الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
‏(8) الذكر وثمرته في القلب وغراسه في الجنة
تاريخ النشر: ١٢ / ذو القعدة / ١٤٣٤
التحميل: 9362
مرات الإستماع: 8072

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذا الذكر يكون به حياة القلب وعافيته، وبه يصقل هذا العضو الذي هو ملك الجوارح، فهي تأتمر بأمره، وتقف عند حركته، وتوجهه، فحيثما وجهها توجهت، ومن ثم فإن ذلك ينعكس على الجوارح كما أنه يثمر في هذا القلب الأعمال القلبية الزاكية، فإن صلاح هذا القلب وزكائه، يعني ويقتضي أن تزكو فيه وتنمو الأعمال التي هي أشرف من جنس أعمال الجوارح، تزكو فيه الأعمال التي جنسها أشرف من جنس أعمال الجوارح، وهي أعمال القلوب.

فالذكر إذا أكثر منه العبد فإن ذلك يورثه محبة المعبود ، وهذه أمور لا تخفى، كما أن من أحب شيئًا فإنه يكثر من ذكره، ويلهج بإطرائه والثناء عليه، وذكر محامده، وفضائله وكمالاته، والله -تبارك وتعالى- هو العظيم الأعظم، ذو الصفات الكاملة الذي يستحق الحمد من كل وجه، ويستحق الشكر من كل وجه، ويستحق الثناء والتمجيد من كل وجه.

فإذا اشتغلنا بذكر الله -تبارك وتعالى- حصلت لنا المحبة، وتحققت في قلوبنا، وهذه المحبة كما يصفها الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة"[1]، فإذا أحب العبد ربه وأحب الرب عبده فلا تسأل عن حاله من الإقبال على الطاعة، والانكفاف عن المعصية، والفرح والسرور والانشراح بذكره، فيجد قلبه وأنسه وراحته في هذه المجالس التي يذكر الرب -تبارك وتعالى- فيها، كما أن ذلك يورثه مراقبة الله -تبارك وتعالى-، فلا يغيب ذلك عن قلبه، وإذا حصلت هذه المراقبة دخل العبد في مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك[2].

هذه المراقبة يأتي معها العبد بالأعمال الصالحة على الوجه الأكمل فإذا صلى كان قلبه حاضرًا في صلاته، فيأتي بها على وجه وحال من الخشوع مرضية، كما أنه حينما يعمل شيئًا من الأعمال الصالحة فإنه يراقب الله ولا يلتفت إلى المخلوقين، ومن ثم فإن نيته وقصده إنما هو إرادة ما عند الله -تبارك وتعالى- دون التفات إلى ما لا يحل الالتفات إليه من الرياء والسمعة.

إذا كان العبد يراقب ربه فإن حالته في الخلوة والجلوة تكون على حال سواء لا فرق بين خلوته وجلوته؛ لأنه يعلم أن الله يراه، أما الغافل فلا سبيل له إلى تلك المنازل والمراتب العالية، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى بيت الله الحرام، وهذان مثالان مما يتصل بأعمال القلوب، ولك أن تستحضر هذه المعاني في سائر الأعمال القلبية من الخوف والرجاء، وما إلى ذلك.

كما أن من فوائد هذا الذكر: أنه يصرف صاحبه عن الاشتغال بما لا ينفعه، يصرفه عن الاشتغال بالباطل واللهو بجميع أنواعه، فالعبد لا بدّ له من أن يتكلم، لا بدّ لهذا اللسان من حركة، فإن لم يتكلم بذكر الله وذكر أوامره تكلم بهذه الأمور التي تضره ولا تنفعه من الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والباطل، وصار لسان حاله في مجالسه: تعال بنا نغتب ساعة، تعال بنا اجلس نلغو ساعة، أما أهل الذكر فإنهم بمنأى عن ذلك، وفي شغل شاغل عنه، فلا سلامة من هذه الأمور إلا بأن يشغل هذا اللسان بذكر بربه وخالقه وفاطره .

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو، ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفاحش، كما هو مشاهد"[3].

فهذا الاشتغال بهذا الذكر يجعله من الذاكرين، والناس إما أن يكون ممن له لسان ذاكر أو ممن له لسان لاغ، ولا بدّ من أحدهما فهي النفس -كما هو معلوم- إن لم تشغل بالطاعة شغلت صاحبها بأضداد ذلك، تشغل صاحبها بالمعصية، تشغل صاحبها بالباطل، هو القلب إن لم تسكنه محبة الله -تبارك وتعالى- سكنته محبة المخلوقين، هو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو لاسيما في مثل هذه الأوقات التي كثر انشغال الناس فيها بالقيل والقال، وصارت مجالسهم عامرة بالنقل والكلام والرد والمجادلة وما إلى ذلك مما ينقلونه ويتلقونه عبر هذه الوسائل الإعلامية، فإذا جلسوا صار هذا الاشتغال هو ديدنهم، فمن الذي يشتغل في هذه الأيام بذكر الله ويعمر هذه المجالس بهذه الأمور النافعة؟!.

إن تتابع الأحداث وكثرة ما ينقل من الحق والباطل ومما يثق به المرء ومما لا يثق به ويتناقله الناس على سبيل السرعة كل ذلك يجعلنا نمعن في هذا الاشتغال الذي يبعدنا كثيرًا عن ذكر الله فتحصل الغفلة للعبد.

من فوائد هذا الذكر: أنه غراس الجنة، وهل تعلمون شيئًا مما يشتغل به الناس في مجالسهم يكون غراسًا للجنة سوى الذكر؟ النبي ﷺ كما في حديث ابن مسعود يقول: لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فقال: يا محمد اقرئ أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وعذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر[4]، هذا غراس الجنة، فإذا قال الإنسان هذه الكلمات الأربع فقد غرس أربعًا من غراس الجنة، وإذا أكثر فإن ذلك يكون له أكثر وفضل الله عليه أعظم، لكن حينما يريد الإنسان أن يغرس في هذه الحياة الدنيا بستانًا فقد يستنطف ذلك ما عنده من المال، وتلحقه الديون، ولا يدري ما الذي يكون له بقاء من هذه الغراس؟، وما الذي يثمر؟ وما الذي لا يثمر؟ ولكن هذا الغراس الذي يكون رابحًا بكل حال.

وفي حديث جابر مرفوعًا من قال: سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة[5]، هذه أمور يسيرة تغرس بها الجنان.

وهكذا أيضًا ما رتب عليه من عظم الجزاء مما لا يوجد في غيره من الأعمال فهنا في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، أن النبي ﷺ قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه[6]، هذا ذكرته مختصرًا فيما يتصل بالحرز من الشيطان فقط وهذا سياقه كاملاً.

والشاهد هنا: ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه، إذًا هذا الذكر الذي يقوله الإنسان يكون به متقدمًا، يكون به فاضلاً على غيره من العاملين الذين يعملون سائر ألوان التطوعات.

ومن قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر[7].

وعند مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس[8]، ما الذي تطلع عليه الشمس؟

من الأحمر والأصفر، من الكنوز، من الزروع، من الدواب، من العقارات، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، وهنا ما قيد ذلك بعدد، لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، في ماذا يتسابق المتسابقون في هذه الحياة الدنيا؟ ما الذي يقضون به أوقاتهم؟ سواء من حصل منهم، أو لم يحصل إن الكثيرين إنما يتعلمون هذه السنين المتطاولة -رجالاً ونساء- من أجل أن يحصل عائدًا من مال يعود عليه في نهاية المطاف، لا يدري هل يجده أو لا يجده، وقل مثل ذلك فيمن تنأى به البقاع من أجل طلب لقمة العيش.

وهكذا أولئك الذين يقضون الساعات الطوال، ولو نظر العبد في مثل هذا لوجد أنه يفوت خيرًا عظيمًا على نفسه من غير أن يحتاج إلى بذل جهد، ولا كلفة، لا عيب في أن الإنسان يطلب الرزق، وهذه سنة الله في هذا الخلق، وإنما المقصود لفت الأنظار إلى ما نغفل عنه، فنحن نغفل عن خير عظيم.

وهكذا في حديث ثوبان مرفوعًا: من قال حين يمسي وإذا أصبح: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ رسولاً، كان حقًّا على الله أن يرضيه[9]، فمثل هذا معناه أنه يكون له الفلاح والفوز، وبذلك يحصل له الرضا.

هذا بعض ما جاء في فضله، وذلك يدل على غيره، وهو قليل من كثير.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، -والله أعلم-، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:41).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، برقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله، برقم (9-10).
  3. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:43).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، برقم (3462)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5152)، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (105).
  5. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، برقم (3464)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (64).
  6. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3293)، وبرقم (6403)، كتاب الدعوات، باب فضل التهليل، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2691).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، برقم (6405)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (597).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2695).
  9. أخرجه، الطبراني في المعجم الكبير، برقم (838)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2686).

مواد ذات صلة