الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد من هذا الكتاب المبارك، وهو باب المجاهدة، والمجاهدة هي مفاعلة تقتضي طرفين، وذلك يدل على بذل للوسع والطاقة في عمل من الأعمال.
فالعمل الذي لا يحتاج إلى جهد وطاقة فإنه لا يكون تعاطيه وتحصيله داخلاً في باب المجاهدة، مثل الأكل والشرب فإن هذا مما تطلبه النفوس، فلا يقال: الإنسان يجاهد حتى يأكل ويجاهد حتى يشرب أو نحو ذلك، إلا إذا كان لا يرغب فيه لسبب أو لآخر، مثل المريض إذا ألزم بالطعام فإنه يحتاج إلى مجاهدة من أجل أن يتجرعه، أما في حالة كون الإنسان معافى ونفسه تميل إلى الطعام فهذا لا يحتاج إلى مجاهدة.
فالمجاهدة تكون في الأمور التي لربما يوجد في النفس ما يدفعها، وذلك موجود في معالي الأمور لا يُستثنى منها شيء، والله تعالى أعلم.
السفول، والهبوط، والانحدار لا يحتاج إلى مجاهدة، ولذلك فإن المطالب العالية في الدنيا أو في الآخرة لا تنال براحة الجسم، لا تنال بالكسل، الإنسان يستطيع أن ينام إلى أذان الظهر، بل لا يستيقظ لصلاة الظهر، فينام إلى المغرب، ثم يقوم فيأكل، ثم يرجع فينام، ثم يقوم ويشرب، ويرجع وينام، ويُتبع النوم بالنوم، لكن هل هو بهذه الطريقة يمكن أن يحصّل مطلوباً من مطالب الدنيا التي يحرص على تطلبها الناس؟ أبداً.
هل هذا ينجح بوظيفة؟ هل هذا ينجح بتجارة؟ هل هذا ينجح بعمل يوكل إليه؟ إطلاقاً، يكون فاشلاً، شعاره الكسل، والإخلاد، والخمول، والعجز، والناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً بيناً، فمن الناس من يسترسل مع نفسه كل الاسترسال، ولذلك لا يفيق من سكرته، لا يصلح لشيء، لا ينجز مهماً، ولا مطلوباً، لا من أموره الدنيوية، ولا من الأمور الأخروية.
من الناس من يكون له نوع مجاهدة، ولكنه يسترسل مع النفس كثيراً، ولذلك فإنه لا يكاد يرتقي، لا في عمل، ولا في تجارة، ولذلك تجدون الكثيرين لا يحققون كثيراً من أمانيهم، والسبب هو الإخلاد إلى الراحة، ولذا يلجأ الكثيرون إلى البحث عن الطريق السهل في الكسب، عن طريق التجارة بالأسهم –مثلاً، فهو وهو جالس في بيته يمكن أن يتابع، أو أن يضع المال في محفظة، أو نحو هذا، ويأتيه الربح وهو جالس، ولذلك تجدون أن الأعمال التي وُجدت مما يسمى بتوظيف رءوس الأموال، أو الاستثمار بتوظيف رءوس الأموال، أو نحو ذلك مما دخله كثير من التلاعب، وَوَجد سوقاً رائجة السبب أن الكثيرين لا يريدون أن يعملوا، لا يريد أن يفتح مشروعاً فيرابط عند هذا المشروع منذ الصباح الباكر في كل يوم، يريد أن ينام، ويريد أن يخرج، ويتنزه، وما إلى ذلك، ولذلك تجدون أيضاً الذي يميل إلى الوظائف -وهم كثيرون- يبحث عن العمل السهل، العمل الذي لا تبعة فيه، العمل الذي لا يحتاج إلى وقت طويل، ولا يُبذل فيه جهدٌ كثير، إن مال إلى التدريس فمن أجل طول الأجازات، من أجل أن العمل يكون إلى الساعة الحادية عشرة، أو نحو هذا، ثم يرجع إلى بيته وانتهى كل شيء، فعلى قدر المجاهدة على قدر ما نحصل.
لماذا لا يكون الناس على وتيرة واحدة على الأقل في المحافظة على صلاة الجماعة؟ السبب ضعف المجاهدة، لماذا لا نقوم الليل؟ السبب أن هذا يحتاج إلى مجاهدة، هذا أكثر من الصلوات الخمس، الصلوات الخمس يصليها الكثيرون، لكن قيام الليل؟ لماذا؟ لأنه يحتاج إلى مجاهدة زائدة.
الصيام يحتاج إلى مجاهدة، لماذا لا نصوم شهر شعبان وكان النبي ﷺ يصوم شعبان، أو عامة شعبان؟
لماذا لا نصوم المحرم وهو أفضل الصوم بعد رمضان؟، لماذا لا نصوم الإثنين والخميس، والأيام البيض؟ هذا يحتاج إلى مجاهدة، وذلك يصادم أهواء النفس، فالنفوس أيها الأحبة رُكب فيها أشياء وأشياء، تجد في النفس: النفس الأمارة بالسوء، وتجد ما يلقيه الشيطان ويزينه من الشهوات، وهذه الشهوات حُببت إلى النفوس، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14].
ثم تجد الإغراء في الخارج، وكثرة القعود والكسل عن معالي الأمور، والناس يحاكي بعضهم بعضاً، يتأثرون ببعض، فيرى كل الذين حوله، أو البيئة، أو كل زملائه، أو نحو ذلك، قاعدين عن هذا المطلوب، فيقعد مثلهم، يقول: أنا من بني جنسي، وأنا لا أخرج عن أقراني وزملائي وبيئتي، ولذلك تجد القليل هو الذي يتميز، ويحصل له الارتفاع بالأعمال الطيبة الصالحة، أو بالعلوم والمعارف النافعة، أو حتى في التجارات، وفي الأمور الدنيوية.
والكثير من الناس يلازمون حداً محدوداً، لا يتميزون بعده؛ لأنه كلما أردت أن تصل إلى القمة، كلما كان احتياجك إلى جهد أكثر، وتعب وصبر، فمن الناس من يبقى في الحُفَر.
ومَن يتهيبْ صعودَ الجبالِ | يعشْ أبدَ الدهرِ بين الحُفَر |
ومن الناس من يرقى إلى قريب من السفح، ومن الناس من يتوسط في الجبل، ومن الناس من يصل إلى قريب من القمة، ومنهم من يصل إلى القمة، فكلما كان نفَسُنا أطول، وصبرُنا وتحمُّلنا أكثر كلما كان ذلك أدعى إلى التحصيل والارتفاع، وبهذا نحصّل المراتب العالية عند الله في الجنة.
فالمسألة تحتاج إلى هذا البذل والمصابرة والاجتهاد، وإلا لو كانت الأمور التي هي من قبيل المعالي تنال براحة الجسم لاستوى فيها الناس، وبلغوا الغاية في ذلك جميعاً، ولكن لما كان ذلك يصادم هوى النفس ومطلوبها صار لا يرقى إلا الواحد بعد الواحد، والباقون يتخبطون في هذا المنحدر؛ لأنهم لا يجاهدون أنفسهم، وإلا فما الذي يجعل الإنسان يستيقظ من الصباح الباكر، يذهب إلى عمله، أو تجارته، أو نحو ذلك؟ المجاهدة.
ما الذي يجعل الإنسان يذهب من الصباح الباكر كل يوم إلى دراسته سنين متطاولة؟ المجاهدة، وإلا فلو بقى الإنسان مع نفسه لنام، ولم يذهب، ولم يدرس، ولم يتعلم.
الولد الصغير توقظه لمدرسته يبكي، فترق له، تتمنى أن ينام ويستريح، لكنك إذا أعملت العقل، وأبعدت النظر فإن رحمته تقتضي أن يذهب ولو كان كارهاً، فإن عاقبة ذلك محمودة.
وهكذا أيها الأحبة فيما نكسل عنه، وتجذبنا الجواذب الأرضية عنه، العاقبة المحمودة، وإعمال النظر الصحيح أن نقدم عليه، وأن نفعله، ولو كان فيه مشقة.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.