الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالحديث الخامس في باب الاقتصاد في الطاعة هو:
دخل النبي ﷺ المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، يعني من سواري المسجد، يؤخذ من هذا جواز تنفل النساء في المسجد، فهذه كانت قد وضعت هذا الحبل تصلي تطوعاً في المسجد، فيجوز للنساء أن يتطوعن في المسجد، وهذا أمر لا إشكال فيه، ولا شك أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، هذا في الفرض، فكيف بالنفل؟.
مع أن المعلوم قطعاً أن صلاة الرجل النافلة في بيته أفضل من صلاته في المسجد، فكيف بالمرأة؟! لكنه يجوز أن يصلي الإنسان رجلاً أو امرأة النافلة في المسجد.
فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب.
وزينب هذه يحتمل أن تكون هي زينب بنت جحش، أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- زوج النبي ﷺ، قد يفهم ذلك من بعض الروايات في غير الصحيحين، كرواية عند أبي داود.
وجاء في بعضها أنها حَمنة أخت زينب بنت جحش، فتحديد هذا المبهم لا يؤثر، ولا يحصل منه فائدة، وإنما العبرة بما بعد ذلك.
فإذا فترت يعني: تعبت من طول القيام، ومن كثرة الصلاة تعلقت به، وهذا يدل على شدة اجتهاد النساء في ذلك الزمان بالعبادة، بحيث إن الواحدة تصل إلى هذا الحد الذي تحتاج معه إلى أن تتعلق بشيء؛ لأنها لا تستطيع القيام بنفسها، لا تحملها أقدامها من طول القيام، فأين هذا من نسائنا في هذه الأيام؟!.
فقال النبي ﷺ: حلوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد متفق عليه.
هذه الأحاديث جميعاً منسجمة حول معنى واحد، وهو أن الإنسان لا يتحمل من العبادة ما يشق عليه مشقة ظاهرة خارجة عن المعتاد، وذكرنا لكم علة هذا، وهي أن الإنسان يقبل على العبادة بنفس منشرحة، وباشتياق إليها، ويكون ذلك أدعى إلى محبتها والمداومة عليها، وقبولها، أما إذا كان الإنسان يحمّل نفسه لوناً من العبادة يشق عليه مشقة عظيمة فإن ذلك يعني أنه سينقطع ولو بعد حين، فيتحمل من الأعمال ما يطيق، قال: فإذا فتر فليرقد.
إذا صلى الإنسان وغالبه النعاس، معنى ذلك: أن الإنسان ينام من الليل ويصلي، وتكون صلاته على قدر ما عنده من النشاط، أما تعذيب النفس وتقليل النوم بحيث إن الإنسان يصلي مع مغالبة النوم فهذا أمر لا يشرع، "فليرقد" فهذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب، وذكر هذه العلة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، ينام بعض الوقت ثم بعد ذلك يجدد نشاطه ويقوى على الطاعة، فإنه إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه، والنعاس معروف هو مقدمة النوم، وهو ما يعتور الإنسان من فتور قبل النوم، وهو حالة طبيعية تعني خُثورةَ النوم، ومبتدأَه، فيكون ذلك بحيث إن الإنسان يسمع كلام الناس لكنه لا يعيه، هذا هو النعاس، ويكون النعاس بالعين، ويكون بالرأس، لكنه إذا ذكر مع السِّنة لربما تكون السنة بالرأس كما يقول بعض العلماء، والنعاس في العين، والواقع أن النعاس في العين وفي الرأس، تثقل العين، ولربما يجد الإنسان شيئاً من الحرارة في الجفن من شدة مغالبته، ثم بعد ذلك يبدأ الإدراك يضعف حتى يرتفع بالكلية ويغيب، وذلك هو النوم، ولهذا قالوا: النوم بالقلب والنعاس في العين.
فإذا كان الإنسان في حال النعاس فمعنى ذلك أنه غير كامل التركيز، والنبي ﷺ نهى عن الصلاة والإنسان بحضرة طعام، وأيضًا وهو يدافعه الأخبثان؛ لشدة الإشغال المقلق الذي يحول بينه وبين الخشوع وبين وعي الصلاة، فلا يعقل صلاته، والإنسان لا يؤجر من صلاته إلا على قدر ما يعقل منها، ولكن الإنسان إذا صلى فإنه تُسقط هذه الصلاة عنه التبعة، ولا يطالب بالقضاء، ولكنه قد لا يؤجر.
نحن إذا صلينا الآن نتفاوت كما قال النبي ﷺ: إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها[2]، وقد يخرج الإنسان من الصلاة ولا يؤجر عليها حسنة واحدة، والسبب أنه لم يعقل منها شيئاً، فكيف إذا كان في حال مغالبة النعاس، فيذهب ليدعو لنفسه فيسب نفسه؟، وقد جاء أحد الأشخاص قبل مدة وهو مذعور يخشى أن يختم له بذلك، يقول: لأنه قد غاب الإدراك فنطق اللسان بكلام في غاية القبح، أفاق أو فطن لنفسه وهو في السجود يدعو في صلاة الليل، يدعو ويقول: لا إله إلا الشيطان، يرددها، فلما فطن لنفسه وإذا هو يقول هذا الكلام، يقول: الآن إذا كان هذا في غياب الإدراك فقد يكون هذا في الخاتمة أن الإنسان يسلب الإيمان، ويردد مثل هذه الكلمات، فكان خائفاً جدًّا، فهو يعلم أنه غير مؤاخذ الآن بهذه الكلمة، لكن يخشى أن يختم له إذا غاب إدراكه عند سكرات الموت أن يردد مثل هذا الكلام.
انظر إلى هذا! يريد أن يوحد الله ويقول مثل هذا الكلام الذي هو في غاية الكفر، وهو يقوم الليل يصلي، فالمقصود أن الإنسان يعمل بما يطيق، هذا هو الشاهد، ولا يحمل نفسه أكثر مما يطيق، وعبادة الله ليست طفرة في يوم أو أسبوع أو شهر، هي العمر بكامله، فإذا حسب الإنسان هذه الحسابات العمر بكامله رجع إلى المعاني التي ذكرناها بالأمس، وما ذكره النبي ﷺ: واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة[3]وما أشبه ذلك، مثل المسافر.
هذا، وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوء، (1/ 53)، رقم: (212)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته، رقم: (786).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في نقصان الصلاة، (1/ 211)،رقم: (796)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (761)، وفي صحيح الجامع، رقم: (1626).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، (1/ 10)، رقم: (39).