الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
وهذا الحديث الذي يرويه النبي ﷺ عن ربه يقول: قال الله تعالى هو نوع من الأحاديث معروف يقال لها: الأحاديث القدسية، فهي منسوبة إلى الله -تبارك وتعالى- لفظاً ومعنى، إلا أن الفرق بينها وبين القرآن أن القرآن معجز، ويراد به التحدي، ونحن متعبدون بتلاوته، وقد تكفل الله بحفظه، ولا يجوز روايته بالمعنى، وأما الأحاديث القدسية فهي وإن كانت ألفاظها من الله وكذا معانيها إلا أنها ليست بمعجزة، ولا يراد بها التحدي، ويجوز روايتها بالمعنى، ولم نُتعبد بتلاوتها، بمعنى ليس كل حرف منها بحسنة كما جاء في الحديث لا أقول الم حرف، الأحاديث القدسية ليست كذلك.
فهذا من الأحاديث القدسية المنسوبة لله -تبارك وتعالى، قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، أصل العداوة: أن يكون أحد المتعاديين -يعني هي تكون بين اثنين فأكثر، بين طرفين- في عدوة والآخر في عدوة، كما يقال في المحادّة: يكون كأن هذا في حد والآخر في حد، هذا أصل معناها.
المعاداة: أن يكون مبغضاً له، أن يؤذيه، أن يقع في عرضه، أن يشمت به، أن يحاربه بأي لون من المحاربة، هذا كله داخل في المعاداة.
من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وأولياء الله شرْحُهم أو المراد بهم لا يحتاج إلى تكلف أو إلى كلام كثير، وإنما بينه الله -تبارك وتعالى- بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، من هم؟ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:63]، فعلى قدر ما للعبد من الإيمان والتقوى يكون نصيبه من ولاية الله -تبارك وتعالى، فكلما كان العبد أكثر تحقيقاً للإيمان، وأكثر تقى كلما كانت ولايته لله أعظم، فإنْ نقص نُقص من ولايته بحسب ذلك.
فقد آذنته بالحرب أي: أعلمته بالحرب، فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء [الأنبياء:109]، أي: أعلمتكم على سواء، فالإيذان هنا بمعنى الإعلام، و"قد" تدل على التحقيق، وهذا يدل على أن محبة أولياء الله وهم أهل الإيمان والتقوى مطلوبة، وأن الذين يعادونهم ويبغضونهم إنما يجنون على أنفسهم، ويتسببون بمعاداة الله لهم، وإعلانه الحرب عليهم، ومن أعلن الله -تبارك وتعالى- الحرب عليه فلا تسأل عن حاله، وعن كثرة عثراته، وعن كثرة فشله، ونكوله عن كل مطلوب من المطالب العالية، ويكفيه شيء واحد: وهو أن يكون شغله ودأبه في لسانه، وحاله، وبذله، ونفقاته، وخطواته، وسمعه، وما إلى ذلك فيما يباعده من الله ويوقعه في سخطه، فيشتري بذلك منزلاً في النار، يشغله بما يضره فيكون سعيه وكده في تحصيل الدركات في نار جهنم، وأي خذلان للعبد أعظم من هذا؟
الإنسان بحاجة إلى ألطاف الله، وتوفيقه، وتسديده، وهداياته، ورحمته، فإذا خذله الله يصير إنفاقه -بدلاً من أن يحصّل به الحسنات- فيما يسخط الله ، كلامه، كتابته، مقالاته، شغله، وبذله وإنفاق الملايين، ينشئ قنوات فاسدة، يكون مُخرجاً فاسداً، يكون ذكاؤه وكل تفكيره وما إلى ذلك فيما يضره.
هذا خذلان عظيم جداً لا يشعر به الإنسان، وقد مثلت لكم في بعض المناسبات لحال المخذولين بمثال القط الذي يلعق المِبْرد عند الجزار، فالمبرد فيه بقايا لحم ودم من الذبيحة، فيأتي القط ويلعقه ويستلذه، ثم ما يلبث أن يذهب هذا الدم واللحم الذي على المبرد، فيتشقق لسان هذا القط، ويسيل على المبرد، فما يزال يلعقه وهو يظن أنه من بقايا اللحم السابق حتى يسقط بجانبه، هكذا الإنسان حينما يكون غافلاً عما هو بصدده، وعما ينفعه، وعما ينجيه ويقربه إلى الله -جل جلاله.
قوله: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وهذه قضية مهمة جداً، نحتاج إلى التبصر بها، اليوم تجد كثيراً من الناس يسألون هل في الحلي المستعمل زكاة، أو ما فيه زكاة؟
ويجادلون -وهم قد لا يفقهون النصوص أصلاً- لماذا يكون فيها زكاة؟ نحن نلبسها، نحن نستعملها.
أنتم على طول السنة لا تتصدقون ولا بريال واحد، كم زكاة هذا الحلي الذي عندكم؟ أحياناً لو سألتهم ما يصل إلى خمسمائة ريال، طول السنة بكم تتصدق؟ ما تتصدق؟!
لربما بالوقت نفسه في رمضان يسألك ويجادلك في زكاة الحلي، وفي الوقت نفسه يتصدق بأضعاف هذا من باب الصدقات، وتفطير الصائم.
الزكاة أثقل في الميزان من الصدقة، وهذه القضية يأبى كثير من الناس أن يفهمها، وإن فهمها يأبى أن يعقلها، وإن عقلها يأبى أن ينقاد لها.
مثل ما يقال تماماً في صلاة النساء في المساجد، تقول لها: صلاتك في الفندق أفضل من مائة ألف صلاة، أفضل من صلاتك عند الحجر الأسود في الكعبة، التراويح وغير التراويح، وتفهِّمها وتأتي لها بالأدلة كلها، ثم إذا فهمتْ هذا كله رجعت بكل برود قالت: لماذا أتينا هنا إذاً؟
ثم تعيد الأدلة نفسها، وتفهمهما، وتشرح لها أنه ما في داعٍ لمزاحمة الرجال في صلاة الجمعة عند أبواب الحرم، والله كفاكم، وأحياناً مسافة بعيدة تمشيها، والمرأة فتنة، وإذا خرجت استشرفها الشيطان، وتفهمها، وتشرح لها أن صلاتك هنا أفضل، وتطرح لها الأدلة، ثم تقول: لماذا أتينا هنا؟
الناس كثيراً ما يجادلون، ولربما قصر الإنسان أيضاً في حقوق واجبة، في نفقة الزوجات، في نفقة الأولاد، في نفقات الأجراء والعمال المنظفين الذين عنده –الخدم، ويماطل، ولربما يظل شهوراً ما يعطيهم، ووراءهم أسر فقيرة هالكة، ما عندهم شيء، باعوا أبقارهم حتى يأتوا، وباعوا كل ما وراءهم، ويحاسبهم محاسبة دقيقة، لربما راتب هذا الخادم أربعمائة ريال، أربعمائة ريال ماذا تفعل؟
ويحاسبه محاسبة دقيقة على هذا، وتجده يتصدق بصدقات هائلة، أليس هذا أولى الآن؟
أنا ما أقول: الزكاة، يُنظر هل هو يستحق أو لا؟، لكن الصدقة هذا الفقير المسكين الذي عندك أولى بها، وتعطيه ولو خمسين ريالاً، أو مائة ريال، أو تزيده في رمضان، بدلاً من أربعمائة أو خمسمائة تعطيه ألفاً، صدقة ليس براتب.
ذكرنا في الأمس قول الله -تبارك وتعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:272].
نحن لا نعطي الناس لسواد عيونهم، أو لرجاء مردودهم، نعطيهم لله، وهكذا تجد الإنسان يبحث عن بعيدين، ولربما قد لا يتأكد أنهم فعلاً يستحقون، أو أنهم محتاجون، وحوله أناس فقراء مساكين لربما في بيته ولا ينتبه، وهذا كثيراً ما نغفل عنه.
فالمقصود أن الفرائض أولى من النوافل، قد يجلس إنسان يصلي من الليل، ثم ينام عن صلاة الفجر!، فالفرائض أفضل من النوافل، صوم رمضان أفضل من صوم التطوع، وصلاة الفريضة أفضل من السنن الرواتب، ومن النفل المطلق، وهكذا حج الفريضة أفضل من حج النافلة، وما إلى ذلك.
قوله: وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وهذا يدل دلالة واضحة على أن المزيد من التطوعات في العبادات البدنية، كالصلاة، وقراءة القرآن، والصيام، والحج والعمرة، والعبادات المالية من ألوان الصدقات، والتبرعات سبيل إلى محبة الله ، وتحصيل ولايته.
فإذا أحبه الله ما الذي يحدث له؟ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.
لاحظوا: ذاك قال: فقد آذنته بالحرب فيُخذل، أما هذا فيوفق غاية التوفيق، فيكون شغله فيما يقربه إلى الله ، ترتاض نفسه، وجوارحه فلا يسمع بأذنه إلا ما يرضي الله، ولا يمشي برجله إلى إلا محابّ الله ، ولا يبطش بيده إلا فيما يرضي الله -جل جلاله، ولا ينظر بعينه إلا إلى شيء يحبه ربه ومالكه ومعبوده .
فيكون هذا الإنسان كل حركاته وسكناته فيما يقربه إلى الله والدار الآخرة، وهذا غاية التوفيق، ولهذا قال الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9].
ويقول: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43] صلاة الله على عبده: ذكْره في الملأ الأعلى، وإذا ذكَره في الملأ الأعلى لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فهذا يتضمن الهداية لهؤلاء الناس، يهديهم هداية بعد هداية، وتوفيقاً بعد توفيق، فيكون هذا الإنسان قد شرح الله صدره للخير والعمل الصالح، واطمأنت نفسه بالإيمان، فارتاضت جميعُ أحواله وجوارحه، وارتاض قلبُه، وصار حبه وبغضه لله وفي الله، وهكذا يرضى عن أقدار الله ، وما إلى ذلك.
قال: وإنْ سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنَّه هذا في المرغوبات، إن سأل -دعا ربه، طلب شيئاً من حوائج الدنيا أو الآخرة- أعطيته، يكون مستجاب الدعوة، ولئن استعاذني لأعيذنه، أكده بالقسم والنون الثقيلة.
يعني: الاستعاذة تكون لدفع المكروه، لدفع الأمر المخوف، يلوذ بالله ويلتجئ إليه مما يحاذر، فالله يعيذه من شر الأشرار وكيد الفجار، ومن أذى الشياطين من الإنس والجن، والأوجاع والأمراض، والأوصاب، والمصائب التي تحل بالخلق، فإذا استعاذ بالله أعاذه.
والذي يعيذه هو من بيده مقاليد السماوات والأرض، الإنسان لو قال له ملك أو أحد من الناس العظماء: ما يكون لك حاجة إلا كنت لك، وإذا أحد ضايقك أو أزعجك، أو كذا، فما عليك إلا أن ترفع السماعة يشعر أنه في حفظ ورعاية، وقد يموت ذلك المخلوق قبله، وقد يموت وهو ما نزل السماعة، أما حفظ الله فهو الحفظ الحقيقي، ويحصل هذا الحفظ بطاعة الله .
والحديث فيه بقية لم يذكرها هنا، ذكرها في موضع آخر، يقول: وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته[2].
يعني: قبض المؤمن، والمقصود هنا أن الشيء يكون مطلوباً من وجه -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغير مطلوب من وجه آخر، فقبض نفس المؤمن أمر لابد منه، فالموت أمر لابد منه، وما بعد الموت من الاجتياز على الصراط، فكل ذلك مما يحصل في الآخرة من تنعيم أهل الإيمان، وتعذيب أهل الشقاء أمر قضاه الله ، يقول سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [لأنبياء:34].
ويقول: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، فهو أمر حتمٌ، فالله قد اقتضت حكمته أن يموت الناس، ولما كان المؤمن يكره الموت بطبيعته، والله يكره مساءة هذا الولي الذي وصل إلى هذه المرتبة، أي أنه صار الموت مطلوباً من جهة أنه حتمٌ مقضي يترتب بعده كل نعيم في الآخرة، وكذلك أيضاً هو مكروه للمؤمن فحصل التردد بهذا الاعتبار.
انظر إلى منزلة المؤمن عند الله ، ولذلك لا نستغرب لما مات سعد بن معاذ اهتز لموته عرش الرحمن، مع أنه بقي في مدة إسلامه نحو ست سنوات فقط، ومع ذلك اهتز لموته عرش الرحمن.
ونحن ماذا قدمنا خلال ست سنوات للإسلام، ولنصرة الله -تبارك وتعالى- وهو غنيٌّ عنا؟، فالمقصود أن المؤمن يحرص على الطاعات، وذلك كفيل بإذن الله أن ترتاض نفسه وتعتاد على العمل الصالح، ومعلوم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ، وكذلك كان عمل النبي ﷺ دِيمةً، يداوم عليه، إذا عمل شيئاً أثبته.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع (8/ 105)، رقم: (6502).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع (8/ 105)، رقم: (6502).