الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي باب الأمر بأداء الأمانة تحدثنا عن الآية التي صدر بها المصنف -رحمه الله- هذا الباب، وهي قوله -تبارك وتعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ، أنه يشمل جميع التكاليف، وسائر الأمانات أيضاً مما يُسأل عنه الإنسان، ويتحمله، ويجب عليه الوفاء به، فما يُعطاه الإنسان على سبيل الوديعة مثلاً فهو أمانة، وهكذا أيضاً ما يزاوله الإنسان من الأعمال التي طلبت منه، كالمعلم الذي يعلم الناس، فهذه أمانة يجب عليه أن يقوم بها على الوجه المطلوب، وهكذا الطبيب حينما يطبب الناس يجب أن يصدق معهم وأن يعالجهم على الوجه الصحيح، وأن لا يستغل آلامهم، وأوجاعهم ليتعلم عليهم، أو ليحصّل مزيداً من الرتب، كالذي يعمل في مستشفى خاص، ويُطلب منه أن يشغِّل كما يقال غرفة العمليات، فيأتيه الإنسان وهو لا يحتاج إلى عميلة، ثم بعد ذلك يقول له: إنك تحتاج إلى كذا وكذا، من أجل أن يأخذ ماله ويعطب بدنه، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، هذا من الغش للناس، وهكذا أيضاً الأسرار التي يُستودعها الإنسان الذي يُعنَى مثلاً بحل مشكلات الناس، أو الذي يصلح بينهم كالقاضي مثلاً أو نحو ذلك، فالذي يحكم بينهم يطلع على كثير من الأمور، فمثل هذا لا يجوز أن يفشي أسرارهم، ويقول: فلان بينه وبين زوجته مشكلة، أو فلان بينه وبين أخيه مشكلة، أو ما أشبه ذلك، هذا كله لا يجوز.
وكذلك من حضر مجلساً تحدث الناس فيه بحديث لا يريدون فُشُوَّ هذا الحديث، فهذا من الأمانة، والمجالس بالأمانة[1]، وهكذا أيضاً إذا أودع الإنسان عندك سراً من الأسرار فلا يجوز إفشاءه بحال من الأحوال، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة في المهن والأعمال والعلوم، وما أشبه ذلك، الإنسان الذي كلف بالتعلم، هذه أمانة يجب أن يقوم بها على الوجه المطلوب، وأن يكون صادقاً، مراعياً لما ينبغي مراعاته في مثل هذه الأمور، فلا يغش.
وقل مثل ذلك في الصانع، حينما يصنع الصنعة ويزيفها يكون قد غش وخان أمانته، البناء حينما يبني بصورة مختلة فهذا يكون قد غش، وقد فشت هذه الأمور، وانتشرت في الناس، في كل الأبواب تجد نقصاً، وتجد عيباً، وتجد غشاً وتدليساً إلا لدى من رحمه الله -تبارك وتعالى- ووفقه ولطف به، وإلا فالكثير من الناس يعتبرون هذا لونًا من المهارة، إذا أراد أن يبيع له سلعة سيارة، أو أرضاً أو نحو ذلك فإنه يرى أن من الفرص التي لا تعوض أن يكون هذا غِرًّا لا يعرف هذه الأشياء، ليس له خبرة ودراية بهذا النوع من السلع، فيرون أنها فرصة ثمينة لا يضيعها إلا مغفل، وإذا جاء يبيع لإنسان سيارته قال: هذا كوم من حديد، ليتخلص من الغش بزعمه ويتورع، وهذا لا يجوز، فهذا الإنسان الذي اشترى منه لم يشترِ كوماً من حديد، وإنما اشترى سيارة، وهكذا أيضاً حينما يزينها بأمور تخفي العيوب، ثم يظهر له ذلك بعد حين، كل ذلك خلاف الأمانة.
وقل مثل ذلك في الزواج، حينما يخفي الزوج بعض الأمور المؤثرة في النكاح، كمرض، أو أمور تحتاج المرأة إلى معرفتها، كأن تكون عنده زوجة أخرى، ويقول: إنه لم يتزوج ويخفي ذلك، أو يكون قد طلق أو ماتت امرأته، ثم بعد ذلك يخفي أنه قد تزوج ولديه أولاد، ثم إذا قبلت به بقيت أمام الأمر الواقع، فتبغضه غالباً، وهكذا إذا كان يعلم عيباً كأن يعلم مثلاً أنه لا ينجب، وهذا مما يسأل عنه الناس كثيرًا، يعلم أنه لا ينجب، ثم يتقدم لخطبة امرأة، يقول: هل أعلمها بذلك؟ نقول: نعم أعلمها بهذا؛ لأن هذه المرأة تعد الأيام والساعات والليالي حينما لا تحمل، فإنها تعيش قلقة قلقاً يلازمها لا يفارقها ثم بعد ذلك تبدأ البحث عن سبب ذلك، فتجري لنفسها شيئاً من التحليلات، ونحو ذلك، ولو علمت أن هذا الزوج يعلم أنه لا ينجب منذ البداية لأبغضته غاية البغض، فلا داعيَ لجعل هذه الأمور مفاجآت يلقاها الناس، ويكابدونها بعد فوات الأوان، وكذلك المرأة، أحياناً تكون فيها بعض العلل المستديمة، أمراض تحتاج إلى علاج مستمر طيلة الحياة، وقد تؤثر على حياتها الزوجية، والزوج ينظر بحذر إلى الأدوية التي تتعاطاها زوجته، وما هذا الدواء الذي يتكرر؟ ما هو هذا المرض الذي يحتاج إلى هذا الدواء؟ ثم بعد ذلك يبدأ يتساءل لماذا لم أُخبَر بهذه الأدواء من قبل؟ لماذا أخفيتِ عليّ؟ كان أمامي خيارات متعددة، وكان يمكن أن أترك هذه المرأة، وأتزوج فلانة أو فلانة ممن كنت أتردد في نكاحها، فمثل هذه الأشياء يرى البعض أن من العقل ومن الحكمة أن لا يخبر بها، لكنه من نقص العقل؛ لأنه ليس من الحكمة وليس من العقل أن تجعل مشكلة قابلة للإثارة في أي لحظة، إنما المسألة مسألة وقت، وكثير من الناس إنما يحقد أو يبغض الطرف الآخر من الزوجين إذا اكتشف مثل هذه الأمور، أنه قد دلس عليه فيها، فأقول: هذا كله من الأمانات، فينبغي للإنسان أن يحذر وأن يتقي الله -تبارك وتعالى، وأن يكون صادقاً في أموره كلها.
كذلك الوفاء بالوعد من الأمانة، الذي يغتاب الناس وينقل قالة السوء، ويكون نماماً هذا يكون قد خالف مقتضى الأمانة، فإن مقتضى الأمانة هي حفظ أعراض المسلمين، وإذا رأى عيباً ستره لا أن يفضحه، وهكذا أيضاً أيها الأحبة حينما ينقل الإنسان كلاماً من كلام أهل العلم، يقول: قال فلان، هذه أمانة، حينما يُسأل، أحياناً يُسأل ويوضح نصف الحقيقة، حينما يعرض المشكلة كثير من الناس يعرض مشكلته مع امرأته ويعرض النصف الذي يناسبه، وبقي نصف آخر، ولو أنك استمعت إلى الطرف الآخر لقلت: ما أحلم الله ، إذا سمعت من هذا الطرف قلت: سبحان الله!، كيف يصبر هذا الرجل هذا الصبر العظيم على هذه المرأة؟!، وإذا سمعت من المرأة قلت: سبحان الله! هل يوجد في البشر من يمشي على الأرض بهذه الأخلاق من الرجال؟!، أعوذ بالله، فكثير من الناس يعرض شطر القضية فقط، ويترك الحقائق المهمة المؤثرة التي يريدها، إذا أراد أن يستفتي يورد المسألة بطريقة غير واضحة، يترك أشياء مهمة مؤثرة في الفتوى والحكم، فهذا لا يغني عنه شيئاً والفتوى هذه لا تحلل هذا الأمر، ولا تَبرأ ذمتُه بذلك.
وقل مثل ذلك في كل شيء نزاوله ونعمله في هذه الحياة، هو من الأمانات، الأولاد وتربيتهم أمانة، الذي يتركهم يتربون في الشارع أو أمام الشاشة، أو أمام الإنترنت هذا يكون قد ضيع الأمانة، كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته[2]، والذي يترك امرأته تذهب إلى الأسواق تكون عرضة لكل آسر وكاسر يكون قد ضيع الأمانة، الذي يترك زوجته تلبس ما شاءت لاسيما إذا أرادت أن تذهب إلى الأفراح لا يدري ما تحت العباءة يكون قد ضيع الأمانة، الذي يترك بناته يلبسن ما شئن ضيع الأمانة، المرأة التي تخرج متبرجة في المطارات وفي الأسواق وفي الأماكن العامة في نقاب يأسر القلوب هذا رجل مضيع للأمانة، أين الرجولة؟، أين الفحولة؟، أين الكرامة؟، أين الغيرة على الأعراض والمحارم؟، إلى غير ذلك من أمور كثيرة يحتاج الناس إلى التبصر فيها، والنظر في حالهم وتقصيرهم.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، أول كتاب الأدب، باب في نَقلِ الحديث، (7/ 232)، رقم: (4868)، وأخرجه أحمد في مسنده، (23/ 45)، رقم: (14693)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2230).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، (5/ 2)، رقم (893)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، (3/ 1459)، (1829).