الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أبو فراس ربيعة بن كعب الأسلمي، كان يخدم النبي ﷺ، وهو شديد الشغف به، حتى إنه كان يبيت على باب رسول الله ﷺ تحرياً لحاجته، لشدة حرصه على خدمة النبي ﷺ يبيت على بابه.
وكان من أهل الصُّفة، وهم فقراء المهاجرين، يأتون من القبائل المختلفة من غفار، ومن قريش، وجهينة، وغير ذلك إلى المدينة يهاجرون بدينهم، فليس لهم محل ولا مأوى، ولربما لم يكن للواحد منهم إلا إزار دون الرداء، ليس عندهم شيء من الدنيا، ينتظرون متى ما ندبوا إلى الجهاد بادروا إلى ذك، فكان يأوي إلى هذه الصفة، وهو معدود من أهلها.
وهو أحد الذين كانوا يخدمونه ﷺ، يخدمه في الحضر والسفر، ونحن نعرف أن بعض الصحابة كابن مسعود كان لسواكه ﷺ ونعله وطهوره، يعني: هو مختص بهذه الأشياء، السواك، والنعل، والماء الذي يتوضأ به النبي ﷺ، ومنهم من كان يخدمه في كل ما يحتاج إليه.
وأبو فراس لم يكن له من الرواية إلا القليل جداً، بعضهم ذكر أربعة أحاديث فقط، وبعضهم ذكره وعدّه فيمن روى عن رسول الله ﷺ اثني عشر حديثاً.
فالمقصود أنه مقل من الرواية عن النبي ﷺ، وكانت وفاته بعد الحَرَّة، سنة ثلاث وستين.
يقول: كنت أبيت مع رسول الله ﷺ فآتيه بوَضوئه، يعني: بالماء الذي يتوضأ به، وقوله أنه كان يبيت مع النبي ﷺ يعني: يبيت على بابه ﷺ.
يقول: فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني اطلب، والنبي ﷺ كان من أكرم الناس خلقاً، فهذا الرجل يخدمه، فأراد النبي ﷺ أن يحسن إليه.
يقول: فقلت: "أسألك مرافقتك في الجنة"، هذا الرجل بعيد الهمة، عالي الهمة، بخلاف ذلك الرجل الذي أمره النبي ﷺ أن يسأل، فطلب شيئاً من حطام الدنيا، بعيراً، أو نحو ذلك.
وأخبرنا النبي ﷺ عن عجوز بني إسرائيل وذلك أن يوسف ﷺ مات بأرض مصر وكان قد أوصى أن ينقل إلى الأرض المقدسة، فلما كان زمان موسى ﷺ وهي مدة بعيدة بين يوسف وبين موسى ﷺ، وأجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض، فسأل عن موضع قبر يوسف ﷺ، فما وجدوا خبره إلا عند امرأة عجوز من بني إسرائيل، فأبت أن تخبر موسى ﷺ إلا أن يدعو الله أن تكون رفيقته في الجنة، ثم دلتهم بعد ذلك على القبر، وذلك في مكان قد اجتمع فيه الماء فنزحوه فوجدوا قبره[1].
فهذه همة عالية، يعني: لم يقل هذا الرجل: أريد بعيراً، أو أريد بيتاً، أو أريد مالا، دنانير أو نحو هذا، وإنما قال: أريد مرافقتك في الجنة، وهذا هو الصحيح.
والنبي ﷺ يقول: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أعلى الجنة، وسقفها عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة[2].
فلا تدنو همة الإنسان حتى في الدعاء، وفضل الله واسع، ولا يثقله شيء، ولذلك ما يفعله البعض لاسيما العجائز تقول: اللهم أدخلني الجنة ولو في صاير الجنة، وصاير الباب في لهجتها تقصد: خلف الباب، ولو خلف باب الجنة، فالله أعظم، ولا يتعاظمه شيء، فيسأل الإنسان ربه من فضله الواسع.
يقول: فقال: أوَ غير ذلك؟، يعني: ما تطلب شيئاً آخر غير هذا المطلب؟ يقول: "قلت: هو ذاك"، يعني: ليس لي مطلوب آخر.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود رواه مسلم، أرشده النبي ﷺ إلى سبب يقوي تحقيق هذا المطلوب، وهو كثرة السجود، وكثرة السجود تعني: كثرة الصلاة؛ لأن السجود إما أن يكون في صلاة، وإما أن يكون خارج الصلاة، مثل سجود التلاوة، ومثل سجود الشكر، ولكن هذا قليل؛ لأنه إنما يوجد مع وجود سببه، وأما قصد الكثرة في هذا فهو أن يكثر الإنسان من الصلاة.
والعلماء -رحمهم الله- كما هو معروف مختلفون -وهذا نحتاج إليه في مثل هذه الأيام- أيهما أفضل طول القيام، أو كثرة السجود؟
فمن أخذ بهذا الحديث قال: كثرة السجود، فهذا ماذا يعني؟ قالوا: يعني أننا نصلي ركعات كثيرة في اليوم والليلة، نقرأ قراءة يسيرة في القيام، ونصلي في الليل ثلاثين ركعة، أو عشرين ركعة، أو خمسين ركعة، أو مائة ركعة في اليوم والليلة، وتكون القراءة قصيرة، لكن السجود كثير، فهذا له مزية كما دل عليه هذا الحديث، وكذلك أيضاً هو أنشط للمصلي، القيام والركوع يطرد عنه النوم.
ولكن كثرة طول القيام فيه معنى آخر، وهو أن النبي ﷺ قال: أفضل الصلاة طول القنوت[3].
يعني: طول القيام، كذلك هو أدعى للتدبر، كثرة القراءة، وكانت قراءة النبي ﷺ كما سمعنا قبلُ طويلة، يقرأ في ركعةٍ البقرة والنساء وآل عمران، فهذا له مزية، وهذا له مزية.
ولذلك توسط بعض أهل العلم فقال: لكلٍّ فضيلة، فإذا أمكن أن يفعل المكلف ما كان يعمله النبي ﷺ فهو الأكمل، فكان يصلي إحدى عشرة ركعة، لكنها طويلة، ومن صلى إحدى عشرة ركعة وهو يقرأ نصف وجه في الركعة الواحدة -اقتصر على إحدى عشرة ركعة- لا يكون قد تابع النبي ﷺ في الصفة، بل يكون قد تابعه في العدد فقط؛ لأن صلاة النبي ﷺ بذلك تطول، فنكون تابعناه في العدد دون الصفة.
ولذلك ترون صلاتنا -نسأل الله أن يغفر لنا ضعفنا، وأن يتقبل منا- صلاة العشاء، والتراويح، والكلمة كلهن جميعاً بالكثير ساعة، هذا المسجد الذي يتأخر قليلاً، وإلا فهناك مساجد ونحن في التسليمة الثانية أو الثالثة نسمعهم يقرأون سورة سبح اسم ربك الأعلى.
وكثير من المساجد لا زالوا إلى الليلة الخامسة عشرة يقرءون في سورة البقرة ولم ينتهوا منها، هؤلاء يحتاجون سنة كاملة تراويح حتى ينهوا القرآن.
فإذا استطاع الإنسان أن يكثر من السجود مع طول القيام فهذا أمر حسن.
وهنا حديث آخر في المعنى نفسه، وهو:
ثوبان قيل: أصله من اليمن، وقيل: بين مكة واليمن في أرض يقال لها: السراة، وبعضهم يقول غير ذلك، فالمقصود أنه سُبي وجيء به، يقال: مر به النبي ﷺ في السبي فاشتراه فأعتقه.
وكان مولى لرسول الله ﷺ بمعنى أن النبي ﷺ أعتقه، وثوبان كان يخدم النبي ﷺ أيضاً، وكان قد انتقل إلى الشام وسكن حمص، وله بها دار ضيافة آنذاك، وتوفي بها سنة أربع وخمسين للهجرة، في زمن معاوية ، يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول: عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة...[1].
والدرجة لا يقادر قدرها، لا نستطيع أن ندرك هذه الدرجة إلى أي حد، أما درجات الجنة فقد أخبر النبي ﷺ عن تفاوت أهل الجنة وما بين الدرجات بأمر لا يخطر على بال، يتراءون أهلَ الدرجات العلا كما نتراءى الكوكب الغابر في الأفق.
يقول: وحَطَّ عنك بها خطيئة، السجدة درجة، وتوضع عنك بها خطيئة، فعلى الإنسان أن يكثر من السجود ليُرفع درجات، وتُحط عنه الخطايا.
وقد استنبط بعضهم من قوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19] أن السجود يدل على مزيد من القرب، فكلما ازداد سجوداً كلما ازداد قرباً من الله -تبارك وتعالى.
فالحاصل أن هذا الحديث يدل أيضاً على أن كثرة السجود سبب لرفعة درجات العبد.
هذا الحديث له سبب وهو أن معدان بن طلحة سأل ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال: أخبرني عن عمل يدخلني الجنة، فسكت عنه، ثم سأله ثانية، ثم سأل ثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله ﷺ وذكر الحديث.
وكذلك جاء عن أبي الدرداء أنه سئل فأجاب بمثل هذا، فمن أراد الارتفاع بمنازله في الآخرة فعليه أن يكثر من السجود، من أراد حط الخطايا فعليه بكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، وكثرة السجود والاستغفار.
أسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه (1/ 353)، رقم: (488).