الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أبو ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي من خيار أصحاب النبي ﷺ، ومن ثقاتهم وأمنائهم، ولا أدل على ذلك من أن النبي ﷺ ائتمنه على كتابة الوحي، فقد كان طائفة من أصحاب النبي ﷺ ممن كان يعرف الكتابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي سرح وأبي بن كعب وأمثال هؤلاء كانوا يكتبون بين يدي رسول الله ﷺ، وكان منهم حنظلة.
هذا الذي روى عنه ﷺ ثلاثة أحاديث يتهم نفسه بالنفاق، نافق حنظلة، يخاف على نفسه النفاق وهو أحد كتّاب الوحي، ولا يمكن أن يكون أحد المنافقين كاتباً لرسول الله ﷺ، وهذا يدل دلالة واضحة على خطر النفاق، وأن أصحاب النبي ﷺ كانوا يتخوفونه على أنفسهم، ولهذا جاء عن بعضهم: "ما خافه إلا مؤمن وما أمنه إلا منافق".
وكان عمر يسأل حذيفة بن اليمان وهو صاحب سر رسول الله ﷺ وكان النبي ﷺ قد أسرّ إليه بأسماء نفر من المنافقين، فكان عمر يسأله جاهداً، يسأله بالله هل سماه رسول الله ﷺ له في جملة من سمى من المنافقين، فقال له: "لا، ولا أزكي أحداً بعدك"، وكان عمر لا يصلي على الرجل إذا مات حتى ينظر هل صلى عليه حذيفة أو لا[1].
فينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه النفاق، وأن يتحرز، وأن يتجنب كل الأوصاف التي توقعه في جملة المنافقين، سواء كان ذلك النفاق من النفاق العملي أو النفاق الاعتقادي، فمن ذلك ما ذكره النبي ﷺ في أوصاف المنافقين: ثلاث من كن فيه كان منافقاً، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان و إذا عاهد غدر[2]، فيبتعد الإنسان عن الكذب بجميع أنواعه، وعن إخلاف المواعيد، وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- كيف نعرف الكذابين؟، قال: بمواعيدهم، وأيضاً الخيانة بجميع صورها وأشكالها، وقد جاء في بعض الروايات: و إذا عاهد غدر، هذه أوصاف للمنافقين، وقد وصفهم الله بأوصاف أخرى في القرآن كقوله -تبارك وتعالى: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 62].
وقوله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:2] كثرة الحلف وهم كاذبون، وكذلك أيضاً تثبيطهم عن طاعة الله ، وصدهم عن سبيل الله، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18]، وكذلك كثرة الإرجاف لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60]، إلى غير ذلك من أوصافهم، فيتجنب الإنسان هذه الأمور ويخاف على نفسه، ولا يطمئن إلى نفسه، وكثير من الناس يفعل أفعالاً مشينة كثيرة، وإذا سئل عن ذلك قال: المهم هذا القلب، وما يدريك أن هذا القلب لم يزغ بسبب هذه الأفعال المنكرة، فالعبد يصلح قلبه، ويصلح عمله، وهناك تلازم أكيد بين الظاهر والباطن، فإن صلاح الظاهر مرتبط تمام الارتباط بصلاح الباطن، وصلاح الباطن مرتبط تمام الارتباط بصلاح الظاهر، ولا يمكن للإنسان أن يصلح باطنه دون أن يصلح ظاهره، لابد من هذا وهذا.
يقول أبو بكر : "سبحان الله ما تقول؟!"، وهكذا إذا تعجب الإنسان فإنه كان من هدي النبي ﷺ إذا تعجب من شيء سبّح، سبحان الله، وإذا أعجبه شيء كبّر.
قلتُ -هنا يبين "نافق حنظلة" ما معناها: "نكون عند رسول الله ﷺ يذكّرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله ﷺ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً.
يقول: إذا كنا بحضرته ﷺ في مجلس الذكر أصبحنا في قمة الإشراق، والإيمان الراسخ كأننا نرى الجنة والنار أمام أعيننا، وهذا أعظم ما يكون في الإيمان، وإذا رجعنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، ومعنى عافسنا أي: خالطنا ولاعبنا، والضيعات بمعنى: المعايش من حرث ووظيفة وتجارة وغير ذلك، فهذه الأمور إذا خالطها الإنسان خف ذلك الذي في قلبه، وضعف، فإذا أغرق في ذلك فإن ذلك يؤثر تأثيراً بيناً على ما عهده من قلبه في مجالس الذكر، ولذلك تجد قلب الإنسان حاضراً في مجلس الذكر وإيمانه يرتفع، فإذا خرج فإن ذلك يُضعف هذا الأثر.
ومعنى ساعة وساعة أي: كقوله ﷺ: سددوا وقاربوا[3]، ساعة تحضرون مجلس الذكر، وساعة تتعبدون لله تصلون وتذكرونه وتقرءون القرآن، وساعة تقومون بحقوق الزوجات والأولاد، وتقومون بما يصلح معايشكم من تجارة وحرفة وصناعة وما إلى ذلك، ومعنى ساعة وساعة، أي: ساعة تحضرون مجلس الذكر، وساعة تتعبدون لله تصلون وتذكرونه وتقرءون القرآن، وساعة تقومون بحقوق الزوجات والأولاد، وتقومون بما يصلح معايشكم من الأمور التي لابد للإنسان منها، وهذه سنة الله في هذه الحياة، ولذلك لا يؤاخذ الإنسان على مثل هذا الضعف العارض الذي يحصل له، لكن المشكلة حينما يغرق في الدنيا، وتكون الدنيا هي همه، ولا يرفع رأساً لعبادة الله ، ولا لذكره، ولا لطاعته، ولا يحضر مجالس الذكر، ولا يتذكر، بل ذلك يكون أثقل على قلبه، فإن هذا يذهب بعيداً ويقسو قلبه، وأنّى له الذكرى وهو بمثل هذه الحال؟، ولربما وصل الأمر بالإنسان أن لا يعرف ربه تماماً، وإنما يعرف هذا العرض الزائل.
كما قال الله : مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [هود:15]، هذا في آية هود، وفي آية الإسراء: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:18].
فالمقصود أن من كانت إرادته متمحضة للدنيا من أجلها يقوم، ومن أجلها يقعد، ومن أجلها يعمل، ومن أجلها يكدح لا يريد ما عند الله فإنه متوعد بالنار، والإنسان لا يعاب إذا طلب الدنيا، ولكنّ ذلك الطلب لا ينسيه الآخرة، فهو يصلح قلبه ويتعاهد نفسه، ويتوب من ذنوبه، ويعمل الأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله ، وتعمر آخرته ولا يكون من الغافلين، هذا هو الطريق وهو المخرج بإذن الله من مثل هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب المرتد، باب ما يحرم به الدم من الإسلام زنديقًا كان أو غيره (8/ 348)، رقم: (16845).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، (1/ 16)، رقم: (34)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، (1/ 78)، رقم: (58).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، (1/ 10) رقم: (39).