الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زلنا في حديث أبي خبيب عبد الله بن الزبير -ا، وذلك في قضاء دين أبيه، وكان آخر ما وقفنا عليه هو أن ابن الزبير دعا مَن له دين على أبيه أن يوافيه في الغابة، وأنه قد أعطى عبد الله بن جعفر وقال له: لك من هاهنا إلى هاهنا، وذكرنا ما حصل لعبد الله بن جعفر لما حفر بئرًا، وصلى في مكان فظهرت عين فوّارة، فالحاصل أن ابن الزبير باع منها، فقضى عنه الدين، أي: أنه أعطى عبد الله بن جعفر قطعة من الأرض، وباع جزءًا من الأرض، وقضى الدين عن أبيه، وأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، وقلنا: إن السهم يقدر بمائة ألف، فقدِم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان بن عفان، والمنذر بن الزبير -وهو أخو عبد الله بن الزبير، وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم بمائة ألف، أي: أنه قسمها على ستة عشر سهماً، قال: كم بقي منها؟، قال: أربع أسهم ونصف، فقال المنذر بن الزبير: قد أخذتُ منها سهماً بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت سهماً بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي منها؟ قال: سهم ونصف، قال: قد أخذته بخمسين ومائة ألف، قال وباع عبد الله بن جعفر نصيبه لمعاوية، هو قُدر له بالدين الذي كان له -أربعمائة ألف، فباعه بستمائة ألف، ربح فيه مائتي ألف، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه، قال بنو الزبير -وقلنا: إنهم يقاربون العشرة، وتوفي عن أربع زوجات: اقسم بيننا ميراثنا، قال: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم، أي: بالحج، أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، ينادي بالموسم، ولعله أقنعهم بذلك، فقبلوا ورضوا، وإلا فإن الأصل أن من مات فإنه يوفى الدين الذي عليه من التركة، الدين المعلوم، وأما الدين الموهوم فلا ينتظر هذه المدة إلا برضى الورثة، وإلا فإن هذا ليس له حد محدود، يتعطل هؤلاء وهم أصحاب حق، ومال الميراث ينتقل إليهم تلقائياً، فلا يؤخرون مثل هذه المدة إلا برضاهم، فهم أصحاب حق، ولا يُترك حقهم أو يؤخر لشيء متوهم قد يوجد وقد لا يوجد.
فالحاصل أن الزبير يبدو -والله أعلم- أنه أعلمَ عبد الله عن أصحاب الديون مثل عبد الله بن جعفر فأعطاه، لكن كان يتخوف أن هناك آخرين لهم حق قد نُسي أو لم يتفطن له أو نحو ذلك، فالحاصل أنه قال: سينادي بالموسم أربع سنين، لربما يكون ذلك بسبب أن الأمصار المشهورة -كما يقول بعض أهل العلم- هي أربع اليمن ومصر والشام والعراق، وأن الناس عادة لا يتأخرون عن القدوم إلى الحج مثل هذه المدة، فالذين لا يقدمون هذه السنة يقدمون في التي بعدها أو التي بعدها، ويتسامع الناس بهذا، فجعل كل سنة ينادي في الموسم، وهذا معلوم أنه لا يجب عليه، لا يجب على الإنسان أن يفعل هذا، لكن فعله مبالغة في إبراء ذمة أبيه، وهذا اللائق بالإنسان؛ لأن الديْن ليس بالأمر السهل، والنبي ﷺ كان قبل أن يفتح الله عليه الفتوح كقريظة والنضير وخيبر، كان لا يصلي على أحد عليه دين، فإذا قُدم بين يديه أحد سأل هل عليه دين؟ فإن قيل: نعم، لا يصلي عليه، وقُدم رجل فسأل عنه فقالوا: نعم عليه ديناران، فتأخر النبي ﷺ وقال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة -: هي عليّ يا رسول الله، فصلى عليه، فلقيه من الغد فقال: ما فعل الديناران؟، ثم لقيه من اليوم الآخر وقال: ما فعل الديناران؟، إلى أن وفاها، قال: الآن بردت عليه جلده[1]، فمع أن أبا قتادة قد التزم بها وتكفل بها، ومع ذلك قال النبي ﷺ: الآن بردت عليه جلده، فيدل على أن الذمة بقيت مشغولة بهذا الدين، مع كونه دين يسير، فكيف بالدين الكثير؟ فإن من أعظم البر للأب أن يوفى دينه، وإن كان قد ترك مالاً فإنه يجب على الورثة أن يقضوا هذه الديون وأن يدفعوها من الميراث قبل قسمه.
فالحاصل أنه جعل كل سنة ينادي في الموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم ودفع الثلث، كما قلنا: إن الزبير أوصى بالثلث، وأن يكون ثلث الثلث لأولاد عبد الله بن الزبير، يقول: وكان للزبير أربع نسوة يعني اللاتي توفي عنهن، كلُّ امرأة ألفُ ألفٍ ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف، ومائتا ألف، خمسون ألف ألف أي خمسون مليونًا، ومائتا ألف، فإذا كان الزوجات الأربع لهن الثمن لحصلت كل امرأة على ألف ألف، يعني مليونًا ومائتي ألف، فيكون المجموع أربعة ملايين وثمانمائة ألف، هذا الثمن، فإذا كان هذا الثمن فكم يكون مجموع المال الذي هذا ثمنه؟ لربما يصل إلى الأربعين، أي: إذا كان كل واحدة وصلها أربعة ملايين فمعنى ذلك أن مجموع المال يصل إلى اثنين وثلاثين مليونًا، فإذا كان كل واحدة مائتي ألف، فكم يكون؟، أربعة ملايين وثمانمائة ألف مِن التي تمثل الثمن، إذًا يصل المجموع إلى قريب من أربعين مليونًا، وهنا يقول: فجميع ماله خمسون ألف ألف، فإذا أضفت إليها الثلث وهو يزيد على ستة عشر مليونًا، هو أوصى بالثلث وهو يقارب السبعة عشر مليوناً، فإذا أضفتها إليها، إلى الثمان والثلاثين، وأضفت عليها سبعة عشر تقريباً، كم يبلغ؟، خمسة وخمسين، يقول: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف، ويمكن أن يكون هذا الرقم الذي ذكره البخاري -رحمه الله- قبل أن تثمَّر، يعني في الأربع السنين نمت، يعني حينما مات كانت خمسين ألف ألف، ومائتي ألف، فنمت، قد يكون مال كل زوجة أربعة ملايين، ومجموع المال اثنان وثلاثون مليونًا، أضف إليها ستة عشر الذي هو الثلث صار ثمانية وأربعين مليونًا، والدين الذي عليه مليونان ومائتا ألف، صار خمسين مليونًا ومائتي ألف، يقول: فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف، فهذه المائتان التي زادت على نصيب كل زوجة تكون مما ثمّر في فترة الأربع السنوات، ربما يكون هكذا فزاد وإلا فأصله أقل من هذا، والله تعالى أعلم.
وهذا آخر حديث في باب الأمر بأداء الأمانة، نأخذ من هذا الحديث قضية أساسية هي التي من أجلها سيق: أن الديون والأموال التي نأخذها من الناس والقروض والودائع أيضاً كل ذلك من الأمانات، فيجب أن يعيدها الإنسان إليهم، والله يقول: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]، قليلاً كان ذلك أو كثيراً، لو استعار الإنسان من أحد قلماً ثم ذهب هذا الإنسان فإنه يحتفظ به حتى يدفعه إليه، فإن لم يعرفه فإنه يتصدق به عنه، ولو وجده فيما بعد يخيره أن يمضي هذه الصدقة أو أن يعطيه القيمة، فالمسألة ليست شيئاً سهلاً؛ لأن هذا سيجد غبه في آخرته.
فينبغي للإنسان أن يحرص أن يبرد مضاجعه، ولا يلحقه تبعة عن الله -تبارك وتعالى، وأموال الناس وحقوقهم الأصل فيها المشاحة، وحقوق الله الأصل فيها المسامحة، ولهذا جاء في الشهيد أنه: يغفر له كل شيء إلا الدين[2]، فحقوق الناس لا تمحوها الحسنات، مهما كان الإنسان صواماً قواماً عابداً، فتبقى حقوقهم يطالبون بها، فإن لم يتحلل في الدنيا فإنهم يأخذون من الحسنات يوم لا درهم ولا دينار، الآخرة ليس فيها أموال، وإنما الحسنات والسيئات فيعطون من حسناته، فإذا فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم وطرحت عليه -نسأل الله العافية- ثم طرح في النار، فنسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، فإن النفوس قد جبلت على الشح كما قال الله -تبارك وتعالى: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] وكثير من الناس يسهل عليه أن يأخذ المال، ولكن يصعب عليه غاية الصعوبة أن يدفع؛ ولهذا فإن من طرق أخذ أموال الناس التي ابتكرتها عقول متخصصة، وبعد دراسات نفسية هي إخراج هذه البطاقات التي تخرجها البنوك، حينما يخرجها الإنسان ويصرف ويأخذ ويسحب، ولا يجد لذلك مشقة، لكن لو دفع الدراهم مباشرة ليشق عليه، ولذلك تركبهم الديون، حتى لو بقي الإنسان طول عمره يسدد لن يستطيع الوفاء، وكذلك أيضاً من الناس من يقول: أنا استطيع أن أكتب شيكات، ولكني لا أستطيع أن أدفع دراهم -نسأل الله العافية؛ لتمكن حب المال في قلبه، لا يتحمل أن يدفع للناس المال مباشرة، وهي حقوق ثابته لهم، ويصرح بأنه لا يستطيع، وأن نفسه لا تطيق ذلك، فهذه القضايا يحتاج الإنسان أن يتجرد منها، والزهد الحقيقي ليس معناه أن يترك الإنسان ما أُحل له من الطعام واللباس والطيب، لكن الزهد الحقيقي أن تكون الدنيا بأيدينا، لا في قلوبنا، فقد يلبس الإنسان الخشن من الثياب، ويأكل أردأ أنواع الطعام ويسكن في خيمة، ولكن لا يخرج الريال من يده، إلا وقد خرجت قطعة من قلبه، فهذا ليس زاهدًا، فالذي يذهب قلبه ويجيء مع هذه الدراهم إذا خرجت وجاءت هذا في الواقع من أكثر الناس شحاً وطمعاً وحرصاً على الدنيا، حتى لو كان متقللًا غاية التقلل منها.
ولهذا نقول: إن هذه الأمور يحتاج الإنسان أن يلتفت فيها إلى نفسه، وأن يراعيها، وأن ينظر في حاله مع الناس، ولا يتساهل في الديون، والناس قد أغرقتهم الديون؛ لأنهم يجاري بعضهم بعضًا، وما يوجد لهم من تسهيلات، لكنهم لا يفكرون في العواقب، يريد أن يركب مثلما يركب الناس، ويسكن مثلما يسكن الناس، ويكون عنده من الأثاث كالذي عند الآخرين، وكل ذلك بالديون، وهذا من ضعف العقل، وأضعف منه عقلاً وأسوأ منه حالاً ذاك الذي يقترض من أجل أن يتاجر، ولولا أن هذا قد تواتر وسمعنا به كثيراً لمَا صدقنا أن أحداً يفعله، ولا أتصور أن أحداً يقترض مالًا من أجل أن يذهب ويساهم ويتّجر فيه -نسأل الله العافية، والغني هو الذي ليس عليه ديون، ولا يطالبه أحد.
فينبغي للإنسان أن يتوسع وأن يلبس ويأكل ويسكن ويركب بقدر الذي عنده، ولا ينظر إلى الآخرين، فالإنسان -مثلا- إذا أراد أن يتزوج لا يفعل ما يفعله الناس، وراتبه محدود، هذا غير صحيح، ومجاراة الناس لا تنفع، وإذا أصر أهل البنت على هذه الأمور فإنه يتركهم وسيجد أناسًا يبحثون عن رجل صالح تقي يخاف الله ، وهم يعينونه، لا يريدون منه مهراً، ونعرف من زوج مَوْليته بألف، ونعرف من زوجها بثمانية ريالات، ونعرف من زوجها بريال، يريدون الإنسان الذي يخاف الله في هذه البنت، فمجاراة الناس والنظر إليهم، وما يركب الإنسان من جراء ذلك من أنواع الديون أمر خلاف العقل، فينبغي للإنسان أن ينظر في حاله وعمله وما أشبه ذلك، ويتقي الله ، وإياك ثم إياك أن تأخذ أموال الناس ثم تتاجر فيها فتضيعها، فيكون ذلك سبباً لملامتك ومذمتك، وذهاب دينك، ومروءتك، والرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف، وليس بالإنسان حاجة إلى مثل هذا، اتّجر بمالك ولا تأخذ من أحد شيئًا، فإن وفقك الله فبها ونعمت، وإن خسرت فإنما تخسر من مالك، ثم إن الإنسان الذي يتصرف بأموال الناس فإنه عادة يتوسع فيها؛ لأنه لم يتعب في تحصيلها، ولذلك من أراد أن يعطي ماله لشخصٍ ما أن يتّجر فيه، ينبغي أن يدفع ماله -إن كان ولابد- لمن قد دفع مالاً، لا تعطِ إنساناً، وتقول له: عليك العمل وهذا المال، فإنه سيعبث به، إلا من رحم الله ، لأنه لم يتعب في هذا المال، ويظنك تحثو حثواً بلا كيل ولا ميزان، وما علم أن هذا المال لربما جمع من رواتب وتوفير نفقات ضرورية، ولربما أموال أيتام وأرامل وفقراء ومساكين وما أشبه ذلك، وهو يظن أن هذه الأموال حُثيت حثواً من كثيب أهْيَل، ولذلك يتصرف فيها بغاية التوسع، ويتلفها.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يحفظنا بحفظه، ويتولانا برعايته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أحمد، (22/ 406)، رقم: (14536)، وحسنه الألباني في الإرواء، رقم: (1416).
- أخرجه البخاري، كتاب الإمارة، باب: من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (3 /1502)، رقم: (1886).