الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا زلنا نتحدث عن حديث جبريل حينما سأل رسولَ الله ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان.
فبعد أن سأله عن الإسلام، وفسره له النبي ﷺ توجه بالسؤال عن الإيمان، وذلك أنه قال: صدقتَ، يصدق جواب رسول الله ﷺ له.
قال عمر : فعجبنا له يسأله ويصدقه، يعني: يسأل ويقول: صدقت، فهو كأنه عالم بما قاله له النبي ﷺ.
ومن شأن السائل أنه عادة إنما يسأل عما يخفى عليه، ثم بعد ذلك يسمع الجواب، وأما أن يعلق بهذا التعليق، ويقول: صدقتَ فإنما يقول ذلك العارف بهذا الجواب، وكان ذلك سبباً لتعجب الصحابة من هذا الرد، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
كما لو أنك سألت أحداً فقلت له: أين كنتَ عصر هذا اليوم؟ فقال: كنتُ في مكان كذا وكذا، فقلتَ له: صدقتَ، فهو يشعر من هذا الجواب أنك رأيته، أو أنك تعلم بذلك منه.
أو تقول لشخص: كم بلغ سعر كذا وكذا؟ فيقول: سعره كذا في السوق، فتقول له: صدقت، فيفهم أن السائل عالم بهذا الجواب، وإنما سأل لأمر آخر، ليُعلم الآخرين، أو ليختبر علمه بذلك.
فهنا جبريل إنما سأل ليسمع الصحابة ، ثم سأله عن المرتبة التي هي أعلى من الإسلام؛ لأن الإسلام -كما سبق- إذا ذكر وذكر معه الإيمان فذلك يعني أن الإيمان درجة أعلى من الإسلام، فوق الإسلام، وذلك ما يتغلغل في قلب الإنسان من الإقرار والتصديق الانقيادي، أما الإسلام فهو إسلام الجوارح، إسلام الظاهر، ولهذا أنكر الله على الأعراب حينما قالوا: آمنا، قال الله : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]، فرد عليهم هذه الدعوى، وصححها وقال: قُولُوا أَسْلَمْنَا، أي: أنهم أسلموا بجوارحهم، ولم يتغلغل الإيمان إلى قلوبهم، فجبريل سأل عن الإسلام الذي هو إسلام الظاهر، وذلك بهذه الأمور: أن يشهد الشهادتين، ويصلي، ويصوم، ويزكي، ويحج إن كان مستطيعاً، هذا هو الإسلام في ظاهره، بناء على دعائمه العظام، وإلا فهو يشمل ذلك جميعاً، كل الأعمال الظاهرة.
وأما الإيمان فإنه يعني ما هو أخص من ذلك، وهو ما يتصل بالقلب من التصديق؛ لأن المنافق قد يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويصلي، ويصوم، ويحج، ويزكي، ولكنه يظهر ما لا يبطن من الكفر أو الشك، أو التكذيب أو نحو ذلك، ولكنه إن كان مقراً بقلبه، منقاداً فإنه يكون مؤمناً بهذا الاعتبار، فارتقى إلى الدرجة التي فوق الإسلام وهي الإيمان.
فقال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، لا نحتاج أن ننبه إلى أن تؤمن بوجوده؛ لأن هذا مغروز بالفطر، لكن أن تؤمن بوحدانيته، بإلهيته، بربوبيته، بأسمائه وصفاته، تؤمن أن الله هو المعبود وحده، الذي لا يستحق العبادةَ أحد سواه، هذا معنى الإيمان بالله، أن تؤمن بأن الله هو رب كل شيء ومليكه، فهو رب هذه الكائنات جميعاً، ليس ثمّة سوى رب أو مربوب، فالله هو الرب، وما عداه فهو مربوب مخلوق.
ومعنى الرب أي: السيد المطاع الموجِد من العدم، الخالق المربي لعباده وخلقه بالنعم الظاهرة والباطنة، فهذا معنى الإيمان بالله، أن نؤمن بأوصاف الكمال له، ما وصف به نفسه من صفات الكمال، وأن نؤمن بأسمائه التي سمى بها نفسه، فلا نسميه باسم لم يسمِّ به نفسه، ولا نصف ربنا -تبارك وتعالى- بما لم يصف به نفسه، ولا ننفي عنه شيئاً مما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، فهذا معنى الإيمان بالله.
قال: وملائكته، ذكر الملائكة ثانياً، وهذا لا يستدل به على أن الملائكة أفضل من الأنبياء والمرسلين، وهذه مسألة تكلم عليها بعض أهل العلم لا فائدة من الاشتغال بها، وما يترتب عليها شيء.
ويمكن أن نقول: إنه ذكر الإيمان بالملائكة بعد الإيمان بالله؛ لأنهم واسطة بين الله وخلقه بنقل رسالات الله إلى الناس، فالوحي يأتي عن طريق الملائكة.
ويجب أن نؤمن بأنهم خلق لله كرام، لا يحصيهم إلا الله -تبارك وتعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فهم ذوات طاهرة مقدسة طيبة، ليس فيها أهواء، وليس فيها أدناس، ولا أرجاس، وإنما في غاية الطهر والنزاهة، هم فيما يقابل الشياطين تماماً، يعني: الشياطين في طرف، والملائكة في الطرف الآخر، الشياطين هم محل الشر والكفر والتكذيب والإعراض والإغراء بالباطل، والملائكة هم محل الطهر والنزاهة، فلا توجد فيهم الشهوات والأهواء التي توجد في الإنس والجن، فهم لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، وهم كثير جداً.
النبي ﷺ أخبرنا عن البيت المعمور في السماء أنه يأتيه في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبداً[1].
فلو حسبت في السنة كم يأتي، وفي عشر سنوات كم يأتي، وفي ألف سنة كم يأتي إلى ذلك البيت المعمور فستدرك أنهم أعداد هائلة جداً، وهم جند من جند الله : وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، فبهذا يعلم الإنسان عظمة الله ، وكثرة جنوده، وأنه غني عنك، وعن طاعتك، وعن عبادتك، فعبادتك لا تزيد في ملكه شيئاً، إنما نصنع ذلك لأنفسنا.
والنبي ﷺ قد رأى جبريل في صورته الحقيقية -على المشهور- مرتين، رآه مرة عند سدرة المنتهى[2].
ورآه مرة عند غار حراء، رآه ساداً ما بين الأفق، على كرسي بين السماء والأرض، له ستمائة جناح[3].
والله يقول: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم: 5-6]، يعني: أنه كامل الخلق، مستوي الخلق، قوي شديد في خلقه، ليس ضعيفاً، يقول النبي ﷺ: الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مِرّة سوي[4] أي أنه إنسان قوي، ليس فيه علة، ولا عاهة، ولا إعاقة، فلا تحل له الصدقة.
ويقول النبي ﷺ: أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام[5].
يعني: إذا كان الطائر يقطع ما بين سبعين إلى ثمانين كيلو في الساعة، فلك أن تحصي هذه المسافة عند الملك، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام تخفق الطير، فكم يحتاج حتى يطير من أعلى الملك إلى أسفله، شيء لا يحصيه إلا الله .
وأخبرنا النبي ﷺ عن النار التي قال الله : عنها: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر: 23]، يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها[6]، يعني: ما تقاد به، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يعني: كل زمام يمسكه سبعون ألف ملك، كم عدد هؤلاء الملائكة الذين يقودون النار؟
عدد هائل يحتاج إلى عملية حسابية، وما حجم هذه النار التي تحتاج هؤلاء الملائكة كلهم حتى يجروها؟،، نار هائلة يُلقَى فيها الشمس والقمر، فهي تستوعب الشمس والقمر، يعني: إذا كان أهل الفلك يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض ملايين المرات، فالنار تستوعب الشمس والقمر، ويلقى فيها الناس وتقول هل من مزيد؟، هل من مزيد؟.
والله يقول: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، الحجارة: قالوا: أحجار الكبريت؛ لأنها شديدة التوقد، وقيل: هذه الأصنام التي يعبدونها والأوثان من دون الله -تبارك وتعالى.
والإيمان بالملائكة مجمل ومفصل، فنؤمن أن الملائكة لا يحصيهم إلا الله سبحانه، وهناك إيمان مفصل بمن سماهم الله لنا في الكتاب والسنة، جبريل وميكائيل وغيرهم ممن سماهم.
أما من جاءت تسميته في الإسرائيليات كملك الموت عزرائيل، فقد ثبت عندنا ملك الموت فقط، أما عزرائيل فلا تثبت هذه التسمية، لا في الكتاب، ولا في السنة، وهذه أمور غيبية، إنما تؤخذ من الكتاب والسنة فقط.
فنؤمن بهؤلاء الذين سماهم لنا الله ، أو سماهم النبي ﷺ على وجه التفصيل، ومن كفر بواحد منهم فكأنما كفر بهم جميعاً، كما قال الله -تبارك وتعالى- رداً على اليهود: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة: 98]، فاليهود قالوا: نحن نعادي جبريل، لو أن صاحبك -يعني الذي أنزل عليك الوحي- غير جبريل لآمنا بك واتبعناك، فرد الله عليهم.
وأما الكتب فنؤمن بها إجمالاً، وأن الله أنزل كتباً على أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- فيها الهداية للخلق، وما يُصلح حالهم في دنياهم وفي آخرتهم، وتحصل به سعادتهم، ونؤمن على وجه التفصيل بما سمي منها، مثل التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى ، والقرآن وهو أعظمها.
أما الأشياء التي وردت في الإسرائيليات فلا نؤمن بها ولا نكذبها، لكن نؤمن أن الله أنزل كتباً وصحفاً على أنبيائه ورسله، منه ما عرفناه، ومنه ما لا نعرفه، ومن كفر بواحد منها فقد كفر بها جميعاً، لابد من الإيمان بها جميعاً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات (1/ 145)، رقم: (162).
- أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة والنجم (5/ 394)، رقم: (3278).
- أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة والنجم (4/ 1840)، رقم: (4575)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى (1/ 158)، رقم: (174).
- أخرجه أحمد (14/483)، رقم: (8908).
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في الجهمية (4/ 370)، رقم: (4729).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين (4/ 2184)، رقم: (2842).