الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
حديث «يا غلام إني أعلمك كلمات..» (3-3)
تاريخ النشر: ٢٦ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 2841
مرات الإستماع: 8016

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:  

فلا زال الحديث عن وصية النبي ﷺ لابن عباس -ا، حيث قال له ﷺ: يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

يقول: وفي رواية غير الترمذي: احفظ الله تجده أمامك...[1]، وأشرنا إلى هذه الرواية، وهي مفسرة لقوله ﷺ: احفظ الله تجده تُجاهك.

قال: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وقد بينا وجه ذلك، أن التعرف إلى الله في الرخاء بالعمل الصالح، وحفظ حدود الله .

قال: واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئكأي: أن الإنسان لا ينجو من الأمور المكروهة بحذقه ومهارته وشدة تحرزه وتوقيه، إنما عليه أن يبذل السبب فحسب، فإن ما قدره الله عليه لابد أن يلحقه، وما لم يكن مكتوباً عليه فلا يمكن أن يقع عليه، فلم تكن نجاة الإنسان حينما نجا من مهلكة واجهته بسبب حذقه ومهارته، وكياسته وما أشبه ذلك، إنما لأن الله لم يقدّر عليه هذا.

والعكس كذلك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، مهما بذلت من الأسباب، وتوقيت فإن ذلك لابد أن يقع بك، وإذا عرف الإنسان هذا المعنى فإنه لا يتحسر بسبب ما ينزل به من الكروب والمصائب، وإنما ليس عليه إلا الصبر، وأن يحتسب عند الله الأجر؛ لأن هذا لا مدفع له، ولهذا قيل: لا يُنجي حذر من قدر، والله يقول: الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، وقال: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154]، وقال: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ [الأحزاب:16] فذلك لابد أن يقع في الوقت الذي حدده الله ، بالكيفية التي قدرها على هذا الإنسان، ولكن الإنسان لا يدري ما قدر الله عليه، وعليه أن يعمل، وأن يبذل الأسباب، فإذا وقع به قدر الله  فلا مفر منه، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة:8].

قال: وما أصابك لم يكن ليخطئك؛ لأن الله يقول: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22]، من قبل أن نخلقها، وقدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، والإنسان إذا مضى له أربعة أشهر في بطن أمه يؤمر بأربع كلمات، برزقه وأجله وعمله شقي أم سعيد.

ولو أن الإنسان استحضر هذا المعنى استحضاراً كاملاً فإنه يحصل له كمال اليقين، وكمال التوكل، وكمال الرضا بما يقدره الله عليه، فما يفوته من المكاسب وما يحصل له من الأوصاب والأنصاب والأوجال والهموم والمصائب كل ذلك أمر قد قدره الله عليه وفرغ منه، فلا معنى لـ"لو" في مثل هذا المقام، ولهذا قال النبي ﷺ: إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان[2].

يقول: واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ذكر ثلاثة أمور الناس إليها في غاية الحاجة، أن النصر مع الصبر، فهذه قاعدة ثابتة، يدركها العقلاء بعقولهم، ويدركها المجربون بتجاربهم، وقد أخبر عنها النبي ﷺ وهو من لا ينطق عن الهوى ﷺ: النصر مع الصبر، وذلك أن الإنسان يحتاج إلى أن يصبر في مواجهة عدوه، ولهذا قيل: النصر صبر ساعة، ولهذا سئل بعض الأبطال كعنترة حيث إنه كان مشهوراً بشجاعته وفرط قوته وانتصاره على عدوه، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: إنما هو صبر ساعة، فهو يقدر أن خصمه أو أن عدوه سينهزم هذه اللحظات، فيقول: أثبتُ وأصبر ليكون المنهزم هو، فلابد أن ينهزم أحد الطرفين أو يقتل، فهو يصبر ويثبت ويتجلد من أجل أن تكون الكسرة في حق صاحبه، وعدوه، وخصمه، وهذا مشاهد في الحروب، سواء كان ذلك في مواجهة الأفراد، كما كانت الطريقة قديماً في قتال الناس، أو كان ذلك عن طريق الجيوش الحديثة، أو نحو ذلك، فالناس إذا صبروا تحقق لهم مطلوبهم من الظفر، ولكن الذي يحصل أن الإنسان ينكسر، ثم بعد ذلك يكون ذلك موطِّئاً لهزيمته، وهكذا حال الإنسان مع الشيطان، ومع شياطين الإنس أيضاً، يحتاج إلى أن يصبر.

ولهذا ذكر ابن القيم -رحمه الله- في آخر بدائع الفوائد عشرة أمور هي في غاية النفع، يحقق بها الإنسان الانتصار على عدوه، ويدفع شره وكيده، وذكر منها الصبر، أن يصبر على هذا الأذى، ويعلم أن ذلك لا يدوم، ولابد من تغير الحال، فما عليه إلا أن يتجلد، فلا يبدو منه شيء يشينه أو لا يليق به، أو أن ينفرط صبره فينهزم.

وقد ذكرت لكم في بعض المناسبات أن الغزال إنما يصيده الكلب وهو أسرع منه؛ لأن الغزال إذا جرى وأسرع فإنه يلتفت بعد مدة، فإذا التفت، انثنى عزمه، ثم سقط، فيأخذه ويصطاده، لكن لو أنه شمر، ولم يلتفت فإنه لا يستطيع أن يظفر به؛ لأنه أسرع منه، وهكذا حال الإنسان مع الشيطان، وحال الإنسان مع أعدائه، ما عليه إلا أن يصبر، فإذا لم يصبر طمع فيه عدوه، وكان الظفر به يسيراً، سواء كان ذلك على أرض المعركة، أو كان ذلك بغيره من المواجهات مع الأعداء في دعاياتهم فيما يجلبون من ألوان المكر على هذه الأمة، فما على هذه الأمة إلا أن تصبر وتتجلد، وتستمسك بحبل الله المتين، لا أن تتنازل عن شيء من مبادئها وعقائدها ودينها، فيستخف بها أعداء الله ثم بعد ذلك لا يلوون على شيء.

قال: وأن الفرج مع الكرب ذكر النصر مع الصبر، وذكر الفرج مع الكرب، والكرب المقصود به الشدة، والشدة لا تدوم، لا يمكن أن يدوم ذلك على حال واحدة، فالليل يعقبه النهار، والشدة يعقبها الفرج، والله يقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]، يقول النبي ﷺ: لن يغلب عسر يسرين[3].

لأن العسر المذكور أولاً هو المذكور ثانياً بعينه، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وذلك أن المعرفة إذا كررت فالأصل أن الثانية هي الأولى، فهما يسران بمقابل عسر واحد.

فالإنسان إذا عرف هذا المعنى، وأن هذه الشدة ستزول، وأن آخرين كثيرين ممن قبله وممن يعاصره مرت بهم شدائد ثم زالت وتلاشت سواء كان ذلك من قبيل الأمراض، أو كان ذلك من قبيل الفقر، أو كان ذلك من قبيل المخاوف التي تقع للإنسان أو نحو هذا، كل ذلك سيزول، ولن يدوم على حالة واحدة، وسيصبح تاريخاً يذكر، فيُنظر في حال الإنسان وما يسجل عليه من العمل والأخلاق، وما يبدر منه من قول، وما يكون منه من حال في مثل هذه الشدائد.

هذا، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصبر واليقين والثبات، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

  1. أخرجه أحمد (5/ 18)، رقم: (2803).
  2. أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (4/ 2052)، رقم: (2664).
  3. أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة ألم نشرح (2/ 575)، رقم: (3950)، قال الألباني: مرسل، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (9/ 327)، رقم: (4342).

مواد ذات صلة