الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
وعبادة ممن بايع النبي ﷺ البيعة الأولى، وشهد البيعة الثانية وكان أحد النقباء، وشهد غزوة بدر، وما بعدها، وشهد بيعة الرضوان، وكان طويلاً جسيماً جميلاً، وهو من خيار أصحاب النبي ﷺ، وكانت روايته عن رسول الله ﷺ تبلغ واحداً وثمانين ومائة حديث، اتفق الشيخان على ستة، وانفرد البخاري باثنين، وانفرد مسلم باثنين، وأرسله عمر مع معاذ وأبي الدرداء إلى الشام ليعلموا الناس القرآن، وكان قبل ذلك يعلم أهل الصفة ويقرئهم القرآن فانتقل إلى الشام وبقي يعلم في حمص، ومعاذ في فلسطين، وأبو الدرداء في دمشق، ثم بعد ذلك لما كان له تلاميذ في حمص وبدأوا ينتشرون ويعلمون انتقل بعد ذلك إلى فلسطين حتى توفي بها ، وهو أول من ولي قضاءها، وكانت وفاته سنة أربع وثلاثين للهجرة على الأرجح.
يقول: "بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة"، وبايعناه أي: عاهدناه وعاقدناه على السمع والطاعة، أن نسمع وأن نطيع من رسول الله ﷺ ومن يأتي بعده من أصحاب الولايات، قال: "في العسر واليسر" يعني: في الشدة والرخاء، "والمنشط والمكره" أي: في حال إقبال النفس وميلها إلى الشيء المأمور به، أو في حال تقاعدها وتثاقلها في ذلك الأمر، بمعنى أنه يطيع في الأشياء التي يحبها ويميل إليها وكذلك يطيع في الأشياء الأخرى، "وعلى أثَرَة علينا" أي: وأن نطيع حتى مع وجود الاستئثار، والأثَرَة تعنى: الاستحواذ على الشيء المشترك الذي يشترك الناس فيه، فإذا استحوذ عليه أحد دونهم فإن ذلك يقال له: أثرة، ويقابله الإيثار وهو: أن يترك الإنسان حظه ونصيبه وحقه تقديماً لغيره على نفسه، ولذلك عرِّف الإيثار بأنه: تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية، لأنه إن قدم غيره على نفسه في حظوظ الآخرة فهذا غير محمود؛ لأنه يؤذن بزهد في العبادة، والطاعة والثواب من الله ، فأما الأثرة فهي عكسه.
قوله: "وعلى أثَرَة علينا" أي: حتى لو استأثروا علينا في الدنيا واستحوذوا عليها فإن ذلك لا يعني أن لا نطيع، وأن لا نسمع، فهذا أمر يحاسبهم الله عليه، ولكننا كلفنا وأمرنا بأن نسمع وأن نطيع، قال: "وعلى أن لا ننازع الأمر أهله"، أي: بالخروج عن الطاعة، ومنازعة السلطان، وأصحاب الولايات، فهذا أمر لا يجوز.
والمستقر عند أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على السلطان إلا إن وقع منه كفر بواح، كما يدل عليه آخر هذا الحديث، بخلاف المعتزلة والخوارج، فإن أصول المعتزلة خمسة، ويذكرون منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة وحق، وهذا الباب كل الأحاديث تتحدث عنه، لكنهم يقصدون به معنى باطلًا، يقصدون به الخروج على الأئمة، أئمة الجور، هذه عقيدة المعتزلة، أنه يجب الخروج على أئمة الجور، وكذلك أيضاً هذا اعتقاد الخوارج، وإن لم تكن لهم هذه الأصول الخمسة التي عند المعتزلة، والمشهور عند أهل العلم وهو الذي تدل عليه ظواهر النصوص أنه يجب السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية؛ لأن النبي ﷺ يقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق[1]، فإذا أمر بطاعة يجب طاعته، وإذا أمر بما لا يعلم أنه معصية من الأمور المباحة فيجب طاعته، هذا الذي عليه الجماهير من أهل العلم.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى التفريق في هذا الباب فقال: إن أئمة العدل يطاعون فيما لا يعلم أنه معصية، أي: في الطاعات وفي الأمور المباحة، وأئمة الجور يطاعون فيما يعلم أنه طاعة، ذكره في الاختيارات، قال: وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بَواحاً بواحاً: من باح بالشيء بمعنى أظهره، باح بالسر يعني أعلنه وأظهره، "إلا أن تروا كفراً بواحاً" أي: كفراً صريحاً واضحاً ليس فيه تأويل، ولا خفاء فيه، عندكم فيه من الله تعالى برهان.
وقوله: "وعلى أن نقول بالحق أينما كنا" أي: وهم في الوقت نفسه الذي لا يخرجون فيه على من ولاه الله أمرهم حتى يروا كفراً بواحاً هم أيضاً يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ففرق بين هذا وبين هذا، كون أنه من المستقر عند أهل السنة أنه لا يجوز الخروج على أئمة الجور هذا لا يعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وقع منهم خطأ أو تقصير فإنه لابد من مناصحتهم، وبيان عيوبهم لهم، وتذكيرهم بالله -تبارك وتعالى، فهذا لا علاقة له بما قبله مما يتعلق بالخروج عليهم، بل هذا من النصح لهم.
قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم[2].
قوله: أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم، أي: مهما ثبطه المثبطون، وعوقه المعوقون إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإن ذلك لا يثنيه عن القيام بحق الله ، وما تعبده به من هذه الشريعة العظيمة، والاحتساب والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، هذا بعض ما يتعلق بهذا الحديث، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه الإمام أحمد في المسند، عن علي عن النبي ﷺ، قال: لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، برقم (1095)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط مسلم" في السلسلة الصحيحة، برقم (179).
- رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (55).