الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أم الحكم زينب بنت جحش وهي الأسدية، تزوجها زيد بن حارثة ، وقد زوجها إياه رسول الله ﷺ، وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، ثم بعد ذلك طلقها زيد بن حارثة فتزوجها النبي ﷺ في أواخر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة، وقد بلغت الخامسة والثلاثين -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- وكانت تسامي عائشة -رضي الله عنهن أجمعين- بالشرف والمنزلة، وكانت امرأة صالحة منفقة باذلة، حتى قال رسول الله ﷺ: أسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا[1]، ويقصد بطول اليد أي: البذل والنفقة في سبيل الله -تبارك وتعالى، وكانت -رضي الله تعالى عنها- من خيار نساء المؤمنين، وكانت وفاتها مصداقاً لهذه المعجزة والخبر الصادق عن رسول الله ﷺ في سنة إحدى وعشرين للهجرة، فهي أول من مات من أمهات المؤمنين بالإجماع، ودفنت في البقيع، وأما روايتها عن رسول الله ﷺ فقد بلغت أحد عشر حديثاً، اتفق الشيخان على حديثين، وبقية الأحاديث مخرجة في غيرهما، تقول -رضي الله تعالى عنها: إن النبي ﷺ دخل عليها فزعاً، والفزع هو: شدة الخوف، يقول: لا إله إلا الله يقوله على سبيل التعظيم والتعجب من هول ما حصل، و"ويل" كلمة تقال للوعيد والعذاب والتهديد، وما في معناه.
قوله: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه[2]، وخص العرب بذلك؛ ربما لأنهم أكثر من يُبتلى بيأجوج ومأجوج، فإن هؤلاء يأتون من ناحية المشرق؛ لأن الله لما ذكر السد وذا القرنين قال: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا [الكهف:89-90] أي: من ناحية المشرق، ثم بعد ذلك قال: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93 ].
فهؤلاء قوم من قبيلتين من بني آدم، كثيرٌ إفسادهم منذ عصور متطاولة، ولذلك شكا هؤلاء هذا الإفساد إلى ذي القرنين، فوضع لهم هذا السد بين الجبلين، وهو سد عظيم بناه بناء محكماً، ولما رفع بناءه قال: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف:96]، أي: من النحاس، فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97]، فالنقب أشد من الصعود؛ لأن الظهور على السد أقل كلفة من نقبه، فزاد حرفاً في قوله: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، والزيادة في بناء الكلمة زيادة في المعنى، هكذا قال بعض أهل العلم -والعلم عند الله ، فهؤلاء موجودون ويتناسلون ويحاولون نقبه في كل يوم، وقد ذكر النبي ﷺ ذلك صراحة أنهم في كل يوم ينقبون ثم يتركونه، يقولون: نرجع إليه غدًا، فيرجعون إليه وإذا به قد عاد إلى حالته الأولى، حتى إذا أذن الله بفتحه قالوا: إن شاء الله، في آخر يوم، فيرجعون ويكملون، ثم ينقبونه ويخرجون، ولا يقال: إن هذا السد هو سد الصين؛ لأن أهل الصين لم يمنعهم هذا السد؛ لأنه متنزه ومكان يأتي إليه الناس من أقاصي الدنيا للفرجة، ويختلطون بهؤلاء الناس، ولا يُعرف عن أهل الصين أنهم أهل إفساد في الأرض كما ذكر عن يأجوج ومأجوج، يأتون بالصفة التي ذكرها النبي ﷺ شيء هائل، فالحاصل أن الصينيين يخرجون ويذهبون ويأتون ويختلطون بالناس، ولم يحل بينهم وبين الناس سد.
أما هذا السد فهم ينقبونه في كل يوم، وليس لأحد أن يقول: إن العالم قد أحيط به، وعرف اليوم، وإن الأقمار الصناعية قد وصلت إلى كل مكان، وصورت كل شبر من الأرض، يقال: لا، الله أعماهم عنه، كما أعماهم عن جزيرة الدجال التي رآها تميم الداري ومن معه، وكما حصل لبني إسرائيل ومعهم موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام، في التيه، وهي أرض صغيرة تاهوا فيها أربعين سنة، وما عرفوا المخرج منها حتى قيل: إنهم يمشون سائر النهار ويبيتون، فإذا أصبحوا وإذا بهم في مكانهم الأول، فإذا أراد الله شيئاً قال له: كن، والإنسان يعتبر بما حوله، أحياناً يبحث عن شيء بين يديه فيعمى عنه البصر ولا يراه، فهذا شيء مشاهد، وقد قيل لابن عباس -رضي الله عنهما- كيف بالهدهد يقولون: إنه يرى الماء تحت الأرض، ويضع له الصبي الفخ ويصطاده؟، فقال: إذا حضر القدر عمي البصر، فالمقصود أن الله شاء ذلك وقدره، وعمَّى عنه أبصار الناس، وإلا فهم من الكثرة بمكان حتى إنهم إذا جاءوا في آخر الزمان يأتي أهل الإيمان ويلجئون إلى الطور مع عيسى ﷺ ويرغبون إلى الله -تبارك وتعالى، وعند ذلك يصيبهم هذا البلاء الذي يبتليهم الله به، وهو داء يميتهم جميعاً يقال له: النَّغَف، ثم تنتن الأرض من زهمهم وروائحهم، فتأتي طير كأعناق الإبل، فتحملهم وتلقيهم حيث شاء الله ، ثم ينزل مطر يغسل الأرض بعد ذلك، وتُخرج بركتها.
فالمقصود أن هؤلاء يُوقِد أهل الإيمان على نشابهم سبع سنين، أي: على عيدان السهام، وهذا يدل على أنهم يخرجون في زمن غير هذه الأزمان، والأسلحة العصرية، وإنما بالسهام والنشاب، فالحاصل أن النبي ﷺ يقول: نعم إذا كثر الخبث، أي: الفجور والفسق والمعاصي، وبعض أهل العلم فسره بالزنا، وبعضهم فسره بأولاد الزنا، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن يفسر ذلك بالمعاصي والفجور إذا كان سمة بارزة للمجتمعات، وصار أهل الشر هم الذين يمثلون المجتمع، وهم الذين يغلبون على مرادهم، ومطلوبهم، فيكثر المنكر ويقل المعروف، وتستحكم غربة الدين، فعند ذلك يهلك الجميع، أنهلك وفينا الصالحون؟، وهذا هو الشاهد في هذا الحديث الذي أورده من أجله المؤلف -رحمه الله، فوجود الصالحين لا يكفي في دفع العذاب، فإذا كثر الشر والفساد وقعت العقوبات العامة، ولذلك لابد من مدافعتها بإقامة هذه الشعيرة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا خلاص ولا نجاة إلا بهذا، وقد رأينا من العبر في هذا العصر بما فيه الكفاية من حروب مدمرة وزلازل تدمر كل شيء، ورأينا هذا الطوفان الذي جاء في بعض البلاد في المشرق حتى صار الناس كالقش، عبرة ومع ذلك لم نرَ من يعتبر، ولم نرَ الأمم تابت أو دخلت في الإسلام أو تركوا لهوهم وعتوهم على الله -تبارك وتعالى، بل يفسَّر هذا بأمور طبيعية وتتناقله الوسائل الإعلامية والفضائيات، وينظر الناس إليه على أنه مظهر من مظاهر قسوة الطبيعية، وما يعتريها من أمور بعيدة عن إرادة الله ، ولا تعلق لها بالعذاب الذي يرسله على القوم المجرمين، فهذا من بأس الله .
وإذا أردتم أن تعرفوا ضعف الإنسان وإمكاناته والعمران الذي عمره عبر مئات السنين فتذكروا تلك الصورة حينما يغمرهم الماء، هذا السائل الرقيق الضعيف الذي به تقوم الحياة، يغمرهم الماء فيحملهم حملاً كعيدان التبن، قش يطفو على الماء، هكذا ابن آدم، قش ضعيف مثل العيدان الصغيرة تطفو على الماء، لا تميز أحياناً بين الآدمي وبين كِسَر الأشجار والأخشاب التي قد اختلطت معه، وأصبحت المدن الظاهرة حطاماً حصيداً، ليس هناك تعبير أبلغ من هذا التعبير إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24] بعدما كانوا في لهوهم وتفكههم يتسكعون على الشواطئ شبه عراة، وإذا هم يطفون على الماء مثل الذر -نسأل الله العافية، قليل من الصراخ ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، لا صراخ ولا عويل، هذا بأس الله ، فالإنسان يتوب ويعود إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويخلص رقبته، وعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الحاكم، باب ذكر زينب بنت جحش -رضي الله عنها- (4/ 26)، رقم: (6776)، وصححه الألباني في المشكاة، رقم: (1875).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج (4/ 138)، برقم (3346)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج (4/ 2207)، رقم: (2880).