- مقدمة باب الاستقامة
- قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}
- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الإمام النووي -رحمه الله: باب في الاستقامة، وذكر كعادته -رحمه الله- في صدر هذا الباب جملة من الآيات، ثم أتبعها بالأحاديث.
والمقصود بالاستقامة: أن يلزم الإنسان الطريق التي رسمها الله لعباده، وأمرهم بسلوكها، من غير أن يحيد عنها يمنة أو يسرة، فيكون مؤتمراً بأمر المالك المعبود ، ومنتهياً عما نهاه عنه.
وحقيقتها أن يكون ملازماً للتقوى، أن يكون سالكاً للصراط المستقيم الذي يدعو الإنسان ربه في كل ركعة لزوماً أن يسلك به ذلك الصراط، اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة:6]، فالاستقامة هي الاستقامة على الطريق، أن لا يعوجّ في سيره إلى الله -تبارك وتعالى.
والله يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، فهذه السبل على كل رأس سبيل منها شيطان يدعو إليه، تارة يكون ذلك بطريق الشبهات التي يحصل منها زيغ القلب باشتباه الحق، والتباسه على المكلف، فيضل، وتارة يكون ذلك بسبب الشهوات التي رُكبت وغرزت في نفوس الناس، فتتراءى له وتتعرض له هذه الأمور الفاتنة، فيحيد، والناس في سلوكهم الصراط المستقيم يكونون في غاية التفاوت، فمن الناس من يلزم الصراط المستقيم ويكون في أحسن حالاته، وذلك بلزوم طاعة الله ظاهراً وباطناً في الواجبات، فهو يفعلها، والمحرمات يتركها، والمشتبهات يبتعد عنها، فيكون مكملاً للورع، ومن الناس من يكون فاعلاً للواجبات، وتاركاً للمحرمات إلا أنه قد لا يتورع من المشتبهات، ومن الناس من يكون سيره على الصراط المستقيم دون ذلك، فيقع منه شيء من اللمم والصغائر، وهذه تكفرها التوبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدقة، والإحسان بجميع أنواعه، والوضوء، والصلاة، وما إلى ذلك، ومن الناس من ينحرف عن ذلك، فيقع في شيء من الكبائر، وهذا في مرتبة دون الذي قبله، ومنهم من يكبو، بل من يُعرض تماماً، ويدير ظهره للصراط المستقيم، فيكون كافراً بالله العظيم، سالكاً سبل الغواية والشيطان، عابداً لغير الله ، وهذا حال الضالين، وحال المغضوب عليهم، الذين نقول بخصوصهم: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، سواء كان هؤلاء ممن عرفوا الحق فتركوه، أو كانوا ممن لم يعرفوا الحق أصلاً، فكان ضلالهم بسبب الجهل، وهؤلاء يملئون كثيراً من الأقطار، فهم أمم كثيرة، وهم أكثر أهل الأرض، ما بين عارف للحق وهو معرض عنه، وما بين جاهل به لكنه لا يرفع رأساً، ولا يبحث عنه ولا يتطلبه، وكأن الأمر لا يعنيه.
فالمقصود أننا مطالبون بلزوم هذه الاستقامة، لأن الله كما ذكر الإمام النووي -رحمه الله- في أول آية في صدر هذا الباب- قال مخاطباً لنبيه ﷺ والخطاب لأمته؛ لأن الأمة في شخص قدوتها وكبيرها، ومقدمها ﷺ: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112] .
وإذا كان النبي ﷺ قد خوطب بهذا فغيره من باب أولى، والنبي ﷺ هو أكمل الناس استقامة على الصراط المستقيم، ولكن ذلك أيضاً يؤمر به للثبات على هذه الاستقامة من جهة؛ ولأن تكاليف الشريعة متنوعة متعددة في كل أوان وزمان، فيها تكاليف، ووظائف جديدة، وفي كل موسم له وظيفة، فالنبي ﷺ مطالب بلزوم الصراط المستقيم، والاستقامة عليه، كَمَا أُمِرْتَ، يعني: بعيداً عن الأذواق، والمواجيد، وبعيداً عن الاجتهادات، والأقيسة التي تقابل النصوص.
فالعبد المكلف ينبغي أن يكون متبعاً لأمر الله ولا يكون متبعاً لهواه، يأخذ من الصراط المستقيم ما يحلو له، وما يتلاءم مع ذوقه، أو مع مواجيده، أو مع أهوائه، ويترك ما عدا ذلك، هذا لا يصح بحال من الأحوال، وإنما كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208]، أي: في الإسلام، فيكون الإنسان مسلماً بجميع حالاته، في ظاهره وباطنه، في جوارحه، في لسانه، فيستسلم لله ، فلا يبدو منه إلا ما يليق.
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ [هود:112]، أي: أسْلِم، أي: أنهم مطالَبون بذلك، أن يستقيموا دون أن يأخذوا ذلك بالتشهي، والاختيار.
وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود: 112]، لا تطغوا أي لا تخرجوا عن هذا الصراط؛ لأن من تجاوزه فقد طغى، تجاوز الحق، أعرض عنه.
ثم ذكر آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، في الآية الأولى ذكر الأمر بالاستقامة، وفي هذه الآية ذكر الثناء على أهل الاستقامة، وجزاءهم.
هؤلاء الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ، أي: آمنوا به إيماناً صحيحاً، ثُمَّ اسْتَقَامُوا، هنا ليس الترتيب في الزمان، وإنما ذلك في الرتبة، أو ما إلى ذلك من المعاني التي يذكرون، ثُمَّ اسْتَقَامُوا، أي: ومع ذلك استقاموا، فلم تكن دعوى التوحيد مجرد كلمة قالوها بألسنتهم، بل إنهم مع ذلك حققوا الاستقامة، فهؤلاء لم يكتفوا بقول اللسان، أو بدعوى أن الإيمان في قلوبهم فحسب، بل إنهم استقاموا حقيقة في واقعهم وعملهم وحالاتهم كلها.
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، قيل: عند الموت، عند الاحتضار، والإنسان أحوج ما يكون إلى التثبيت في مثل هذه الحالات.
والنبي ﷺ لما كان في حال الاحتضار كان يقول: الرفيق الأعلى[1]، كان يختار جوار ربه ﷺ.
ولما كان عبد الله بن المبارك –رحمه الله- عند الموت غشي عليه، ثم أفاق، وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61].
والآخر يطعن بالرمح من ظهره فيخرج من صدره، ويأخذ الدم بيديه، ويقول: فزت ورب الكعبة، فهؤلاء يرون عند الموت ما يسرهم، وما تبتهج به نفوسهم، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا [فصلت:30]، وهذه اللفظة، "تتنزل" تدل على التكثير، أَلَّا تَخَافُوا أي: من أمر تستقبلونه، فالله يؤمّنهم من المخاوف، ولهذا يقول الله : الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، لهم الأمن التام في الدنيا، وفي الآخرة، عند الموت، وقبل الموت، وبعد الموت.
فهؤلاء لهم الأمن إذا خاف الناس وفزعوا في أرض المحشر، فهؤلاء يأمنون، وَلَا تَحْزَنُوا على أمر فائت مما فقدتم من الأهل والأموال والأولاد، وما أشبه ذلك من متع الدنيا.
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، يبشرون بذلك قبل دخول الجنة، ويكون ذلك أيضاً في قبورهم.
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت:31]، أنصاركم، وأحباؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، هؤلاء هم أهل الاستقامة، تكون لهم ولاية الله -عز وجل، وولاية الملائكة.
وَلَكُمْ فِيهَا، أي: في الجنة، مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31]، ولم يحدد شيئاً ما تشتهي أنفسهم، كل ما تشتهيه النفوس، فكل نعيم يخطر على البال أولا يخطر على البال كله في الجنة.
ولذلك كثيراً ما يسأل النساء: الرجال لهم الحور العين، فماذا للنساء؟
نقول: لم يرد في هذا تحديد شيء يخصه، ولكن الله قال: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31]، يعني: ما تتمنون، لكم فيها ما تتمنون، كل ما تتمناه يحصل لك.
بخلاف هذه الدنيا التي تنقطع فيها الأماني للكبير والصغير، وأدنى ذلك البقاء وطول العيش في هذه الحياة الدنيا، مهما أوتي الإنسان من الملك والعظمة والمال، وما أشبه ذلك فإنه يتبدد كأنه حلم، وكأنه ما مر عليه، ثم يُوسَّد في مَلحُودة غبراءُ جوانبُها، يستوي فيها الكبير والصغير، والحقير والعظيم، يستوي فيها الغني والفقير، كلهم يوسَّدون في ذلك المحل الذي تعرفون.
نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ[فصلت:32]، وهو المكان المهيأ المعد لضيافتهم، ومحل إقامتهم، فيه الأشياء الفاخرة من الأثاث والمطاعم والرياش، وفيه كل لون من ألوان النعيم.
فلهذا ينبغي أن يتنافس المتنافسون عليه، وإليه ينبغي أن تمتد الهمم، وتمتد الأنظار، ويتطلع إليه الناس حقيقة، لا إلى هذه الحياة الدنيا التي تنقضي لذائذها، وتفنى مباهجها، ويواجه الإنسان بعد ذلك الحقيقة، ويبقى مع عمله دائراً.
وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ[الإسراء:13] يعني العمل، كما سمعتم في الآية وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13-14].
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاستقامة ظاهراً وباطناً، وأن يرزقنا وإياكم صلاح الحال وحسن العاقبة والمآل، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته (4/ 1613)، رقم: (4172)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل عائشة -رضي الله تعالى عنها- (4/ 1893)، رقم: (2444).