الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
والحسن البصري -رحمه الله- كان من أئمة التابعين ومن فقهائهم وحكمائهم، وعبادهم وزهادهم، وقد كانت ولادته حينما بقي على خلافة عمر ما يقرب من سنتين، وكان مولى لزيد بن ثابت ، وأمه مولاة لأم المؤمنين أم سلمة ، ولربما خرجت أمه في حاجة فبكى فألقمته أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- ثديها فدر عليه فرضع، وقال بعضهم: لعل فصاحته التي عرف بها كانت بسبب ذلك، وقد لقي نحواً من ثلاثين ومائة من الصحابة .
أما عائذ بن عمرو فهو من أصحاب النبي ﷺ من أهل الحديبية ممن بايع تحت الشجرة، وكان من خيار الصحابة ، ويكفي أن الله قد أخبر عن رضوانه عنهم، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:81] فهذه شهادة من الله لمثل هؤلاء، ومعلوم أن من شهد بيعة الشجرة أنهم من خيار أصحاب النبي ﷺ، فخيرهم العشرة، ثم بعد ذلك أهل بدر، ثم بعد ذلك أهل بيعة الرضوان، وقد روى عن النبي ﷺ نحواً من ثمانية أحاديث، روى البخاري واحداً، وأخرج الإمام مسلم حديثين.
يقول: دخل على عبيد الله بن زياد، وكان والياً ليزيد بن معاوية على العراق، وكان غشوماً جهولاً ظلوماً، فقال عائذ بن عمرو: أيْ بُنيّ، يريد أن ينصحه لما رأى من ظلمه وسوء تعامله مع رعيته، فتلطف به، فقال: أيْ بُني، ويؤخذ من هذا أنه ممن تُوجَّه إليه النصيحة الأمراءُ والأئمة والعلماء ومن يرجع الناس إليهم كرؤساء القبائل والعشائر وما أشبه ذلك من الكبراء، وهؤلاء الرفق معهم يكون مطلوباً كما يكون مطلوباً مع غيرهم؛ لأنه كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "ليس من الحكمة أن تردّ على المطاع أمره أمام الملأ، فيحمله ذلك على العسف والظلم ورد النصيحة".
فالحاصل أنه يتلطف به يقول: أي بني، لأنه صغير بالنسبة إليه، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن شرَّ الرِّعاء الحطمة، شر الرِّعاء -وهذا في رعاة الإبل- الذي يعسفها ويسوقها سوقاً عنيفاً إلى الماء، ثم بعد ذلك تصدر منه بسوق عنيف، فقيل ذلك للأئمة والأمراء الذين يسوسون رعيتهم بالقهر والظلم والعسف والجبروت، فإياك أن تكون منهم، كلام جيد ولطيف، لم يقل له: أنت من شر الرعاء، وأنت تسوس الناس كهذا الذي وصف النبي ﷺ، وإنما قال: إياك أن تكون منهم، فقال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد ﷺ، نخالة الدقيق هي القشر الذي لا شأن له ولا قيمة له، ويقال: نخالة الناس، أي: الحثالة الذين لا وزن لهم ولا قيمة -نسأل الله العافية، فهذا يقول لرجل بايع بيعة الرضوان من أجل أنه نصحه هذه النصيحة اللطيفة الرقيقة، يقول له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد ﷺ، فإذا كان مثل هذا يوجَّه إليه هذا الكلام، فماذا يقال لغيره؟
ولذلك أقول: مثل هذا لم تأخذه العزة بالإثم حينما رد عليه مثل هذا الرد البذيء، الذي لم يتأدب فيه الأدب الواجب مع أصحاب النبي ﷺ، فتطاول عليه ورماه بما هو بريء منه، فلم تأخذه العزة بالإثم، ولم ينتصر لنفسه، وهكذا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنه قد يؤذى وقد يوجَّه إليه كلام من سباب أو شتم أو نحو ذلك، فلا ينبغي له أن يتحول من محتسب لوجه الله إلى منتصر لنفسه، فإنه يُخذل بسبب ذلك، فقيامه لله، ولا يجوز أن يتحول قيامه إلى حظ نفسه.
فقال: وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم، فينبغي للإنسان أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، وأن يصبر على ما يناله من الأذى، ولا يكون بعد ذلك متطلباً للانتصار للنفس، فإن ذلك ينافي الإخلاص، ويخرج عما هو بصدده حيث قام لله -تبارك وتعالى، هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.