الكلام على اقتضاء الصراط المستقيم.
على كل حال، هي مكتوبه عند بعض الإخوان ممكن، وإن شئتم ممكن يكون يوم عندنا رسمة -إن شاء الله- بعرض، أعطيكم إياها، يعني: مرسومة، أشرحها لكم مباشرة، فهذا المقصود هنا اعتبار المصالح، وهذا لا إشكال فيه، بصرف النظر عن الأمثلة، مثل كتابة المصاحف في زمن عثمان مصلحة مرسلة، مع أن بعض أهل العلم يقول: لا، هذا أشار إليه القرآن ذَلِكَ الْكِتَابُ}[البقرة:2] إشارة لأنهُ سيكون مكتوبًا، ما سيؤول إليه أمره، فالأمثلة قد يختلف في التطبيقات، أو نحو ذلك.والسادس: الذي هو السياسة الشرعية، تكلم ابن القيم -رحمهُ الله- على السياسة لا سيما في كتابه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، كتاب في غاية النفع، وتكلم على السياسات المخالفة للشرع، والسياسات التي لا تخالف الشرع، وتدعو الحاجة إليها، وأن ذلك من مقتضى الشرع، ففصل فيها هذا التفصيل، وبين سبب ابتكار، واختراع سياسات مخالفة للشرع، أن ذلك بسبب جمود بعض الفقهاء عن الاستنباط من دلائل الكتاب والسنة، وإعطاء الأحكام للنوازل، وما أشبهه ذلك،
فاضطر بعض الحكام إلى استخراج سياسات، يعني: قوانين مخالفة للشرع، لكن تكلم ابن القيم على النوع الموافق للشرع[17].
وابن عقيل -رحمه الله- الحنبلي ذكر ضابطًا للسياسة التي تكون مقرة، السياسة الشرعية، وهي كل فعل تكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه النبي ﷺ ولا نزل به وحي، وبين أن من قال: إنه لا سياسة إلا بما نطق به الشرع، أن هذا مجافي للحقيقة[18] فتكون إذًا السياسات نوعان: نوع مخالف، فلا عبرة به، ونوع لا يخالف الشرع، فهو وإن لم ينقل عن النبي ﷺ لكن اقتضته المصلحة، دعت إليه الحاجة، ولا مخالفة فيه، فهذا لا أشكال فيه.
فكل عصر تجد فيه مسائل وقضايا وأمور، فما يكون أصلح للناس مما لا مخالفة فيه للشرع، فهذا لا محذور فيه، مثل الأنظمة التي لا تخالف الشرع، هذه لا إشكال فيها، أنظمة تضبط الناس في قضايا عقود، ومعاملات، يعني: لربما بعض الناس يتوصل إلي أنواع من الظلم لمن يتعاقد معهم، أو يستأجرهم من العمال، أو من يستقدمهم من العمال، أو الأجراء، أو الموظفين، أو نحو ذلك، توضع ضوابط معينه، لا تخالف الشرع، فهذا لا إشكال فيه، يجعلون حقوق للمريض، ضوابط تضبط عمل الأطباء؛ من أجل ألا تكون جناية على الناس؛ لئلا يتساهلون، كذلك على الصناع، وهكذا فهذا لا حرج فيه إذا لم يكن مخالفًا.
هذه بالنسبة لأصول مالك -رحمه الله- ثم بعد ذلك ذكر أصول أبي حنيفة، وأصول الشافعي، وأحمد، وأدركنا الوقت، كنت أظن أننا سننتهي من هذا، لكن هي مسائل تحتاج إلى توضيح، ومن ثم فإن الدرس القادم يكون تكملة لها، والله أعلم.
- انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (20/303 - 310).
- انظر: المصدر السابق (20/303، 304).
- انظر: المصدر السابق (20/ 306).
- انظر: المصدر السابق (20/ 306).
- انظر: المصدر السابق (20/ 308).
- أخرجه ابن ماجه في سننه، [افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم]، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم (42)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (165).
- انظر: المصدر السابق (20/ 309).
- انظر: المصدر السابق (20/ 310).
- انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم (2/ 278).
- انظر: نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله الشنقيطي (2/265).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، برقم (5973).
- انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/167).
- انظر: المصدر السابق (1/166).
- انظر: المصدر السابق (3/ 55).
- انظر: المصدر السابق (3/79).
- انظر: الطرق الحكمية، لابن القيم (44).
- انظر: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن القيم (1/ 7).
- انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (6/512).