الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله.. أي: أن الرجل من بني إسرائيل يلقى الآخر وهو يعمل المنكر فينكر عليه، ثم يلقاه مرة أخرى من الغد، ولا زال مقيمًا على هذا المنكر، أي: أنه لم يغير ذلك المنكر، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، أي: أن الله -تبارك وتعالى- شتت شملهم، وجعل قلوبهم متفرقة، وصار بعضهم يبغض بعضًا، ويعرض الرجل عن أخيه، وصاروا في حالة من العداوة وفساد المقاصد والقلوب.
ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [المائدة:78]، و"الباء" هنا للسببية، أي: أن ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم، وتجاوزهم حدود الله ، ثم بين ذلك فقال: كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:79] أي: لا ينهى بعضهم بعضًا، وهذه اللفظة " يتناهون" في أصل تركيبها في الغالب تدل على مفاعلة بين اثنين فأكثر، لا يتناهون أي: لا ينهى بعضهم بعضًا، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون، وقد سمى الله تركهم للتناهي فعلاً، وذلك أن الإنسان إذا ترك ما أمره الله -تبارك وتعالى- به فإن ذلك من جملة الأفعال التي يحاسب عليها، فالأفعال التي يحاسب عليها الإنسان هي أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارح، وكذلك التروك.
لئن قعدنا والنبيُّ يعملُ | فذاك منا العملُ المضلَّلُ |
فسمى القعود عملاً، ثم قال الله : تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ إلى قوله: فَاسِقُونَ [المائدة80-81]، ثم قال: كلا، والله لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرُنّه على الحق أطرًا، أي: لتحملنه على الحق أطرًا، ولتقصرنّه على الحق قصرًا أي: يُحصر على سلوك الحق، فالمسألة ليست حرية شخصية، يعبث كما يشاء، ويظهر المنكرات في المجتمع، ثم يقول: هذه أشياء تخصني، هي لا تخصه، وإنما تخص المجتمع جميعاً؛ لأن الجميع سيعذبون والعذاب إذا نزل فإنه يعم، قال: أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننّكم كما لعنهم[1]، وهنا في قوله ﷺ: كلا، والله جاء بعدة مؤكدات، جاء بالقسم، وجاء بلام القسم وهي تؤكده، وجاء بالنون الثقيلة التي تؤكد الكلام أيضاً، كل ذلك لتقرير هذا المعنى وتأكيده غاية التأكيد، هذا لفظ أبي داود.
وفي لفظ آخر قال رسول الله ﷺ: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، فجلس رسول الله ﷺ وكان متكئاً فقال: لا، والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا[2]، أي: العصاة، وتأطروهم أي: تعطفوهم وتحملوهم على الحق أطرًا، حتى يستقيموا على ذلك، فالمقصود أن هؤلاء نهوهم عن المنكر في بادئ الأمر ثم بعد ذلك تركوا الإنكار، وصاروا يجالسونهم ويواكلونهم ويشاربونهم، فلعنهم الله على لسان هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فما حال من لا يأمر أصلاً ولا ينهى، ولا يرفع لذلك رأساً، ولا يحرك له ساكناً؟، لا شك أن هذا أعظم ممن أمر مرة ثم ترك بعد ذلك.
وهذا الحديث يدل على القول الراجح من قول أهل العلم وهو أن الإنسان إذا أمر أو نهى ثم بعد ذلك لم يحصل التغيير والامتثال فإنه يجب عليه أن يعود ثانية وثالثة طالما أن المنكر لا يزال قائماً، حتى يزول المنكر، ولا تبرأ الذمة إلا بزواله، أما أن يقول الإنسان: أنا أبرأت ذمتي وأنكرت، وليس عليّ بعد ذلك شيء، فهذا غير صحيح، هذا، وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، (1/ 69)، رقم: (49).
- أخرجه الترمذي، باب: ومن سورة المائدة، (5/ 252)، رقم: (3047)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم: (4773).