الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكنا نتحدث عن خبر أولئك النفر الثلاثة:
وهو مخرج في الصحيحين، بمعنى أنه من رغب عن طريقته ﷺ وهديه الذي شرعه فإنه مجافٍ لحاله ﷺ، وهديه الذي هو أقوم الهدي، فهو على طريقة أخرى، وبحسب ما تكون مفارقته بحسب ما يكون حاله، ويُخشى على الإنسان إن كان ميله عن هدي النبي ﷺ وطريقته رغبة عنها، فإن ذلك قد يطبع على قبله ويختم عليه فيهلك صاحبه، فالواجب على الإنسان أن يرضى بما كان عليه رسول الله ﷺ، وهو المنهج الصحيح في الاعتدال والاستقامة في الأحوال كلها.
وفي العلاقات مع الناس هديه ﷺ أكمل الهدي، العلاقات مع الكفار بجميع أنواعهم، وهديه ﷺ أكمل الهدي في التعبد لله -تبارك وتعالى، في صلاته وصيامه وذكره وقراءته وما أشبه ذلك.
وكذلك هديه ﷺ في الجهاد، وفي كل عمل يقوم به ﷺ في السلم والحرب، فمن رغب عن طريقته ﷺ واتهمها بأنها معوجة، أو بأنها لا تصلح لهذا الزمان فهو زائغ ضال، يجب عليه أن يتوب إلى الله -تبارك وتعالى- وإلا مات على خطر عظيم، قد يموت على غير الإسلام
فمن رغب عن طريقته ﷺ واتهمها بأنها معوجة، أو بأنها لا تصلح لهذا الزمان فهو زائغ ضال.
كان من هديه ﷺ لتأكيد الكلام وبيانه وتبليغه -أيضاً- إعادة الكلام ثلاثاً، وكان إذا سلّم سلم ثلاثاً ﷺ، وهنا قال: هلك المتنطعون، ثلاثاً.
والمقصود بالتنطع: التعمق والتكلف والتشدد، والله علم نبيه ﷺ كيف يقول، وكيف يكون هديه، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، فالتكلف في الأمور كلها مذموم، وإنما إذا تكلم الإنسان بالكلام فإنه يرسل ذلك على سجيته، بمعنى أنه لا يجعل المعاني تابعة للألفاظ؛ لأن عنايته بالألفاظ على قول بعض أهل العلم أن التنطع المقصود به أن يخرج الكلام من أقصى الحلق بحيث يتكلف ويتشدق بكلامه؛ ليظهر فصاحته للناس، فهذا مذموم، وإنما يتكلم الإنسان بحسب طريقته وسجيته وعادته من غير تكلف، ولا يقتصر ذلك على طريقة التكلم بل التنطع يكون بالتكلم، ويكون بغيره من العمل والحال التي يكون عليها الإنسان.
فالإنسان الذي يحرّم ما أحل الله يكون متنطعاً، والإنسان الذي يلزم نفسه بألوان من العبادات والتكاليف التي لم يوجبها الله عليه بحيث إن ذلك يفضي به إلى مشقة عظيمة غير محتملة هذا يكون من قبيل التنطع، مثل الذي يقول: أنا لا أريد أن أتزوج، ولا أريد أن أعمل للدنيا، ولا أريد أن أكتسب، وإنما أريد أن أجلس في المسجد فقط من أجل أن أصلي وأصوم وأعتكف، وما أشبه ذلك، هذا على خلاف هدي النبي ﷺ وهدي الأنبياء، فالله أخبر أن الأنبياء يأكلون ويتزوجون ويمشون في الأسواق، وما إلى ذلك مما يفعله الناس، ولو شاء الله لجعلهم جسداً لا يأكلون الطعام، ولو شاء الله -تبارك وتعالى- لأنزل إليهم من السماء ما يغنيهم عن التكسب، بل كانوا يستغنون عن الناس كل الاستغناء، وما كانوا يتكففون الناس، أو أنهم يحتاجون إليهم ويفتقرون إليهم، بل كانوا أعز الناس نفساً.
فالمؤمن ينبغي عليه أن يقوم بطاعة الله ، يقوم بالواجبات ويتحمل من النوافل ما يطيق، ويكون جده واجتهاده وتشميره بحسب حاله، بحيث ذلك لا يفضي به إلى ترك واجب، كالذي يصوم كثيراً التطوع مثلاً ولكنه يترك عمله، إذا صام لم يذهب إلى العمل، أو الذي يقوم الليل ولكنه يضيع حقوق زوجته وأولاده، أو الذي يعتكف في المسجد، ويضيع تربية أولاده وما يحتاجه أهله فيضطرون إلى الناس، وهكذا في كل الأمور.
فينبغي للإنسان أن يقوم بحق الله ، وأن يقوم بالحقوق الواجبة للخلق، وأن يكون محسناً إليهم مخالطاً لهم، والذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.
وكان النبي ﷺ يستجيب لدعوة أصحابه ويباسطهم ويجلس معهم، ويأكل معهم وهو في غاية التواضع ، فأما أن يحمل الإنسان نفسه على طريقة يقاطع فيها الخلق ويقاطع فيها ألوان المباحات، ويحمل نفسه على جد واجتهاد يفضي به إلى كلفة في غير طوقه وإمكانه فهذا لا شك أنه مذموم، وأن ذلك لا يجزئ، لكن أين هذا في مثل هذه الأيام؟.
فكما ذكرنا سابقاً نحن نعاني في مثل هذا الوقت ليس من هذه النوعية -وهي المتنطعة في كثرة المستحبات والكماليات، وإنما نعاني من التقصير وكثرة التفريط، وتضييع حقوق الله وحقوق المخلوقين، فتجد الإنسان يضيع حق الزوجة، وحق الأولاد، وحق الجيران، وحق الأقارب، وحق الوالدين، ويضيع حق الله فينام عن الصلاة، وأما الدنيا فلا تسأل عنها، وعن التكالب على تحصيلها، والحرص عليها وما أشبه ذلك.
فأقول: ينبغي للعبد أن تكون له سيرة مرضية، سيرة صحيحة، يلتزم بالواجبات، ويفعل ما يستطيعه من النوافل، وأما الدنيا فيأخذ منها بما يغنيه عن الناس فلا يحتاج إليهم، لكن من غير تهافت عليها، ومن غير استكثار منها.
ينبغي للعبد أن تكون له سيرة مرضية، سيرة صحيحة، يلتزم بالواجبات، ويفعل ما يستطيعه من النوافل، وأما الدنيا فيأخذ منها بما يغنيه عن الناس إلى حد يفضي به إلى شغل القلب، والانقطاع عن طاعة الله ، وقد قال أبو الدرداء : "أعوذ بالله من تفرقة القلب، قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في كل واد مال"[2].
فهو مشغول بهذه الأموال الموزعة في بلاد كثيرة، فهو لا يفتأ ولا يفتر من متابعتها، ومن حساباتها وما إلى ذلك، فيشغله هذا كثيراً، ويشتت قلبه وفكره.
فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم اليقين والهدي المستقيم، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، (4/ 2055)، رقم: (2670).
- الزهد لنعيم بن حماد (1/ 224) رقم: (635).