- مقدمة باب كثرة طرق الخير
- قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
- قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ}
- قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ...}
- قوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى: باب في بيان كثرة طرق الخير، وهذا الباب في غاية المناسبة في هذه الأيام التي نعيشها، وذلك أن الكثيرين حينما يفرغون من صيام شهر رمضان تفتر عزائمهم عن كثير من أعمال البر والخير التي كانوا يتعاطونها، وكأن العبادة مختصة بشهر الصوم، وما عداه من الشهور للبطالة، فتتعطل جوارحهم من عبادة الله والتقرب إليه، ويُرى أثر ذلك عياناً في المساجد، حيث يقل إقبال الناس عليها بعد أن كانت محتشدة.
فالله يُعبَد في كل وقت وفي كل حين، وأعمال الخير كثيرة، فإذا كان رمضان يختص بالصيام والقيام فإن ذلك لا ينقطع بعده، فينبغي للإنسان أن يجعل لنفسه حظًّا في غير رمضان من الصيام والقيام.
الله يُعبَد في كل وقت وفي كل حين، وأعمال الخير كثيرة، فإذا كان رمضان يختص بالصيام والقيام فإن ذلك لا ينقطع بعده، فينبغي للإنسان أن يجعل لنفسه حظًّا في غير رمضان من الصيام والقيام.
باب في كثرة طرق الخير، إذا كان الإنسان لربما تفتر عزيمته عن بعض الأعمال، ولم يُفتح عليه فيها فإنه يجد مندوحة في أعمال صالحة كثيرة يمكن أن يعملها، وأن يقبل على الله وأن يتزود لآخرته منها، فالجنة لها سبعة أبواب، باب للصائمين، وباب للصدقة، وباب للصلاة، وما إلى ذلك، فالإنسان يستطيع أن يصل إلى الله -تبارك وتعالى- إذا فعل الواجبات وترك المحرمات، يستطيع أن يرتقي إلى أعلى الدرجات بباب الصدقة أو بباب بر الوالدين، وصلة الأرحام، أو بباب الذكر، أو بباب صلاة النوافل، وما إلى ذلك، وهذا أمر واسع جداً، لا يستطيع المكلف أن يحيط به من جميع جوانبه، فهذه شريعة واسعة كما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- فهي بمنزلة الشرائع المتعددة، فكل أحد يجد بغيته، فإذا كان لم يفتح عليه في باب فإنه قد يفتح عليه في باب آخر.
والله يقول: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، و"خير" نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط للعموم، أيْ: خير من صدقة أو صيام أو صلاة أو ذكر أو إماطة للأذى عن الطريق أو كف للأذى، أن يكف الإنسان أذاه عن الناس، أو رحمة للمساكين والفقراء والمحاويج وما أشبه ذلك، فالله به عليم، وقوله: فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ، "إنّ" تدل على التوكيد، هذا وعد مبطن بالجزاء، وذلك أن الإنسان إذا علم أن الله يعلم عمله فإن ذلك يدفعه إلى الاستزادة والتشمير والجد؛ لأن الله سيجازيه عليه، كما تقول لغيرك ممن تعلم أنه يعمل ويجد ممن تحت يدك من الموظفين، أو نحو ذلك تقول: أنا أعلم بالأعمال التي تقوم بها، أنا أعلم بالجهود التي تبذلها، وما أشبه ذلك، فهذا وعد منك بالإحسان إليه، ومراعاة ذلك وتقدير هذا الجهد والمكافئة عليه، وما أشبه ذلك.
وقال تعالى: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ [البقرة:197] كالآية السابقة، فالخير هنا يشمل جميع أنواع المعروف وطاعة الله ، ولا يختص بباب من الأبواب، وسُبقت هذه النكرة بـ"مِن" فنقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، فذلك نص صريح فيه، فلا يخرج عنه شيء من أعمال الخير لا قليل ولا كثير، ولهذا ذكر بعده الآية الثالثة.
فالله يقول: فالله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولو كان ذلك قليلاً، ولذلك بعض الناس يسأل عن أشياء يسيرة جداً من المعروف، فالجواب عنها دائماً: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ليس هناك دليل معين على بعض الأعمال الصالحة القليلة، ولكن هذه الآية الفاذّة الجامعة لا يخرج منها شيء من أعمال البر والتقوى، إذا نبهت الإنسان على شيء من التقصير، أو علّمت جاهلاً، أو ذكّرت غافلاً، أو مشيت مع إنسان لإكرامه، أو نحو ذلك، أو بششت في وجهه ونحو هذا، تقول: ما الدليل على هذه التفاصيل جميعاً؟، منها ما ورد فيه دليل خاص، ومنها ما لم يرد فيه دليل، لكن: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وذكر أيضاً آية رابعة وهي تدل على أن ذلك جميعاً يرجع إلى الإنسان، لا يرجع إلى غيره، قال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [فصلت: 46]، قوله: "صالحاً" للعموم، فيدخل فيها كل أنواع الأعمال الصالحة القلبية، والأعمال الصالحة بالجوارح، والأعمال الصالحة أيضاً باللسان من الأقوال، ويدخل فيها أيضاً الأعمال الصالحة بالتروك، ما يتركه الإنسان إذا كان ذلك لله، إنْ تركه لله، حينما تتهيأ أسباب المعصية وتتوافر دواعيها في النفس، ويكون الطريق إليها سالكاً ويتركها لله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله[1]، لاحظوا بلَغَ فيها، فصار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ولهذا كان الترك من الأعمال، من جملتها، كما قال بعض الصحابة حينما كانوا يبنون المسجد وأحدهم يتفرج والنبي ﷺ يحمل الحجارة مع أصحابه، قال:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنّبِيُّ يَعْمَلُ | لَذَاكَ مِنّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ [2] |
فسماه عملاً.
والله قال: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:63]، وقال: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، أي: الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون، فسماه فعلاً أو سماه عملاً؛ لأن الترك يدخل في أقسام العمل.
وقوله: مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ، فقوله: فَلِنَفْسِهِ هذا فيه دلالة على أن الإنسان إنما يقدم ويبذل ويجد ويجتهد لنفع نفسه، فأنت حينما تعين هذا الإنسان الضعيف أو تتصدق على هذا الإنسان المحتاج، أو حينما تعلّم هذا الإنسان الجاهل أو نحو ذلك أنت تعمل لنفسك، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم -رحمهما الله-: إن كل عامل يعمل فإنما يعمل على وجه الافتقار، وطلب المردود والعائدة إما في العاجل، وإما في الآجل، فالإنسان يعمل في الدنيا من أجل أن يحصِّل مكسبًا، يخدم هذا من أجل أن يحصل عنده شيئاً مالاً أو حظوة أو نحو ذلك، ومن الناس من يعمل لوجه الله ، يريد الأجر والثواب، فكل عمل مقصود يصدر من الإنسان فهو بهذا الاعتبار ينتظر الرد، أما الله فهو الغني الكامل، ولذلك فإن إحسانه -تبارك وتعالى- لخلقه لا ينتظر منهم في مقابل ذلك أن يحسنوا إليه، أو أن يتفضلوا عليه، وإذا أمرهم بالعبادة فهو ليس محتاجاً إلى عبادتهم كما سبق في الحديث: إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني[1].
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، (4/ 1994)، رقم (2577).