الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الرابع في باب الاقتصاد في الطاعة، وهو:
يعني: أن هذه الشريعة لم يضع الله فيها على هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، وإنما جاءت شريعة سهلة ميسرة، كما قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحـج:78]، والنبي ﷺ يقول: بُعثت بالحنيفية السمحة[2]، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- لم يكلفنا فيها ما لا نطيق، لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 286].
ولذلك فإن هذه الشريعة لا يوجد فيها تكليف واحد يخرج عن طوق المكلفين وقدرتهم، بحيث لا يتمكنون منه، أو أنهم يتمكنون بمشقة باهظة عظيمة، لا يوجد، وإنما جاءت أحكامها سهلة ميسرة يتمكنون من القيام بها، فإن عجزوا عن ذلك فتارة يسقط ذلك عنهم من أصله، وتارة يسقط ذلك إلى بدل، فإذا عجز عن الوضوء لشدة البرد، أو لخوف الضرر؛ لأنه مريض فإنه يتيمم، وإن لم يستطع التيمم وقال له الطبيب: إن التيمم فيه ضرر عليك، فإنه يصلي من غير وضوء، وهو مطالب باستقبال القبلة ما استطاع، وإذا كان على سرير، أو لا يعرف القبلة أصلاً، ولا يوجد من يعرّفه بها فيصلي بحسب ما يغلب على ظنه، فإن لم يغلب على ظنه شيء صلى إلى أي جهة، ولا يعيد، حتى لو كان يعلم أنه على تيمم ثم بعد ذلك وجد الماء في الوقت فإنه لا يعيد، لأنه فعل ما أمره الله به.
بل لو أن الإنسان كان يعبد الله على جهل، وهو معذور كإنسان يعيش في مكان بعيد -بادية مثلا، وما قصر في طلب الحق، لكن هذا الذي بلغه ثم تبين له خلاف ذلك فلا شيء عليه، فلو أن امرأةً مثلاً كانت تظن أن الاستحاضة من قبيل الحيض، فكان إذا جاءها الدم في غير وقته وأطبق عليها الدم فإنها لا تصلي ولا تصوم، ولربما بقيت على هذا الحال أربعين سنة، وهذا يحصل كثيراً، فهل نطالب هذه المرأة بإعادة كل هذه الصلاة أربعين سنة؟.
الجواب: لا، وإنما نقول: إنها معذورة بهذا الجهل، ولا تطالب بإعادة الصلاة، فلو أن أحداً من الناس كان لا يصلي، ثم تاب إلى الله ، وقد بلغ من العمر عتيًّا، فهل نطالبه بقضاء الصلوات؟.
الجواب: لا، أو أن أحدًا من الكفار أسلم، وهو مؤسس لأكبر بنك ربوي في العالم، وعنده المليارات من الربا، هل نقول له: تخلص من هذه الأموال جميعاً؟.
نقول: عفا الله عما سلف، فلك رأس مالك فيما تبقى من أموال عند الآخرين، ولا تأخذ عليها ربا، أما الذي مضى فعفا الله عما سلف، فالشريعة ترغب في التوبة، والإنابة، والدخول في الإسلام، والذي يدخل في الإسلام يسلم على ما أسلف من الأعمال الصالحة في جاهليته وكفره، تحسب له، ولا يضيع من أجره شيء، والذين يتوبون من الذنوب يبدل الله سيئاتهم حسنات.
فإذا نظرت إلى الشريعة في أحكامها العملية، وفي أحكامها الجزائية وجدت أنها رحمة مهداة للعالمين، إن الدين يسر، فهذا مفهوم يسر الشريعة، الكثيرون يفهمون يسر الشريعة أن تأكل الربا ولا تتشدد، وأن تسمع ما يحلو لك، وأن تنظر إلى ما يحلو لك من الحرام، وأن زوجتك ربما تجلس مع الرجال وتختلط معهم وتتبرج، وإذا ذكرت لهم قال الله، قال رسوله، قالوا: لا تضيق على نفسك، بل إذا أراد الإنسان عند هؤلاء أن يسأل، أو أن يستفتي يود معرفة الحكم قالوا: أنت مشدد وموسوس، ومتنطع ومتزمت، صار التزمت في ملازمة الحق واتباع الرسول ﷺ، فالمقصود أن الدين يسر بمعنى أن الإنسان لا يكلف نفسه أموراً ترهقه لم يطالبه الله بها، مثل ماذا؟ مثل إنسان أراد أن يصوم الدهر، نقول له: لا، لو أراد أن يقوم كل الليل، لو أراد هذا الإنسان أن يلتزم طريقة ما في الذكر، أو القراءة بطريقة تشق عليه وتَضِيع لأجلها حقوق من لهم عليه حق نقول له: لا، هذا الإنسان لو أراد أن يتصدق بكل ماله، وليس بمنزلة أبي بكر ولا عمر، جاء متحمسًا وقال: أنا أوصي بكل ثروتي في سبيل الله، نقول له: لا، الثلث والثلث كثير، إن أوصيت بالربع فهو جيد.
ولا يجوز أن توصي بكل المال، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وهكذا في كل أمر من الأمور، فنحتاج أن ندرك هذا المعنى، ما معنى يسر الشريعة؟ ليس معناه التفلت عن أحكامها، والخروج عن حدود الله .
ثم قال: ولن يشاد الدينَ إلا غلبه، وفي بعض الروايات: ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه، وفي بعضها: ولن يشاد الدينُ، "يشاد" مبني للمفعول على أن "الدين" نائب فاعل مرفوع، "يشاد الدينُ إلا غلبه"، يعني أن الدين يغلبه، ولن يستطيع الإنسان أن يحمل نفسه على طريقه ما.
يقول: أنا سأنقطع عن الدنيا، وسأنشغل بقراءة القرآن، سأختم كل يوم ختمة، وسأصوم كل يوم إلا العيد، عيد الفطر، والأضحى، وأيام التشريق، وسوف أقوم كل الليل، نقول: لن تستطيع، وستنقطع، لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، أولائك الذين قد نراهم أحياناً يكونون من هذا الصنف، يحرمون ما أحل الله ، يوجد نوادر قلة في هذا العصر من هذا الصنف، لا عبرة بهم، لربما يحرمون الثلاجة، أو يحرمون السيارة أو يحرم الآلات الحديثة، والمراكب الحديثة، ولربما يحرم الأكل بالملعقة، أو نحو ذلك من الأمور، فيلتزم طريقة شاقة في العبادة، ويسكن في بيت لربما من طين، أو ما أشبه ذلك، ويترك وسائل الترويح الحديثة من تكييف وغير ذلك، يوجد قلة من هؤلاء، ولا عبرة بهم، هؤلاء تجد منهم من يتراجع كثيرا عما كان عليه من التدين -نسأل الله العافية.
ويوجد الآن بعض من يطعنون في الدين، ويتكلمون على شرائع الإسلام ويتبعون الشهوات بجميع أنواعها، كانوا يوماً من الأيام بهذه الطريقة، على ذلك الطرف، وما استطاعوا، وبعضهم كان يناقش ويجادل، فهذا خطأ وانحراف، ويُتوقع لمثل هؤلاء مثل هذه الانتكاسة -نسأل الله العافية، تجد الشاب في أول توبته وصلاحه يقبل إقبالاً شديداً ويشمر في الطاعة، والعبادة، ويريد أن يلتزم طريقة مثالية يصعب عليه تطبيقها للغاية في نفسه، وفي أهله، وفي بيته، وفي أموره، وهذا قد لا يستطيع أن يواصل، لكن يلتزم حدود الله لا يقارف الحرام، ولا يترك الواجب، ويفعل من الطاعة ما يستطيع بما لا يلحقه بضرر أو مشقة عظيمة.
ولهذا قال النبي ﷺ: فسددوا وقاربوا[3]، التسديد بمعنى التوسط، وحينما نتكلم عن التوسط، والوسطية فإنا نقول: إنها قضية نسبية، فالوسط قد يكون في أمرٍ ما ليس هو الوسط في أمر آخر، وكلٌّ يدعي أنه وسط، هذا الإنسان المتشدد يدعي أنه وسط، والإنسان المتفلت يدعي أنه وسط، فالمسألة نسبية، وإنما المعيار: حال النبي ﷺ وحال أصحابه، فلو جاء إنسان صلى معنا صلاة الفجر يوم الجمعة، وسمع الإمام يقرأ بالسجدة والدهر، فربما أول مرة يصلي وخاصة في رمضان -بعض الناس لا يصلون الفجر إلا في رمضان، بعض هؤلاء ينزعج، في مساجد تحصل فيها بعض المشكلات، لماذا أطال الإمام؟ مع أن هذه لا تعتبر إطالة، عادية جداً، فهذا توسط، النبي ﷺ كان يقرأ بهما في الجمعة في صلاة الفجر، هذا توسط، لكن من الناس من يرى أن هذا غاية الإبطاء والتطويل.
إذاً: ماذا تريد أن نقرأ في الفجر؟ قال: اقرأ إذا زلزلت في الركعتين، قرأها النبي ﷺ في سفر، وهذا جيد للغاية أن يفعله الإمام في نظر كثير من الناس.
فالمقصود أن قضية التوسط سددوا وقاربوا، يعني: قاربوا الكمال، لن تبلغوا، لكن سدد وقارب، لن تستطيع أن تحمل نفسك على طريقة عليا في كل شيء، في المعاملة، والأخلاق، والعبادة، وفي كل شيء، لكن التزم الواجبات واترك المحرمات.
لن تستطيع أن تحمل نفسك على طريقة عليا في كل شيء، في المعاملة، والأخلاق، والعبادة، وفي كل شيء، لكن التزم الواجبات واترك المحرمات، هذا هو الأصل الكبير، وما عدا ذلك بلوغ درجات الكمال، وهذا لا يستطاع، لكن سددوا وقاربوا.
وليس معنى هذا أن تفعل المعاصي أحياناً، وتقول: سددوا وقاربوا، لا، وإنما المقصود بهذا أعمال التطوع والتبرعات وأعمال البر في غير الواجبات، سددوا وقاربوا ثم قال لهم مبينًا عاقبة هذه الوصية، أي: إذا سددوا وقاربوا ستكون النهاية هي الفلاح وعدم الخسارة، بل قال: وأبشروا، أبشروا ستبلغون بذلك، ثم قال: واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة، الغدوة: هي الخروج أول النهار، والروحة: آخر النهار، وشيء من الدُّلْجة، والدلجة هي: السير في آخر الليل، رواه البخاري، هذا يمكن أن يكون من باب التصوير، والتقريب في المعنى، مثَّله بحال المسافر الذي يريد أن يقطع مسافة طويلة، كيف يقطعها؟.
فلو قدرنا أن رجلاً أراد أن يذهب من هنا إلى تركيا بالسيارة، كم يحتاج من ساعة؟ يحتاج إلى وقت طويل، ولو أراد أن يمشي بلا توقف لتعب، ولأتعب من معه، وما يلبث أن ينقطع ويفتر، ولا يستطيع المواصلة.
إذاً ما هو الحل؟ المسافر حتى لا يرهق نفسه ويرهق راحلته، وينقطع في سفره ويكون كالمنبت، فإنه يستعين بشيء من الغدوة في أول النهار، وقت برود الهواء، والروحة في آخر النهار، والدلجة في الليل، فيقطع المسافة، ويستريح بين ذلك، فيجد أن هذه المسافة الطويلة قد انقطعت، ولم يشعر بها، الآن لو أردنا أن نمثل في حياتنا اليومية العملية في العبادات، وفي أمورنا العادية، أمور المعاش، فمثلا العبادات، لوقلنا للمرأة: أعيدي صلاة يومين، لأنها كانت مستحاضة ولم تعلم مثلاً، من باب الأحوط، نقول: أعيدي، تجلس وقتاً طويلا وهي تصلي مع السنن والرواتب، فإنها تحتاج إلى وقت طويل، فنقول: إذا تعبتِ استريحي ثم صلي، ثم تصور نحن نصلي خمسة فروض في اليوم والليلة، في السنة ثلاثمائة وستون يوماً، كم نصلي من فرض؟ نصلي ألفًا وثمانمائة فرض، فلو قيل للإنسان: أعد صلاة ألف وثمانمائة فرض لشق عليه ذلك، أو جاءت امرأة وقالت: أنا كنت أصلي في البيت، وما تحريت عن القبلة، وقمت أصلي على التخمين، فتبين أني عكس القبلة، ما الذي يقوله الفقهاء؟ يقولون: هذا تفريط، وهي في البلد، ويجب عليها الإعادة.
تعيد صلاة سنة كاملة، تعيد ألفًا وثمانمائة فرض، ولو قلنا: صلِّي معها النوافل كانت سقطت في مكانها.
لكن نحن نصلي خمسة فروض في اليوم والليلة على مدى سنة، هل نشعر بها؟ أبداً لا نشعر بها، ولو أن إنسانًا فاتته صلاة الظهر، ويريد أن يصلي السنة الراتبة قبلها أربع ركعات، ثم يصلي أربعًا بعدها يقضي لكانت ثقيلة، لكن إذا دخل المسجد وصلى مع الناس فإنه لا يشعر بها، وهكذا، ألف وثمانمائة صلاة في السنة، وسبع عشرة ركعة في اليوم والليلة، الفروض سبع عشرة ركعة، كم تقدر في السنة؟
تقدر بحوالي اثنين وثلاثين ألفًا وأربعمائة ركعة في السنة، تصور لو قيل لك: صلِّ اثنين وثلاثين ألفًا وأربعمائة ركعة، أمر ليس ببسيط، ولو كان الإنسان عمره خمسون سنة وبدأ يصلي وعمره عشر سنوات مثلاً، والآن عمره ستون سنة، كم سيصلى من فرض في خمسين سنة؟ سيكون نحو تسعين ألف فرض، ولو جئنا نعدها بعدد الركعات كم ستكون؟
ستكون أكثر من مليون وستمائة ركعة، في خمسين سنة، فلو قيل له: صلِّ الآن مليونًا وستمائة ركعة لن يستطيع، هذه فقط الصلاة، فكيف بالصيام، وقراءة القرآن، والأذكار التي بعد الصلوات لو عددتها في خمسين سنة؟!.
وقل مثل ذلك الآن لو أتينا للطبيب، وقلنا له: نريدك أن تفحص مائة وعشرين ألفًا، وتكتب لنا تقاريرهم، وملفاتهم، وتتابع حالتهم، سيقول: لا أستطيع هذا شاق جدا، الموت خير من هذا، لكن هو في الواقع يدخل عليه في اليوم عشرة إلى خمسة عشر، وعلى هذا كم سيدخل عليه من المرضى في عشر سنوات، وفي عشرين سنة، وثلاثين سنة حتى يتقاعد؟، يمكن أن يمر عليه هذا العدد بحسب المستشفى الذي يعمل فيه، لكنهم تقطّعوا على الأيام والسنين فما شعر بهم.
كذلك المعلم الذي يصحح حوالي ألف وأربعمائة ورقة، وفي مدرسة مكتظة بالطلاب، ألف وأربعمائة في كل اختبار لو قيل له: أنت تعمل أربعين سنة، كم سيصحح من الأوراق؟ هو لن يشعر بها إذا تجزأت عليه مع السنوات، وقل مثل ذلك في أمور كثيرة جداً، كذلك المشي في السيارة، لو نظرت إلى عداد السيارة يمكن أن تكون مشت مائة وعشرين ألفًا، انظر مائة وعشرين ألفًا هل شعرت بها؟ سيقول: لا، هذه المسافة لو قلنا له: امش الآن مضمارًا قدره مائة وعشرون ألفًا، سيقول: تريدونني أدور على العالم، هذا شيء شاق جداً، لكنه لا يشعر بها، أنا أريد أن أقرب عليكم بالغَدوة والروحة وشيء من الدُّلجة بمعنى أنه لا تعملْ عملاً متواصلاً في العبادة، تقرأ طول الوقت، لا تريد أن تنام، ولا أن تأكل، لن تستطيع، ولكن شيئاً فشيئاً، اجتنب الحرام، وافعل ما تستطيع، مع شيء من المباحات، والترويح المباح، والتسلية، كمداعبة الأطفال، ومداعبة الزوجة، وملاطفة الناس وما أشبه ذلك، شيئاً فشيئاً تبلغ بإذن الله وتصل وهكذا، هذا ما يتعلق بهذا الحديث.
وهنا ذكر رواية أخرى، قالوا: هناك رواية: سددوا وقاربوا واغدوا ورُوحوا وشيء من الدلجة القصد القصد تبلغوا[4]، يعني: التوسط التوسط تبلغوا، هذا ما يتعلق بهذا الحديث، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر (1/ 16)، رقم: (39).
- أخرجه أحمد (36/ 624)، برقم (22291).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر (1/ 16) رقم (39).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، رقم (6463).