الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهو في أول الأمر حذرهم من الجلوس في الطرقات؛ لِمَا يحصل للجالس فيها من ألوان المخالفات التي قد يصعب عليه التخلص منها، والانفكاك والتباعد عنها والإنسان ينأى بنفسه دائماً عن كل ما يلحقه بالمخالفة، ويجتهد في ذلك قدر استطاعته، فكيف به إذا بقي في مكان هو مظنة للمخالفات أصلاً؟ فيكون قد عرض نفسه للفتنة، وقد قيل: من عرض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً.
ثم أيضاً يحصل في هذا الجلوس في الطرقات من أذية الناس، وذلك بإحراجهم بملاحقتهم بالنظرات وبغير ذلك، فإن الناس لا يحبون أن يقف الناس في الطريق ويتخذونه مجلساً ينظرون في الغادي والرائح، فهذا أمر لا يحسن ولا يجمل ولا يليق، وكان من عادتهم فيما يظهر أنهم كانوا يجلسون في نواحٍ في الطريق، لم يكن عندهم مجالس؛ لقلة ذات اليد، فالإنسان لربما لا يكاد يجد مكاناً يأوي إليه، وبيوتهم صغيرة في غاية الصغر كما هو معلوم، فلربما اجتمعوا في ناحية مما تفضي إليه البيوت، أو الأفنية أو نحو ذلك.
فلما نهاهم النبي ﷺ قالوا: ما لنا من مجالسنا بد، أي: لا نستطيع مفارقة ذلك، لحاجتهم إليه، قالوا: نتحدث فيها، والإنسان بطبيعته يميل إلى الاجتماع والخلطة ويأنس بذلك، فقال رسول الله ﷺ: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، أي: كأنهم فهموا من النبي ﷺ أنه لم يعزم عليهم بالنهي؛ ولذلك حمله بعض أهل العلم على الكراهة، حتى لو كان له مجلس في بيته، لكن بهذه الشروط فإذا أبيتم إلا المجلس، وفي رواية عند البخاري: إلا المجالس أي: إلا الجلوس فيها، والمجالس باعتبار التعدد حينما يجلس الإنسان مرة بعد مرة ويجلس هؤلاء ويجلس هؤلاء، فإن ذلك بمعنى الجمع قال: فأعطوا الطريق حقه، وهذا يدل على أن هناك حقوقاً لله ، وحقوقاً للناس، ويجب أن تراعى هذه الحقوق، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟، قال: غض البصرإلى آخره، فهذا يكون للجالسين فيه، ويكون للمارة، يكون للإنسان وهو واقف أو جالس.
وقوله: غض البصر أي: صرفه عما لا يحل النظر إليه، من النظر إلى النساء ونحو ذلك؛ لأنه سبيل إلى الفتنة فيعود ضرره إلى الناظر، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وقد تكون هذه النظرة فيها حتف الإنسان، وكذلك فيه أذية للمنظور إليه، فإن الناس لا يسمحون لأحد أن ينظر إلى عوراتهم، فيحصل لهم بسبب هذا من الحرج والضيق ما لا يخفى.
وقوله: وكف الأذى، وكف الأذى أعم من غض البصر، النظر إلى عورات الناس من الأذى، لكن المقصود هنا ما هو أعم من ذلك، من غمزهم ولمزهم وغيبتهم والتعليق عليهم، وشتمهم والدخول معهم في مهاترات أو ضربهم أو نحو ذلك مما يحصل به الأذية على الناس، بأي طريقة من الطرق كالاستهزاء والتهكم، والتندر بهم، وضرب الأطفال أو زجرهم أو نحو ذلك من غير موجب، كل هذا من الأذية، والذين اعتادوا الجلوس في الطرقات لربما يبتكرون طرقاً يتوصلون بها إلى أذى الناس، وقد يكون هؤلاء من بعض كبار السن، ويحصل منهم أشياء عجيبة، لربما ربط بعضهم درهماً أو ديناراً أو نحو ذلك بخيط لا يُرى، فيلقيه في الطريق، في وقتٍ الناس فيه بأمس الحاجة إلى الشيء اليسير من المال، فكلما مر أحد وأهوى إليه ليأخذه سحبه وأخذ يضحك عليهم، ويجعل الناس يضحكون ويتندرون بهم، فهذا لا يجوز، وهذا من أذيتهم، وقد يفعل أشياء غير ذلك كالتعليق عليهم أو غيبتهم أو نحو ذلك، ولربما وقع لهم أشياء فيحرجهم بسبب تصرفه إزاء هذا، لربما يتعثر الإنسان أو يسقط.
يقول: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا هو الشاهد في هذا الباب، فدل على أن ذلك من حقوق الطريق، فإذا رأى الإنسان شيئاً من المنكرات يجب عليه أن ينكره، وهذا داخل في قوله ﷺ: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه[2]، أما أن يجلس الإنسان في الطريق ويرى ألوان المنكرات كأنه لم يرَ شيئاً فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، برقم (6229)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه، برقم (2121).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (1/ 69)، رقم: (49).