- قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
- قوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، هذه الآية تضمنت ثمرتين من ثمار التقوى، الأولى: أن الله يجعل للإنسان صاحب التقوى مخرجاً، وهذا المخرج يتخلص به من الحرج الذي لربما يقع فيه، فيتطلب كثير من الناس المخلص منه بارتكاب الحرام.
فإذا اتقى العبد ربه -تبارك وتعالى- وتحرى العدل والصدق والصواب فيما يأتي ويذر فإن الله يخلصه من المخاوف، ومن الكروب في الدنيا والآخرة، يجعل له مخرجاً من كل أمر مخوف، ويجعل له مخرجاً من كل أمر ضاق عليه فطلبَ المخلصَ والمخرج منه، فالإنسان لابد أن يلم به بعض الشيء، ولابد أن يلم به بعض المصائب والآلام، فالله ينجيه ويخلصه من هذه الكروب التي نزلت به إذا اتقى الله .
كذلك العبد لربما يبتلى، ولربما يبذل بعضهم دينه في سبيل الخلاص، فالله يجعل لعبده مخرجاً ويخلصه إذا كان متقياً له؛ لأنه من عرف الله في الرخاء عرفه الله -تبارك وتعالى- في الشدة، والله لا يخلي عبده، ولا يسلمه، ولا يخذله، وإنما يبتليه، ثم يرفعه بعد ذلك إذا علم منه التقوى، والصبر واليقين، لربما يُظلم الإنسان، ولربما صودر حقه، ولربما قاسى من أقرب الناس إليه ألوان الملمات، لربما لقيت المرأة من زوجها أشياء، لربما الولد من والده، لربما التلميذ من معلمه، أو الموظف من مديره، أو نحو ذلك، فلربما قابل الظلم بظلم أشنع منه، ولكن الإنسان إذا اتقى الله في تصرفاته فلم يتكلم إلا بالعدل، وإذا دعا فإنه لا يظلم بدعائه، كما قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله: إن الإنسان قد يظلم بدعائه أعظم مما ظُلم، فيكون الدعاء أعظم من مظلمته، يعني: الدعاء صار عظيماً في أمر لا يستحق هذا الدعاء كله على هذا الإنسان الذي ظلمه، لربما ظلمه بشيء يسير فيدعو عليه بأن الله يشل أركانه، وأن يخسف به الأرض، وأن ييتم أطفاله، ويرمل نساءه من أجل أنه سرق جواله مثلاً.
لكن يقول: اللهم جازه بما يستحق، إن كان ولابد فاعلاً، وفي كثير من الأحيان الإنسان حينما يقاسي مرارة الظلم فإنه لربما يخرج عن طوره، ولربما يتصرف تصرفات لا تنضبط بالضوابط الشرعية، فالمقصود أنه إن اتقَ الله قبل ذلك وفي أثناء ذلك وبعده فإن الله يجعل له مخرجاً، وهكذا في القضايا المالية، من الناس من لربما يضيق عليه الحال، فإذا اتقى الله فرج عنه ووسع له، ولهذا قال الله : وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3].
من الناس من يشتغل في عمل محرم، كأن يشتغل في بنك ربوي أو نحو هذا، وإذا قيل له: اتق الله، قال: من أين قوت العيال؟ نقول: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، أحياناً يكون الإنسان يشتغل في محل ذهب أو غير ذلك، وصاحب هذا المحل يلزمه بمعاملات محرمة، فنقول له: لا يجوز لك البقاء في هذا المكان، فإن قال: أين أذهب؟ لا أجد عملاً، نقول: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، من حيث لا يتوقع، فهذه من ثمرات التقوى.
ثم قال الله تعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29]، ذكر ثلاثة أشياء، وعقبها بهذا التعقيب وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً، أي: تفرقون به بين الحق والباطل، وبين معدن الحق ومعدن الشبهات، وذلك أن الإنسان كلما تلطخ بالذنوب والمعاصي كلما تكدرت بصيرته، فلا يبصر، ولا يرى الأشياء على حقيقتها صافية ظاهرة واضحة، وكلما تنقّى العبد من الذنوب والجرائم والمعاصي كلما استنارت بصيرته، فيرى ويبصر بنور الله -تبارك وتعالى.
ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المعنى في مثل هذه الأيام التي تكثر فيها الشبهات، وتكثر فيها أيضاً الشهوات، وتكثر فيها الفتن التي لربما التبس بعضها على كثير من الناس، فإذا اتقى العبد ربه فإن الله يجعل له هذا الفرقان الذي يفرق به بين الحق والباطل.
وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وهذه ثمرة أخرى تكفير الذنوب بتقوى الله -عز وجل، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]، فتقوى الله سبب لكل خير، ومن ذلك تكفير الذنوب ورفع الدرجات، ولهذا قال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، فعطاؤه لا يحد ولا يحصر، فلا يقتصر أثر التقوى على هذه الأمور المذكورة، بل يرفع الله درجات هؤلاء المتقين في الجنة، ويفتح لهم من أبواب الفضل والخير، ويوفقهم ألوان التوفيق بسبب تقواهم، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9]، إنما كان ذلك بسبب التقوى بعد فضل الله ورحمته.
يقول: والآيات في الباب كثيرة معلومة، ثم بعد ذلك ذكر خمسة أحاديث.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.